قصة: وشم جرح
عماد الدين التونسي | تونس
عائدة هي معلمة السنة السادسة في مدرستنا . وهي طويلة، سمراء، مجعدة الشعر، على وجهها آثار جدري الماء، تبدو أكبر من سنها، قويّة، لا تخلو من جاذبية، تشبه الظباء والمها في جمال العيون، فوجئ الصبي الضّلّيل بظبية البان الشامخة مثل الرمح الكعوب، ترسل في أثره، في الفرصة، وهي الاستراحة بين حصتين، الأمر الذي أثار ريبة الزملاء وحسدهم أيضا.
دخل خَجِلا، بميداعته الزرقاء الفاتحة اللون، قالت له بعد أن نظرت إليه مليا: سأكشف لك أسئلة الإمتحان، أريدك أن تُحرز العدد الكامل، هذه المرة، أنت أولى بالتفوق من زملائك المتفوقين. هذا غش عظيم تقوم به معلمة لتلاميذها بإيثار أحدهم، وتسريب أسئلة الامتحان له! هذه خيانة لمبادئ العلم والتربية. الغش يخفي رسالة كبيرة، لا يفهمها. صُعق، وذُهل بعد أن دلّته على الأسئلة حتى يراجعها. خرج، كان زملاؤه بانتظاره، هرب منهم بزعم المراجعة والتحضير لها قبل ساعة من موعدها، إستغرب الزملاء سلوكه، في اليوم التالي أرسلت مرة أخرى تطلبه، وقالت مؤنبّة: خذلتني، لم تحرزالعدد الكامل، أنظر هذه هي ورقتك، لماذا؟
وقف صامتا، مذنبا، نزلت دموع على خده، غش وسوء كيلة، إنه مديون ومدان. سكتت، قالت وهي تمسح شعره: قل لي ما السبب؟ مرضت الآنسة عائدة بعد أيام، وغابت عن المدرسة، فعزم رهط من التلاميذ المتفوقين، أو من يحسبون أنفسهم كذلك، على زيارتها، إشتروا بعض الفاكهة، بعد أن جمعوا لها من مليماتهم، سألوا عن عنوانها أحد التلاميذ من جيرانها. زاروها بعد نهاية الدرس، فتحت الباب، وعلى وجهها آثار الشحوب والسقم، وعادت إلى فراشها وهي تقول تفضلوا، فلحقوا بها، إستلقت ونظرت إليهم، وكان أول ما قالته موجهة كلامها إلى الصبي الضّلّيل كأنه قائد الفريق: أنا عاتبة عليك. تأخرت علي، أهذا هو الود؟ أين وفاء الصداقة؟ حُشِر الصبي في زاوية، وبان عليه الحرج مرتين، مرة منها، ومرة من زملائه.
تداركتْ الموقف ورحبت بالتلاميذ، طلبت منهم الجلوس على طرف السرير، فليس في الغرفة الضيقة المرتبة أكثر من كرسيين، عاتبتهم جميعا هذه المرة، ووصفتهم بالأصدقاء. أسبوع وأنا مريضة، ولم تتذكروني إلا الآن؟ جلسوا قليلا صامتين، فهي المرة الأولى التي يقومون فيها بواجب إجتماعي كبير، طمأنتهم على صحتها، وقالت إنها ستعود قريبا، للمعلمة رهبة وهيبة، خرجوا مثل رجال كبار خسروا معركة كبيرة، وعادوا يجرون جروحهم وهزيمتهم. لم يتحدث الصبي الضّلّيل في طريق الطريق. أسكره عتاب المعلمة السمراء، وغرق في جدري الماء المعدي، وجرى بعيدا مع المها والظباء في البراري الشاسعة. نادته المعلمة في الصف في الفرصة، كانت حزينة، وكانت تقرأ رسالة، قالت له: أتعرف ممن هذه الرسالة؟ هزَّ رأسه نافيا. قالت له: هذه رسالة من خطيبي، أرسلَ إليَّ يفكُّ خطبته مني. قال لها بعينيه إنه لم يكن يعرف أنها مخطوبة، ولو علم لكان له شأن آخر، لغضب، لغار، لكان أكثر أدبا معها مثلا، لودَّ أن يرى صورة خطيب معلمته، لرفض الخطبة، لأرسل له رسالة يشتمه فيها. رسائله لا تصل. خلعت خاتم الخطبة وقالت: هذا أحسن لي أيضا، لقد أحسست ببعض الألم، لكن هذا أفضل، لم يكن خطيبي يعجبني أيضا. وسألت: ما رأيك؟ وقف حائرا، فهذا موقف كبير لا قِبَل له به، وعجمته وخجله يعطلان لسانه ويحبسانه عن الكلام. قالت: لا أريد أن أحتفظ بهذا الخاتم منه، قال في الرسالة: إنه يرفض إسترداده. ذُعِر وبُوغت: خاتم خطبة، ولي؟ هذه إمارة لا قِبَل لي بها. قالت: أعرفه، لن يطالب به، لن يجرؤ على مواجهتي. قال: قد يرسل أمه مثلا. قالت: لن تجرؤ أمه أيضا. قالت: خذه. جمع مهارته اللغوية بالعربية، فقال لها مثل الكبار أن تنتفع بثمنه. قالت: حكيم.. هناك أمور أغلى من المال، لا أستطيع أن أنتفع بمرارتي وذكرياتي وعواطفي التي أهدرتها على مَن لا يستحق. نظرت إليه نظرة طويلة وقالت: أنت دائما تخذلني، تخفي عني مشاعرك. مسحت على رأسه، وقالت: لا ينفع معك الغش، وتتأخر في عيادتي، ولا تقول لي شيئا، وخطيبي يتخلى عني، حتى الآن لا أفهم خذلانك لي في الإمتحان، جعلني أحسّ بالمرارة. أريد أن تكون الأول في القسم. وكادت أن تقول له: أريد أن تكبر الآن وفورا. أو هكذا خطر له. قال متهربا: إنتظريني سأحضر لك هدية، غاب مسافة الدار، وعاد بعد ساعة ومعه عصفور في قفص، فنظرت إليه باسمة، وفي عينيها فضول، وقالت: ما هذا العصفور؟
قال: لا أعرف إسمه، طير من طيور البر. إنه هدية لك. قالت: إنه طائر لا يغرد، صموت مثلك. أشكرك، لكني سأحسّ بالحزن عليه. تعال نطلقه، ستكون حريته هدية رائعة بمناسبة فك قيد الخاتم الخطبة غير السعيدة. فتحت باب العصفور فطار. قالت له إنه لا يعرف غسل وجهه، فأثر الماء ينتهي في الوجنتين، فخجل وقال إنه يستيقظ أعمى لا يرى، فيقضي ساعة في غسل عينيه المقفلتين برمص أخضر مثل الصمغ، بالماء الساخن، وبيد واحدة، فاليد الثانية يصبّ بها الماء على يده الأولى، ويكشطهما بأظافره عن رموشه، فيغفل عن باقي وجهه. فيما بعد، أدرك أنّ السبب في القنديل ذي الدخان. قادته إلى الحنفية، وغسلت له وجهه، ثم سرّحت له شعره بمشط يرى مثله أول مرة، مدور، له أسنان شوكية. عبثت بشعره، وخللته بأصابعها الطويلة الأنيقة الناعمة الطرية مثل راحة الحلقوم. لقد علّمته أمرين: غسل الوجه، وتسريح الشعر. فكّر في كتابة رسالة لها ما دام لا يجرؤ على مواجهتها ومصارحتها، رسائله إلى المجلات لا تصل، لكنه واثق من هذه الرسالة، سيوصلها بيده، فكّر في أن يدسّها بين أوراقها، أو أن يرميها من نافذتها. وجد أن بريد النافذة أحسن. جلس في البيت ساعة وقد أضواه الهوى، يفكر في كتابة رسالة قصيرة من نصف صفحة بكلمات واضحة وسهلة، إحتار ماذا يكتب، لو يستعين بكتاب رسائل العشاق، فيها مشاعر كبيرة لا تناسب موقفه، إنه يقدرها كثيرا، بل ويحبها أكثر من أي مخلوق في العالم، سيقول إنه داخ سبع دوخات بعد أن سرّبت له الأسئلة، لم يستطع لمَّ شمل قطيع أفكاره التي شتتها ذئاب الشوق، فقد المحفوظات في رأسه، صُعق من تخصيصه بكل هذه العاطفة والحب، وهذا هو سبب إخفاقه في إحراز العلامة التامة على وجه التحقيق.