فكر

أجساد عصامية

رسالة من سيدة فاضلة بعنوان: أختي الفيمينيست النسوية

بقلم: داليا الحديدي | كاتبة مصرية

هذه الرسالة وصلتني من سيدة فاضلة تقول فيها:
أختي الفيمينيست النسوية:
ربما حباك الله بأبٍ مستنيٍر، داعم، أوأم سيدة صالونبلقب هانم، تلهج بِمُسَانَدَتِك، وأحسبأنه لم يُمارس عليك ضغوط الزواج للتملص من مصروفاتك تحت دعاوي الستر، أو للتخلص من بكٍر يُخشى هَتك عرضها،وغالبًا، فأنت ممن درسن بمدارس أجنبية،رقصت الباليه ودرست السولفاجوخالط العجم،وبت تنْطقين بلسان بنات الأصفر، وربما تخرجت من الجامعاتالدولية، تلكالتي يُنفق على مصروفاتها في “سيمستر واحد” ما لم ينفقه أهلي علىّ وعلى طوائفي من لدن أدم.
سيدتي: أطالع في التلفاز أمثالُك من الإعلاميّات “النسويات”.
للحق، فأنا أجمل منكن خِلقة، لكني أغبطكن على أنقاتكن حين تُرْفُلن بأزياء مُسَوَّمَة بأسماء لا طاقة لي على الإلمام بها، فما بالك بنقد أثمانها، عدا أكلاف التبرج والعطور، فلا وربك لا تُملي عليّ حلًا سِحريًا مِن شَاكِلة “اعملي، اهتمي بنفسك وأنقصي وزنك”.
إننا نكدح سيدتي، لكن دون أجر أو عطلة، ولكم بحثنا عن وظائف بلا جدوى، في بلٍد باتت فيه أشعة البطالة تُرمد الكرامة، عدا أننا بلغنا من العمر مَبلغًا لا نستطيع معه الإنحِراف كالمتهتكات لو شئنا دينارا أوشهرة، أما أمثالكن فقد حظيتن بالمال والثراء، ثم تأتين أنت “كنسوية” لتُصرّين على أننا أدمنّا المَذلّة، فليتك تمنحينَني سَهْمًا من إرثك أو توصين لأمثالي بِقرٍط مَاسيّ، دُملج أوخاتم ذهبيّ مما تُطلين به على الشاشات عوضًا عن نعتنا بالخنوع.
إننا – سيدتي- لا نصبر على الظُلم عن صلابة ولا نرضى بالإهانة عن تَلَذُذ ولم نألف الضرب عن “ماسوشية”، لكننا في مزنٍق خاااااااانق مع عدم وجود بديل.
أطالع أمثالك، مظهركن الثري مُبهر كنجمات هوليوود وإن كنت أنا أجمل كما خلقني ربي بلا مشرط جراج أو فرشة ماشطة.
أعلم بتفاكهك علي أمثالي بالقول :”يا لها من ملحاحة، حمقاء العاطفة لا خير فيها ولا في خلفتهامن السوقة والرعاع”.
كلما راودكن الشيطان لتصفونا بالغُثاء، تذكرنأننا ما إخترنا حياتنا ولا مستوانا، ما إنتخبنا الأهل أو الدين، ما إنتقينا الزيجة أو الختان ولا حتى أسماءنا القديمة التي يستحي منها صغارنا.
لقد إختاروا عنّا وعمّدونا بديانة الخضوع للذكور كي لا نُحيد عن عقيدة الإذعان، فلا داعي للإنتفاخ والوصم بالجهالة، فالقياس خاطئ والمقارنات جارحة، فلا علاقة لنا بالتواجد على تلك الدروب النتنة، فالأميّة تجوب المحروسة، تنزلق من مدنها لتَسْتَقِر في قُراها.
لقد وجدنا أنفسنا بجادة مُظلِمة وسط حفرة على حافة جرف هاو، تتقاطع فيها طرق حرية وعبودية، ولكم وددنا لوشملتنا بشائر الفجر الذى أبى أن تُشرق شمس عِتاقه سوى على المجمعات الراقية، على أن كلفة المبيت بفناء الكرامة أبعد من متناول أحلامنا. لكم وددت لو مُكِّنْت في حياتي مثلك.. لكم تمنيت شهادتك العلميّة.. لكم اشتهيت أن أكون إبنة رجل يَشْغَل منصبًا أوقرينة من له رُتبة.. لكم داعبني فروك، ولكم أسكرني عِطرُك
لقد عشت هيامات المبيت بڤيلتك، فأطلقت صيحتي في خدمك، ركبت سيارتك وتحليّت بمصاغك وودت لو قُدّر لي الشكوى من غلاء السلمون النرويجي!
والحق أني وددت لو كان لي الخِيّرة من أمري.
أتعلمين أن كُلفة ما تصبغين به جُذور شَعرك أو تطلين به أظافرك تَعْدُل مَؤونة عيالي في أسبوع، فأمثالي يَعْجَزْن عن أعباء الزواج فما بالك بتَبِعَات الطلاق على بغضه.
فلتُبلغي عني “رضوى الشربيني” وأمثالها أن يترفقن بضعفنا، بفقرنا، بجهلنا وحنانيكن على سمنتنا يا رشيقات، يا قويّات، يا ثريّات، يا مثقفات.
لقد حالفكن النجاح في إثبات عدم جدارتنا بالحياة الكريمة، كشخص لا ديني وفّق في التشكيكك في صحة عقيدتنا، لكنه فشل في تقديم بديل.
لعنتم الظلام وكان الأَحرى إِيقاد الشموع.
أفدوتنا أن الزواج وجِد ليغتال الكرامة، لكن ما أحييتم الموتى!
شخصتم وما عالجتم!
جئناكم نشكوا البطون، فأخبرتمونا بأننا مبطونين!
أما ولم ولن تَسْخ عقولكن بفكٍر يُساندنا، فلا أقل من منحنا من بواقي تعاطفكن كما تمنحونا من فضلات موائدكن، فحنانيكن على الجزء المعطوب في أرواحنا، فلقد سمعناكن من زوايا مطابخنا، من باقة لم ندفع كلفتها، وكنا نختفي خلف أقداحنا تغسلنا الأوهام آن تنظيف الماعون، فوعينا على خبر إعلانكم لإخفاقاتنا بعد فوات الحياة.
وإن كان لنا عذر فيما نجهل فعجب يمنكن وأنتن ربيبات العلم، فما بالكن مهطعين؟!
..
الرد
أختي الغالية:
رسالتك دفعتني للجهش بالضحك والبكاء لقسوتها، لرقّتها وعلى ركاكتها حتى أني أعدت صياغتها لتكون صالحة للنشر، مع الحفاظ على روح الحقد التي حوتها.
حسنًا، ربما طاب لك صَلب من تعلمين عجزه عن جرحك ولو بشوك الغار.
لقد وضعت على لساني اتهامات لم تطرق ببالي.
لكن، ليتنا عشنا بين أباء معوزين أوأميين، كحال “طه حسين”، فساعتئذ كنا سنهرب مثله من “عزبة الكيلو” بمغاغة، فكل شيء في تلك البيئة من جهٍل، فقٍر، ومرٍض يَشْرُط النَجَاة بحتمية الهروب.
تكالب الذباب على الأطفال، رائحة القذارة في الأكواخ الطينية ونتانة الحارات تفضح الحياة الغير أدمية مما سيحدو بك للفكاك، للخلاص من هذاالمستنقع.
العلاج لدى حلاق الصحة والذي كلف “طه حسين” بصره، هو ذاته سبب إصلاح بصيرته، وإدراكه لحتمية الهرب من أرض الجهل وسلك دروب العلم.
أمّا الإنتماء لعائلات من أنصاف المثقفين – ولو شئت الدقة – من ذوي الجهل الخفيّ، فيوقع في الالتباس، فأبناء الطبقة الوسطى نشأوا في محيط أدعياء العلم، ما جعلهم وثقوا في أهلية الأهل للإتباع، فوقع أغلبنا ضحايا لسطوة ألسنّة الأهل المرصعة بفصوص الخِدَاع.
وكم من شعوب عبدوا البقر لأن الأهل أقنعوهم أن الماشية آلهة وأن السراب كوثَر مبارك، ناهيك عن الترهيب بفزّاعة الجحيم.
أغلبنا مثلك، وإن غرّتك صورتنا المخضّبة بالرفاه، فقد تساوينا في ترهل الأهداف وسنوات الإخفاق، وإن مُنعنا التعاطُف كون ما نبدو عليه خادع، كما أننا لا نجرؤ على كشف عورة فقرنا.
لكن لوشئت الدقّة، فلم يكن لنا الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِنا في زواج، عمل أو خِلقّة.
بل كان علينا إبداء الإجلال للأهل ولوتعسفوا معنا في التربية أو بهتنوا في الميراث.
حتى لو جاروا علينا في الزيجات وإن حيف بنا للدراسة أو للعمل في تخصصات اختاروها نيابة عنّا.
سيدتي:
أيسر على طه حسين – وإن كفيفًا – أن يُبصر جهل والده، أما والأب مُستشارًا، دبلوماسيًا، ضابطًا، جراحًا أو مهندسًا فإن أجهزة الإنذار لدى الأبناء تتعطل كُليًا، فينطبع في ذهنم أن لا نجاة إلا بحَذوِ حِذَاء كُبرائهم وعدم الحياد عن الحظيرة الأهلية!
لذا، فما أندر أن نكون ممن قالوا “لا” في وجه من قالوا “نعم”.
– من له أم أميّة، يوقن أن من الحِكمة عدم الأخذ برأيها في عظائم الأمور، أما والأم مُعلّمة، طبيبة، أو محاسبة، فسترضعه حِكمة لثم اليدين، خفض الجِباه والإنحناء للحياة، فلن يَلتفت لإنصياعها مع القطيع: تأكل، تشرب، تتزوج وتنجب بلا تمحيص لمعاني الحرية أو الكرامة…لذا قد يلتبس عليه الذل مع الصبر والقهر مع الرضى، والخنوع مع الطاعة
..
سيدتي
– للزرائب مناظر وروائح كريهة تُزكم الأنوف وتشي بأن المكان غير خليق للسُكنى، أما والبيوت مطلة على النيل، والسكن بڤيلات معادي السرايات أو شقق الزمالك العتيقة أو بنايات جاردن سيتي الفخمة، فلا يمكن التوقع أنها بيئة غير صالحة لنشأة النجاح.
البكتيريا الخضراء العفنة أو الرائحة النَتِنة تُحذرك من فساد اللبن، أما نحن، فأرضعونا الحليب طويل الأجل والُمعَبأ في علب أنيقة، ملونة ومدعومة بخِتم صلاحية الحكومات، فيستحيل معه تَوَقُع فساد الشراب.
– المرار محفز على القَيْء، أما حلوى “جولدن كوين” التي أغرونا بها من “ماكينتوش” فكانت واعدة.
– الأباء الأميّيون – سيدتي- أفضل من أنصاف المتعلمين، المقتنعين بحتمية سقياك من وردهم، في حين يبحث لك الأميّ عن وِرد آخر تستقي منه المعرفة، عدا أن الوضع الثاني يستدعي هدم الأفكار الخاطئة وإعادة بناء فكر مُستنير، بخلاف الأميّة التي لا تتطلب سوى إرساء أساسات صحيحة.
– حربنا كانت أشد ضراوة، فأبناء المستشارين وثقوا في مشورة أبائهم وراهنوا على”صولد” المناصب فخدعتهم المنازل والرُتب، وإن كنت أنت أجبرت بالأمر المباشر، فأبناء أشباه المثقفين كان عليهم ضغوط أعتى، وإن غير مباشرة، وقد سُلّط عليهم الأقارب لإقناعهم بضرورة الزواج بصرف النظر عن التكافؤ، بل بتعمد إصراف النظر عن كل راية حمراء تُحَذر من الإقدام على هذا القران أو تلك الوظيفة، فكان ثمن ذلك عمر مهدور .
فالمرأة التي تواجه الجهل الخفي المختوم بأختام حكومية، والقهر المستتر تحت عباءة الإكبار للشرع تصبح مبلبلة كونها واجهت ما كانت تحسب أنه مُنَزْل ككتاب الدهر، ثم تدرك – بعد فوات الحياة – أن حقوقها كانت قيد الانتظار. وما أقسى أن تفهمي الدرس بعد فوات الحياة.
وما أقساك حين تهرفين بما تجهلين فتدمين، وإن كنت تحسبين أنك وحدك تأكلين من فضلات الموائد، فنحن كمغتربين نحيا على ما يتفضل به الكفيل.
أما عن الإرث، فلم نرث.
وعن الجمال، فإني أوافقك بأنك أجمل بالطبيعة، لكني أثمن جهد الأجساد العصامية التي لم ترث الحسن بالجينات، عن حُسن موروث دون عناء، فالأجساد العصامية بذلت عرقا، مالا وتحملت مشرط وآلام طلبًا لجمال لم تهبه لها الطبيعة لكنها صنعته.
وعن الفراء، الدُملج والمَصَاغ، فليس كل ما يلمع ذهبًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى