الخروج من الجنة

 

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

كان يعيش متنعماً بحياته، سعيداً بما وهبه الله من صور الرغد الذي يراه لا متناهياً، متقلباً في عطاء الله الذي لا ينقطع، شاكراً لأنعمه ممتناً لخالقه أن اجتباه وخصّه بهذا النعيم المقيم. ولأن الحياة لا تدوم على حال واحد؛ فقد انقلب حاله ليخرج من الجنة دون سابق إنذار! ويُغلَق بابها في وجهه وهو ضائع الحيلة، وباءت محاولات العودة إليها بفشل تلو فشل، فلا هو عرف سبب الخروج منها ولا عرف موانع العودة إليها.

وأملى عليه الزمن عاماً بأكمله، سادراً في أوهام العلل بما توفر لديه من تكهنات القوم، متحسراً على ما فات، آملاً فيما هو آت، وإنه لا يدري أشر أُريد به، أم أراد الله له أمراً آخر؟! ولم يجد في نفسه إلا ذلك اليقين بأن إرادة عليا تخفي له شيئاً يتوارى خلف أبعاد الواقع.

ولقد عاش في عزلة نفسية.. كلما لاح له أمل من بعيد كان كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.. ولم يجد نفسه إلا كمن سقط كما يسقط الحجر الأصم، أو كمن ينتكس من أوج الجبل إلى سفحه انتكاساً يقربه من الجماد المرغم على السير في طريق بعينها لا يملك لنفسه شيئاً. ولكن الحواجز العازلة التي بناها بينه وبين يأسه كانت تصونه من شعور الاكتئاب. 

ولا يدري صاحبي أن الجنة قريبة منه، تكمن بين أحنائه، بل هي أقرب إليه مما يتخيل؛ إنها في نفسه.. بل هي نفسه حين ترضى عن حالها وتقنع بمآلها. وقد يستلزم الأمر قليلاً من التأمل الوجداني ليرى صاحبي جنته تتجلى استئناساً ووداعة. إنها تلازمه أينما حل وحيثما ارتحل. ولا تفارقه إلا يوم يكون غير راض عن حاله؛ فتتمنع على النظر وتستعصي على الإدراك، وإذا ما حاول رؤيتها تحجبت وأسدلت حول نفسها قناعاً صفيقاً لا ينفذ منه شعاع بصر. 

وجدير بمن أراد أن يدرك جنته أن يتشبث بالرضا النفسي بما ساقه القَدَر له بوجدان مؤمن واثق، ويقين قوي راسخ، وسيرى ساعتها خطواته على معارج الطريق الذي يقوده إلى جنته، بعد أن تنجاب عن أفق نفسه سحائب اليأس وتنكشف عنها ظلال القلق والحيرة.

لا تيأس يا صاحبي فثم سبيل لإدراك جنتك، انظر إليها بعين الرضا تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها المتألق، لا تسدل من دونه البراقع والستور؛ فهي إذا كانت تتأبى على الحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها على شعور النقمة الذي يتسرب إلى نفس الناقم، وتبدي نفسها لكل راض من الناس. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى