أدب

وعي الذات والهوية الفردية في نهارات عبدالرزاق الربيعي التي بلا تجاعيد

د. ضياء خضير | قاص وناقد عراقي مقيم في كندا

في مجمل قصائد ديوان “نهارات بلا تجاعيد” يقدِّم الشاعر عبدالرزاق الربيعي صورة مجسّدة لتجربة الشعور بالقلق في جانبيها الإنساني العام، والذاتي الخاص، بصرف النَّظر عن موضوع القصيدة وطريقة كتابتها. وكأنه يشعر بشعور الموسيقيّ الذي ترفض أصابعه على الآلة ترجمةَ ما يدورُ في أعماقِه من نغماتٍ ترجمةً أمينةً. علمًا بأنَّ الشعور بهذا القلق ليس مرادفًا لليأس بالضرورة، بل هو التوكيد على الوعي الإنساني الكاشف عن حساسية شعريّة أصيلة في الاهتمام بالوجود وأشيائه وظواهره، فالحريّة التي تطمح إليها الكينونة لا يمكن تحصيلها ما لم يعش صاحبها تجربة الشعور بهذا القلق.

نهارات عبدالرزاق الربيعي التي بلا تجاعيد، كما هو معلن عنها في عتبة عنوان ديوانه الأخير (نهارات بلا تجاعيد) الصادر عن دار “الآن ناشرون وموزعون” الأردنية عام 2020، وبدعم من الجمعيّة العُمانية للكتّاب والأدباء، لا تبدو أمينةً على وصفها الخاص بهذه (التجاعيد) التي تمثل أيقونة وعلامة سيمائية مسجلة للإشارة إلى ما لا تنطوي عليه نهارات الشاعر من حزن وتعب يمكن أن يورثا صاحبهما هذه التجاعيد التي يزعم أنَّ نهاراته خالية منها.
غير أنَّ ما يضعه الشاعر في صدر مجموعته هذه من كلمة وردت في قصيدة لِـ”أنطونيو ماتشادو” يبدو مخالفًا لذلك مخالفة صريحة:
“لا تتعجّبوا أصدقائي اللطفاء
من أنَّ جبهتي متجعّدة، مقطّبة
فأنا أعيشُ في سلامٍ مع الناس
وفي حربٍ مع نفسي”.
ولعلّ هذا التناقض بين (السلام مع الناس والحرب مع النفس) يشير بنفسه إلى نوع من الاستراتيجية المراوغة المتَّبعة في هذا الديوان، والتي يبدو فيها الظاهر المُعلن الذي يعيش صاحبه في سلام مع الناس، ويخلو وجهه من التجاعيد، وعقله من الحرب الداخلية، مختلفًا بعضَ الاختلاف عن الباطن المضمر. فالاستعارة المكنيّة المغلّفة ببلاغة القول في عنوان المجموعة، والتي، بحسب البلاغيين القدماء، تُشبّه فيها هذه النهارات بمشبَّه به لم يصرّح به (وهو عجوز أو رجل متعب تغضّنتْ جبهته وأصبحت فيها تجاعيد)، تبدو مضلّلة في نفيها لأنها (تجاعيد) خاصة بالشاعر، وليست للعرض أو الإعلان. وهي متصلة، فيما يبدو، بليل الشاعر المظلم في وحدته، وليس بنهاره المضيء في حركته بين الناس واجتماعه معهم.
والمهم هو أنَّ مصدر هذه التجاعيد التي تشيع في صفحات الديوان وتمتلئ طيّاتها بالحزن واللون الرمادي ليس واحدًا. فهو، من حيث المبدأ، تعبُ العمر الذي مضى وتصرّم، وما يلحق بالكائن الفرد من حدثان الدهر، وما يفرضه استمرار مهنة الحياة من شروط على النوع الإنساني المبتلى بالفقد والموت والغياب. ولكنه ينطوي من حيث الوضع الشخصي الخاص على ما يبرِّر ذلك ويقوّيه.
فهو الفقد المبكر للأحبّة (الأخ والزوجة) الذي لا يمكن تعويضه، أو تخفيف وقعِه مهما تقادم الزمن وكرّت ساعاته ودقائقه وثوانيه؛ وهو المشترك الدلالي واللفظي أو الأرضي الممتدّ بين الوطن العُماني الحاضر، ووطن (الأصل والنشأة الأولى) العراقي الغائب الحاضر. إذ مع أنَّ الشاعر يقول في واحدة من قصائده إنَّ حبال أرجوحة الوطن قد تقطّعت منذ طفولته الباكرة فيه، فإنَّ نوع دمه المضيء يبقى بعد فحصه من “فصيلة العراق”، كما يقول في قصيدة أخرى.
وهي عناصر يمكن تجاوزها أو التخفيف من وطأتها على ذوات بشريّة لا تمتلك ما يمتلكه عبدالرزاق الربيعي من حساسية، ورصيد إنساني، وروح وفاء وإخلاص مع النفس ومع الآخرين والعالم المحيط؛ ولكنها تتحوَّل عند شاعر ومسافر أبدي مثلِه إلى حقائق ثقيلة وباهظة الثمن. وهي التي تجعل كلماته دائمة التقلّب بين جنة ونار، أو بين فرح وحزن لا شكّ فيهما ولا برء منهما.
وهو يقدِّم لنا في مجمل قصائد الديوان صورة مجسدة لتجربة الشعور بالقلق في جانبيها الإنساني العام، والذاتي الخاص، بصرف النظر عن موضوع القصيدة وطريقة كتابتها. وكأنه يشعر بشعور الموسيقيّ الذي ترفض أصابعه على الآلة ترجمة ما يدور في أعماقه من نغمات ترجمةً أمينةً.
علمًا بأنَّ الشعور بهذا القلق ليس مرادفًا لليأس بالضرورة، بل هو التوكيد على الوعي الإنساني الكاشف عن حساسية شعريّة أصيلة في الاهتمام بالوجود وأشيائه وظواهره التي تدخل قفص هذه القصيدة. إذ إنَّ الحرية التي تطمح إليها الكينونة لا يمكن تحصيلها ما لم يعش صاحبها تجربة الشعور بهذا القلق، كما يقول الفيلسوف الألماني “هيدغر”:
“فالقلق ليس مرادفًا لليأس -كما يُفهم عادة- بل هو مرادف للفرح بالوجود؛ ذلك لأنه ينقل الكينونة من الابتذال إلى الأصالة. دافعًا إيّاها إلى التَّفكير في نفسها، وفي علاقتها بأشياء العالم الخارجي، فإذا بها تحدس أنَّ العالم وما فيه محكومٌ عليه بالتَّلاشي والاندثار، وهي كذلك محكومٌ عليها بـالتناهي. هذا الحدس يمنع أيّ تعلُّق وجداني لا بالتقنية، ولا بالآخرين، ولا بالعالم- أي كل ما من شأنه أن يجعل الكينونة مستَبعدة، وغير حرّة. لذلك، تصبح الحرية التي يفضي إليها القلق هي ما نصل إليه بعد مجاهدة ومكابدة، واِرتداد إلى الكينونة والوجود وإطالة التفكير فيهما ومحاولة تفسيرهما ميتافيزيقيًا”.
وقصائد الديوان الثماني عشرة التي تتوزَّع على ثلاث محطات للسفر والانتقال الدائم هي التي تجيب على ذلك، وتكشف عن هذا الانتماء إلى الأشياء، والقطع معها، والصدّ عنها في الوقت نفسه، والتماس الأسباب والمناسبات الدافعة لذلك والمسوّغة له.
المحطة الأولى: تتصل بالسفر الجغرافي الأرضي الذي يحاول الشاعر فيه تسجيل مشاهداته وشهاداته على المدن والأمكنة التي يزورها، ويضع ملاحظاته على ما يراه بارزًا أو خبيئًا من ملامحها وأسرارها، مثلما تترك هي بصماتها الخاصة على عينيه وروحه المشرئبّة القلقة التي تضفي على المرئيّات لونها المميّز ورائحتها الخاصة.
والثانية: هي السفر والانتقال الخاص بالذاكرة والعلاقات الشخصية والاستعادة للوجوه والمصائر البشرية التي غادرته وتركته وحيدًا يعاني الأمرّين من الحنين والاغتراب والوحشة “يتقلّب في سرير بارد مثل سمكة في محيط متجمّد”.
والمحطة الثالثة الأخيرة: هي السفر إلى الداخل.. داخل النفس، والعالم الجوّاني، وإجراء الحوار مع الذات بكل ما ينطوي عليه جدل الداخل والخارج من حميميّة وتناقض ومناطق فراغ وتقاطع بين صورة الحلم وقسوة الواقع.
سفر ثلاثي الأبعاد في المكان والزمان والداخل الإنساني المحتدم والمتردد بين القبول والرفض، بين عبء ذكرياته وسرديّاته الخاصة الواقعية والخيالية المشوَّشة عن شوارع الطفولة العراقية البعيدة، وعوالم التجربة الأولى، واكتشاف العالم الخارجي، وصولًا إلى اللحظة الحاضرة التي يتخلى فيها الشاعر عن الصور الرومانسية الحالمة ليقترب من مشارف مرحلة أخرى يتقلّب على صفيحها الساخن، ويكتوي بالحرارة المنبعثة من جمر مواقدها المنطفئة، واللّذع الحاد لذكرياتها.
وخلاصة التجربة في هذا الديوان لا تعدو، مثل دواوين أخرى للشاعر، أن تكون صورة إنسان ممتحن يكتب عن نفسه وعذاباته فيما هو يكتب عن غيره من البشر والأمكنة والعوالم الداخلية، ويضطرّ للظهور بوجهه المفطور على الحب وإرادة الخير للبشر الآخرين وأشياء الطبيعة من حوله.
وهي، كما نرى، محطات متداخلة تتغذى من بعضها بعضًا وتختلف في نوع لغتها الموزونة والمنثورة، ولكنها تبقى موحَّدة في موضوعها وحوافزها المادية المباشرة، والإيحاء الشعري المضيء مثل النهارات لصورتها، والمجسّد لكلماتها، فضلًا عن مصدرها الأساس ذي الطبيعة الأنطولوجية العامة المتصلة بالوضع البشري العام، والشخصي الخاص المحكوم بالخسران والخيبة، وخفّة الكائن التي لا تحتمل.
المحطة الأولى تمثّلها في الديوان قصائد مثل (طريق جيزان) المدينة السعودية الجنوبية، التي تسلك القصيدة في مقاطعها الأولى مسلكًا غنائيًا جميلًا في وصفها ورؤية مشاهد الطريق الغريبة إليها، ووصف ظواهرها المناخية وطبيعتها الجغرافية المختلفة، حيث:
“بعض من الضوء
من شمس (جازان) يكفي
ليزهر حقلُ الرياحِ
وينبت وردُ الحياة بكفّي
و(جازان) مشتى الطيورِ
البعيدة
مسرى رياح القصيدة
مرسى احتضارات صيفي”.
ولكن نهار هذه المدينة الذي “يبدّل ليلًا بليل” لا يخلو، هو الآخر، من (تجاعيد) حزن تخالط بعضَ مقاطعها المليئة بالضوء والظل والعصافير، يجعلها تخفي على الرغم من ذلك “الكثير من الموت”، وهي تمضي نحو الغروب فيغدو الشاعر (وحيدًا) في النهاية، يدرك أنه أضاع بجازان ياءه وألفه.
“ونخفي
الكثيرَ من الموتِ
في الجبِّ
تغوصين
في الغيبِ
تمضين
نحو الغروبِ
فأغدو وحيدًا
وأدرك أنّي أضعتُ
بـ(جازان) يائي وألفي”.
في حين هو لا يرى تحت ظلال قمر (وادي الحوقين) العُماني بعد الإعصار في قصيدة أخرى غير “غريق وحيد يدفع الماء بيدين كليلتين”، ولا في مدينة النور باريس غير كلمات وأرواح وأحلام “ملوّثة” في نصِّه النثريّ المسمّى (ثقوب أوزونيّة)؛ وهكذا في قصيدتيه عن نيويورك ووهان الصينية.
ولعلَّ نصّه النثريّ الآخر (جي بي أس شخصي) أن يفصح، أكثر من غيره من نصوص هذا الديوان المتصلة بالمكان، عن هذا النوع من الخطاب الشعري المغلّف بالحزن والأسى الذي لا وجه ولا تفسيرًا واضحًا له؛ فهو يرسم خارطة موقِعِه بدقة لمن يأتيه دون هذه الآلة الموجّهة (جي بي أس)، بهذا الشكل الذي لا يخلو من غمز وروح مجازيّة ساخرة، لأنه يتحدَّث عن حافلة حزن، وجغرافية ألم، واستدارة قنوط، ودرب فجيعة، وجبل صبر وقهر.. حينما يعبره السائل يجده هناك، وليس عن جغرافية طبيعية تحدِّد المكان وتشير إلى خارطته وعلاماته:
“يا مَن قطعتَ المسافاتِ البعيدةَ
وقدمتَ لتصلَ إليَّ
من دون “جي بي أس”
إليكَ مكاني
لكيلا تختلط عليك الجهاتُ
اركبْ حافلةَ الحزنِ
بعد شارعينِ من الألمِ
ستواجهُك استدارةُ قنوطٍ
تجاوزها بعد دمعتينِ
وجرحينِ
خذ اليمينَ
وواصلِ السيرَ
حتى تعبرَ دربَ الفجيعةِ
وفي نهايةِ المطاف
التفتْ يسارًا
ستجدُ جبلًا من الصبرِ
والقهرِ
قفْ عنده
وعندما تبلغُهُ
ستجدني هناك”.
أمّا المحطة الثانية المتصلة بالسفر عبر الذاكرة المثقوبة بغياب الأحبة، فتقف في بوّابتها قصيدة الشاعر(على قارعة السحاب) المهداة إلى أخيه محمد في (غيابه الأبديّ). فالحزن والأسى يبلغان حدهما الأقصى فيها حين يلقي (الأسى أساه) مضاعفًا على كاهل الشاعر المثقل بالجراح، وحيث الصوت المباشر والنداء المبحوح المتكرر (يا أخاه) الباحث عن الفقيد في العالم السفليّ، وعن (لقطة قريبة) لمشهد جديد يمارس فيه الأخ الميت مهنته القديمة في التصوير السينمائي دون جدوى. غير أنَّ النداء الذي يتحوَّل في بعض مقاطع القصيدة إلى (عويل) يستنهض الأخ ليقوم من رقدته الأبديّة بمقبرة وادي السلام، لا يجد في النهاية غير الركون إلى الأمل المستحيل بحياة أخرى تحصل فيها قيامة الأخ، كما حصلت من قبل قيامة السيد المسيح ليخرج الميت من منفاه، ويلتقي بأخيه قبل الأوان. مع العلم أنَّ الالتصاق بالموضوع وثقل وقعه على الشاعر ربما قلّلا من شعريّة القصيدة، وقرَّبا أداءها من الصورة الخطابية للرثاء في القصيدة العربية القديمة الممتدة امتدادًا أفقيًّا على الرغم من إيقاعها القافز الذي يتساوق مع التصعيد في أدائها العاطفي المتفجِّر.
“مَن يمسح الوحشةَ
عن وجهك يا أخاه؟
مَن يبلغ الإله
أن يعجّل القيامة
ليخرج المنفيّ
من منفاه؟
فيمسحُ المسيحُ
عن كاهلهِ آلامه
مَنْ يحملُ الصليبَ
عن ظهري يا أخاه؟
فالأسى
ألقى على حشاشتي أساه”.
وقصيدته النثرية (ليل منفرد) تترجم، هي الأخرى، هذا الإحساس القاسي بالخسارة، وما يتذكره ويحاوره فيها ليس أخاه محمد، بل زوجته الغائبة التي ما زالت صورتها تظلل بألوانها الرمادية الجزء المعتم من لوحات الديوان كلها. غير أنَّ من الملاحظ أنَّ هذه الزوجة غير مذكورة باسمها هذه المرة، وأنَّ لهجة الخطاب العاطفي الموجَّه إليها تبدو مخففة متطامنة إلى حدّ ما، ممّا جعل صورتها تختلف قليلًا عن تلك التي عرفناها في دواوين سابقة، ومنها ديوانه (كثير عزّة) المكرّس لهذه الزوجة الحبيبة وحدها. فهي هنا تمارس حياتها الأخرى، تتنفس في ضحكها، وتنعم بنوم عميق، فيما هو متروك في ليله الوحيد (فريسة لأنياب وحشته).
وحين يقول لنا في آخر هذا النص إنَّ هناك ضوءًا في آخر النفق نكتشف أنه ضوء يطلع من نهاية الأبديّة! وهو أمر لا يختلف عمّا رأيناه في قصيدته السابقة عن أخيه الأصغر محمد رحمه الله. فالحلّ ونهاية المعاناة بلقاء الأحبّة لا يكون في هذه الدنيا أو محطة السفر المؤقتة، وإنّما في الحياة الأبديّة الأخرى الخالدة.
“وحدي
أفكّر بكِ
دونما نهاية لي
ولليلي الوحيدِ الجناح
*
أهمسُ في أذني
فلا أسمع
غير تنفّس ضحكك
وأنتِ تنعمينَ
بنومٍ عميقٍ
تاركةً ليلي الوحيد
فريسةً لأنيابِ وحشتهِ
*
وشيئًا، فشيئًا
ضوءٌ ما
يطلعُ من نهايةِ
نفق الأبديّة”.
وقصيدة (حجيج) بضميرها المخاطب دون ذكر اسم تقع أيضًا في هذه الدائرة المسحورة التي يستدير فيها الشاعر بوجهه عن حاضره المرتهن لماضيه وأحبّته الغائبين فيه، يتشكّى لهم ويحلم بلقائهم، ويدير الحوار من طرف واحد معهم، كما لو كانوا أحياء في موتهم، فيما يبدو هو ميّتًا في حياته ضمن حالته الروحيّة الموصوفة.
“بدون دليلْ
أحجّ إليك
وأدري
بأنَّ الإشارات حمرُ
المسافات جمرُ
وأنّي حبيسي
لديك
وأنّ الحريقَ الذي شبّ
شابَ..
وماءُ اصطباري قليلْ”.
والكلام عن المحطة الثالثة الأخيرة التي يجري فيها الحوار مع الذات، والجدل بين الداخل والخارج لا يختلف عنه في محطتي السفر السابقتين. فمسحة الحزن والقلق يطبعان أغلب نصوص الشاعر المسافر عبر هذه المحطة، اللهم إلا فيما يتصل بكون الحوافز المحركة ذات طابع وجودي عام وشخصي خاص يجد الشاعر نفسه فيه غير مقيّد بموضوع واحد، وأكثر قدرة على الحركة الحرّة.
ولعلَّ قصيدة الربيعي (صلاة الوحشة) التي نضع هنا مقدمتها لنختم بها هذه القراءة النقدية أن تلخص هذا الشعور الغريب بالوحدة التي تصل حدّ (الوحشة)، حيث يدخل صاحبها الجامع المكتظّ بالحشد ليكون بين الناس يؤمّهم في الصلاة، ولكنه يكتشف أنه وحيد لا يسمع بعد الفراغ من وهمه أو حلمه والخروج من بيت العبادة غير (نحيب خطاه).
“حين مضيتُ إلى المسجدِ
لم تبصر عيناي
بباحتهِ إلاي
ليس هناك سواي
قلتُ لقلبي:
اخلع نعليك، فلبّى
ادخلْ
فدخلتُ
وجدتُ المسجدَ
مكتظًّا بالحشدْ
وما من يتعبّدُ
فيه عداي”.
وهو، بهذا، يختلف بعض الاختلاف عن سعدي يوسف الذي يقول: إنني (أسير مع الجموع وخطوتي وحدي). فالأمر لا يتعلق هنا بإرادة السير وحيدًا واختيار خصوصيّة الشاعر وعزلته الإبداعيّة الضرورية، بل بتلك الوحشة التي يرى الشاعر فيها، مثل علي بن الجهم، كثيرًا ولكن لا يرى أحدًا، على الرغم من ذلك. فهو يقيم بين الناس، ولكنه يبقى مع نفسه وذاته المستوحدة بعيدًا عن وجودهم الأخرس مثل متصوِّف يستبدل عالم الشهادة المرئي بعالم الشهود والغيب الذي لا تحفّ بصاحبه غير الملائكة والجموع الذاهلة وغير المرئيّة التي تتبع ضياء هداه.
وهذا التأكيد على النغمة الإيمانيّة العميقة ذات الطابع الروحي في خطاب عبدالرزاق الربيعي الشعري ليس جديدًا، وهو الذي يجعله مكتفيًا بنفسه، قادرًا على مواصلة الحياة وابتلاع آخر قطرة فيها بدوافع مختلفة، والسير مع هذا الجمع الذاهل أو من دونه:
“فاجتمعتْ أعضائي حولي
أقلامُ ملائكتي
صندلُ مسبحتي
وعصاي”.
جاعلًا من تقنية الالتفات في ضمير الفاعل المنفصل عنه متصلًا به، ومضافًا إليه، على نحو يتحوّل فيه الخطاب، على طريقة الصوفيين، من الذات نحو الآخر، ومن الآخر نحو الذات، ومن الفاعل المنفصل على صعيد الداخل إلى الضمير المتصل على الصعيد النحوي، في حركة تبادل ووعي لعلاقة جوهر الشاعر الداخلي مع جسده الخارجي. و(اجتماع الأعضاء) حوله يعني انفصالها وتفكُّكها السابق، تمامًا مثل سلامه على ميمنته وميسرته، كما لو كانتا جهتين تابعتين لشخص آخر.
وهو الأمر نفسه الذي نراه في نصوص أخرى مثل هذا المقطع المكتوب في خطاب موجَّه لحبيته ورَدَ في نصِّه عن (عصاري ووهان) الصينية:
“فأرى ظلّي في الطريقِ
قد انشطر إلى شطرين
كلٌّ منهما مضى في اتجاه
حتى بلغا
منتصفَ العتمة
في منتصف الليل
أتعرفين لماذا؟
ذلك لأنني من دونك
لست سوى نصف…”.
فهو، كما نرى، منفصل في هذا النوع من الخطاب عن بعضه، ومنقسم إلى شطرين، ليس فقط لأنه من دون حبيبته ليس سوى نصف، كما يقول في نوع من المبالغة الشعريّة المفهومة، وإنّما هي خصيصة أسلوبية تؤلف بتواترها واطِّرادها نوعًا من التأسيس للوعي والتفكير بالذات والانشغال بها، ونظر المرء لنفسه في مرآة اللغة ومرآة الوجود الذي تعكسه مرارًا وتكرارًا باعتباره ذاتًا بديلة، وصوتًا قادرًا على تلمُّس أقطار نفسه، والإقرار بواقعيّته على نحو أكثر تحسّبًا ووعيًا بهويّته الفرديّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى