فكر

شهر رمضان وسيلة وغاية للانغماس الديني

أ. د. هدى مصطفى محمد
أستاذ المناهج وطرق التدريس
كلية التربية – جامعة سوهاج
لعلنا نتفق أن التربية الدينية تمثل الهدف الأسمى لتربية الأبناء في جميع الأسر، ولعل من الأمور التي لا نختلف عليها أن الممارسات الدينية هي الوسيلة الأفضل لدعم هذه التربية وجعلها جزءاً من المكون الأساسي للشخصية.
ولعلنا نتفق أيضاً أن إتباع أسلوب التلقين في التربية الدينية أثمر لنا أشخاصاً يحفظون النصوص الدينية دون وعي بها أو قدرة على تطبيقها، فلا نتعجب إذا ما وجدنا في أكثر الأفراد حفاظاً على المظاهر الدينية سلوكيات غير دينية فنجده ينطق سماً وينظر حقداً وينشر فرقة بين الناس . ويمكن القول إن معايشة الطقوس الدينية وممارستها أو ما يمكن أن نطلق عليها الانغماس الديني هو الوسيلة الأنجع للتربية الدينية بشكل صحيح والانغماس يركن إلى ركيزتين أساسيتين أولهما: الممارسة للأعمال الدينية وثانيهما : الفترة الزمنية التي يقضيها الفرد في هذه الممارسة.
والانغماس الديني يمكن أن يتحقق من خلال بيئتين أحدهما طبيعية وهي التي يتم فيها الممارسات بشكل يومي وبصورة تلقائية والأخرى افتراضية أو اصطناعية وهي التي يخطط لها المحيطون للاقتراب من البيئة الطبيعية أو الشبيهة بها.
والانغماس الديني يحقق عدة أهداف منها: ربط الفرد بالممارسات الدينية ، وفهم مؤداها ، وزيادة تعلقه بالدين والمناسك الدينية، مع الاستمتاع بهذه الممارسات.
ويعد شهر رمضان من الفرص التي يجب علىالأسر اقتناصها لتحقيق هذا الانغماس واعتباره أهم وسائل التربية الدينية وزرع الأخلاقيات بشكل طبيعي غير مصطنع.فاليوم الرمضاني يختلف عن غيره من الأيام فهو يوم مملوء بالطقوس الدينية وهذه طقوس قد لا تتوافر في غيره من الأيام، بدءاً من الوجبات التي تتناولها الأسرة في أجواء تختلف عن غيرها من الوجبات .
فاليوم الرمضاني يضم وجبتين رئيسيتين الفطور و السحور ، والسحورهو الوجبة التي من خلالها تستعد الأسرة ليوم من الصيام والغالب على هذه الوجبة أنها تشتمل على أطعمة تساعد الجسم على أن يتم صيامه وتبحث الأسرة عن نوعية الطعام التي تحقق الشبع مع عدم سرعة الهضم؛ فتبحث عن خضروات وفواكه تحتوي على كثير من الماء الذي تأمل ألا ينتهي طيلة يوم الحرمان من الماء في الصيام.
وفي هذه الاختيارات غير العشوائية دروس كثيرة فالطفل يرى في أسرته ويستخلص أن اليوم الواحد من الصيام يحتاج من التفكير والتأمل والاختزان بما يجعلنا لا نشعر بالجوع والعطش. ولعل ذلك يكون هو أول الدروس في أن الصيام يحتاج لإعداد ماديفالجسم قد ينهار بدون هذا التخزين غير العشوائي. وفي ذلك درس كبير وتنبيه إلى ضرورة الانتقاء لما نحتاج إليه في مستقبل أيامنا في الحياة وما بعد الحياة فإذا كنا ننتقي ونختار أطعمة لسد يوم واحد. أليس الأجدر بنا أن نختار ونحسن الاختيار لحياتنا بأكملها ولما بعد الحياة. وهل يكتفي الإنسان بالحاجات المادية فقط؟ وما الذي يحتاجه فيما بعد هذه الحياة؟ وهذا درس يجب أن تعيشه الأسرة وتؤكد عليه في نفوس أبنائها .
ثم يأتي دور الوجبة الثانية الفطور الذي يمثل الفرحة للصائم كما قال رسولنا الكريم للصائم فرحتان فرحة عند الفطور فهذا جزاء الصائم الذي يناله في الدنيا.وتجد الأم وتجتهد لإعداد الأطعمة المحببة لأبنائها في رمضان ، وتكون بمثابة المكافأة لكل صائم فهذا ما يحبه الابن وهذا ما تحبه الابنة وهذا ما يفضله الزوج على مائدة الفطور. فإذا كانت الأم تسعى لإثابة أبنائها بعد الصيام بجميل المكافأة أو بما يحب الصائم . فماذا يعد لنا الله الذي هو أرحم من الأم على وليدها جزاءً لهذا الصيام؟ فيجب أن ننبه الأبناء إلى هذا الدرس لأن هذا النوع أو هذا الصنف من الطعام الذي كان جائزة على صيامه من أمه في حدود إمكاناتها البشرية و حدود إمكاناتها المادية. فماذا يعد الله سبحانه وتعالى في عالم غير محدود ولا محدد بهذه الإمكانات وهو الأرحم على خلقه من رحمة الأم بوليدها.
وتفضل معظم الأسر التجمعات العائلية في وجبة الإفطار.وفي ذلك ممارسة وانغماس في أخلاق وقيمعدة منها : التسامح و التهادي والتواد بين الأقارب والجيران وصلة الأرحام ، كما أن هناك ظاهرة أخرى مرتبطة في وجبة الإفطار وهي محاولة التصارع القوي في إفطار الصائم ولو بالقليل او أقل القليل فهذه أسرة تعد من العصائر ما تقدمه في مسجد، أو طريق يتسابقون للحصول على أجر إفطار الصائم؛ و إتقاء النار ولو بشق تمرة ، وهذا خلق آخر بأن الثواب والأجر لا يأتي للكسول الخامل بل يجب أن يتحرك ويتسابق ويرى بنفسه على الطريق من يوقف السيارة لتقديم بعض التمرات أو كوباً من العصير ، وصاحب السيارة يأخذ ويظهر فرحته وقد يحمل أكثر من ذلك لكن هو التشجيع وجبر الخاطر والدعوات الصالحات للاستمرار في العطاء، وكثير من الدروس التي نراها على وجبة الفطور ولعل من أهم هذه الدروس أنه بقليل بل و أقل من القليل يسد الصائم جوعه ، فهذه الأمتعد وتتفنن في الإعداد ويأتي وقت الفطور ويتناول الابن أو الابنة كوباً من عصير وبعد التمرات وقليل من اللقيمات قد أشبعت البطون التي صامت ليوم كامل، وفي هذا درس عميق أن احتياج الجسم بسيط؛ فيجب الاقتصاد فيما نقدم وفيما نعد في هذه الموائد الرمضانية فلا يستطيع بطن الإنسان أن يتحمل أكثر من طاقته.وفي هذا درس عميق أنك لا تستطيع أن تتناول كل ما تشتهيه وأن الشهوة أكثر بكثير من الاحتياج.أما ما يسد الاحتياجات فقليل قليل ولهذا علينا أن نوجه الأبناء إلى عدم الخضوع للشهوات، جسمية كانت أو نفسية .
وفي رمضان يزيد الالتزام في إقامة الصلوات ولاسيما في المساجد ، فيحرص الكثيرون على أداء صلاة التراويح والمغرب والفجر وهي الصلوات قد لا نحافظ على أدائها في المساجد طوال العام.وفي هذا درس كبير للأبناء بأن هذا الاعتياد للمساجد شيء جميل، وهو مفضل ولذلك نمارسه في هذا الشهر الجميل والمفضل .
وهناك كثير من الطقوس الرمضانية الجميلة التي تجعل الأبناء ينشغلون ليل نهار في أمور دينية وأخلاقيةفتبادل الزيارات بين الأقارب تزداد والسؤال على الجيران والمعارف تزداد وفي هذا غرس لخلق صلة الأرحام في نفوس أبنائنا.
أضف إلى أن اليوم الديني الرمضاني مملوء بالأخلاقيات والسلوكيات الدينية التي تحرص كل الأسر على ممارستها لتكون بذلك قدوة للأبناء وفرصة للتعليم بدون وعظ وإرشاد فتنتقل هذه الأخلاقيات من جيل إلى جيل بالمعايشة والممارسة. وهذا هو المطلوب وهو أن يتم التعلم من خلال الانغماس فعلى سبيل المثال: المسجد وأخلاقياتهفمهما بذلت اٍلأسرةفي تعليمها للأبناء لا يتعلمها بالقدر الذي يتعلمه عند ارتياد المساجد من محافظة على المسجد ،التزام بالصف ، التزام بإتباع الإمام كل هذه الأمور المرتبطة بأداء الصلاة في المساجد يكتسبها الطفل بالممارسة اليومية والتي قد لا تتوافر في الأيام العادية فقد لا يصطحب الأب ابنه إلى المسجد إلا يوم الجمعة وهكذا كل الطقوس والممارسات.
فها هو رمضان شهر كامل . ثلاثون يوماً نجعله فرصة لغمر أبنائنا وانغماسهم الديني فيجب استثمار هذا الشهر في خلق الأجواء المفعمة بالطاعات والأخلاقيات الإسلامية بما يؤثر على أخلاقيات الأبناء بشكل كبير ومباشر بلا تعب ولا عناء في الوعظ والتوجيه والخطابة . فيكفي أن يرى الطفل أسرته وهي منغمسة فيطقوس دينية؛هذا يصلي، وهذا يقرأ القرآن، وهذا يتابع ما حفظ، والجميع يتسارع في التعاون والطاعات وهنا يجب التنبيه إلى أن تحاول الأسرة أن تعيش هذه الأجواء بشكل واضح وكبير مع الأبناء وأن تحذر ثم تحذر من الأعداء التي تترصد بالأسر والأبناء من تلفزيون ووسائل تواصل تحاولغمر حياة أبنائنابالمخالفات الدينية في شهر ديني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى