شاهد.. الشاعرة المصرية مروة أبو ضيف ..ديناميكية وكيمياء الصورة

حميد عقبي | باريس

أجنح كثيرا لمفهوم جان كوكتو للشعر والذي يعتبره أرقي النشاطات الإبداعية وأكثرها سحرا ودهشة، فالشعر إذا لم يكن صورا تأتي من الذات وليست نقلا ولا رسما ولا صناعة وما يأتي من الداخل هو الأكثر صدقاء للتعبير عن الواقع وكان كوكتو ينفي عن نفسه عشرات الصفات ويُعرف نفسه بالشاعر وهو يمارس السينما أو المسرح أو الرسم وغيرها من الإبداعات.
لعلي أعطي هذا المدخل المختصر للولوج إلى عالم الشاعرة المصرية مروة أبو ضيف ـ المقيمة في كندا، فهي كشاعرة لا تصنع ولا تنقل واقعها الذي تعيشه هي تغوص في ذاتها لتبدع صورا ديناميكية بكيمياء خاصة فتكون القصيدة منتجة لحكاية أو مجموعات حكايات تخيلية قد نسقطه على الواقع الإنساني وليس شرطا أن يكتب المبدع في المهجر ما يعيشه في لحظته الحالية، ولا حياته الشخصية، عندما نكون بعيدا عن الوطن فالوطن يسكننا بتفاصيله ويلعب الحنين دوره ليجعلنا أكثر حساسية ولا يشترط أن ننقل ما يحدث هناك ونترجمه أو نعيد صياغته في قوالب جميلة.

عندما دعوتها للمشاركة بالملتقى الأول لقصيدة النثر العربية في رحاب رحاب المنتدي العربي الأوروبي للسينما والمسرح والذي عقد في يونيو الماضي، قالت ستقدم نصا قريبا إلى قلبها وكأنها غاصت في الذاكرة وهي بنت الصعيد المصري الغني بالحكايات المدهشة والواقع الأكثر بساطة وتعقيدا أيضا، حيث تفتح قصيدتها لتعبر عن خوفها الطفولي مما يحدث في الخارج معتمدة على السماع وليست الرؤية.
سمعت أشياء كثيرة في الخارج
كلها مخيفة ومرهقة
محصل الكهرباء الذي يهدد بقطع الدفء والنور
القتلة الذين ينذرون الجميع
سنخرج كل الجثث التي خبأناها
في شوارعكم النظيفة
والذئاب أيضا كانت تعوي.
في هذا المشهد الإفتتاحي سنشعر برعشة هذه الطفلة وهنا قطع النور والدفء يمكننا أن نحلله كميتافور وليس مجرد حدثا بسيطا بنسبة لطفلة فالظلمة تستدعي الكثير والكثير من الخوف والإضطراب وتتجاوز الضوء بمعناه المادي وكذلك الدفء، ثمة خوف شخصي ذاتي سرعان ما تحول لجمعي مجتمعي فالقتلة الذين يهددون ثم الذئاب أيضا كانت تعوي، تتدفق الصور لخلق هذه المشهدية تاركة للمتلقي يتخييل حال الطفلة بالداخل المظلم يمكننا فهمه البيت، المجتمع أو العالم الموحش الذي تجمعت كافة عناصر الرعب المدمر فيه.
ولما قلت لأمي
قالت “كابوس..تتفلي ونامي
لماذا لست مثل كل البنات”
كان كلامها يتبخر سريعا
ينسل إلى الخارج أكثر رعبا
الأطفال يلعبون”لاعبيني والاعبك وهأقطع صوابعك “
أخبرتك”لا أحد يسمعني هنا”
والخطر يزداد بالخارج.
كلما تقدمنا مع النص، تكون محادثة أو الطفلة أو البنت تقص وتصف ما بداخلها، ما حولها، ما يوجد في الخارج والذي قدرت أن تصوره ببساطة وصدق، وهنا كذلك تسأل نفسها لماذا هي مختلفة فلو أنها مثل كل البنات ينظرن للواقع بسذاجة فربما لم هنالك خوف وهنا الشاعرة تزيد من جرعات خوف بتمسكها بما يحدث بالخارج.
السماء أصلا انخفضت كثيرا في الليلة الفائتة
أنت مشغول بكلماتك المتقاطعة
تمسك سكينا حادا وتقطع الورق
وأنا اسد أذني بما يتطاير من حروفك الزائدة
أبي امسك بعصاه
يصرخ ويضرب بها الهواء
جدتي تمسك بأذن جارتها في الجنوب
“كيف لك أن تضرب القطة بالعصا!!!
هذا ابني حين يصير قطا مع توأمه بالمساء”
قلت لك لهذا أحب القطط!
والمواء يعلو بالخارج
وأظافر القطط تشقق جدران البيت الخائف.
نحن هنا في أجواء فنتازيا، نقلات تصورية لما يحيط بها الأب ثم الجدة، تلاعبات لخلق مشهدية الفزع، رسم للشخوص كأننا في مناخات غير طبيعية، هذا الكابوس المستمر يداهمنا ويجذبنا إليه بتفاصيل اللامعقول وهكذا تتالى المشاهد السيريالية في تصرفات الأب ثم الجدة، كما تحتفظ الشاعرة باستخدام المؤثر الصوتي وكذلك الخارج (المواء يعلو بالخارج).
أخبرتني أن الفلسفة تصلح لموقف كهذا
وهذا وقت الكلمات الكبيرة
الكلام كان يخرج من فمك أحجارا هائلة
يشرخ الجدران حتى تنزف دما خائفا
الحضارات تسير في الشوارع متتالية
أناشيد بلغات مختلفة
تهاليل وجنائزيات
أديان تتصارع على الصدارة
وناس كثير
جموع هائلة.
لعلنا هنا سندرك أن الدائرة اتسعت، النقلة تجاوزت ذلك المكان البسيط في تكويناته المادية والمعقد بثقل الخوف والرعب وربما الخرافات أيضا، وهنا الحوار يبدو بين الشاعرة وهو، م رؤية فلسفية للشاعرة فنجد كلمات الفلسفة والحضارات والأديان لكننا سرعان ما ستعود بنا إلى الذاكرة، للبعيد، بحثا عن الهواجس والكوابيس ويظل الرعب يفترس كل شيء.
قلت لك
الرعب يزداد بالخارج
وأنت تبدل قطع الشطرنج
بقعة حمراء
وبقعة مقطوعة
واللعبة صارت طويلة وباهتة
تدفعني أمي من شرفة المنزل
أنظر في عينها وأقول
“تريدين أن أموت؟”
لم أود عمرا طويلا على أية حال
والغرباء عادة طيبون
يتركون شرورهم خلفهم ويرحلوا
من يبحث عن البدايات يطمع في حنان جديد
لكنكم جميعا لحقتم برحلتي
أمي صعدت فوق ظهري
والصعيد أمسك بذيل فستاني الجديد
والأصدقاء أختبأوا بجيوب حقيبتي الخلفية
كنت أبدأ وأنا أحمل النهايات بين أصابعي
أعيش والحياة تسقط من عيني
دمعة فرح
دمعة حزن
أو حتى لمسة هواء عابرة
قلت لك
الصراخ يعلو بالخارج
والذئب جالس في سريري
وأنت تعد الملائكة التي تمر أمام النافذة
“الحقيقة أكبر من ألم اختبارها
والتجربة تجعل من العاديين عظماء”
تقول
وأنا أبحث عن العظمة في خوف هائل
وذئب طيب يريد أن يقول شيئا
وأم تتنزه بين قبرها وقلبي
وزمن يشيخ على صدري
وزمن يتصاعد بالخارج
ووقت ميت بين الوقتين.
مروة أبو ضيف، تتمسك بالديناميكية التي بدأت بها في مستهل نصها وهي تمزق الحكايات، تفتتها، وهذا يحسب لها فالإستمرارية والحفاظ على بنية الحدث وبنية الشخصية ووحدة الزمان والمكان قد تصنع حكاية ممتعة وربما جيدة ولكن هذا التلاعب في صب وتدفق الصور وكشف اوجه عدة للشخصيات وخاصة شخصية الأم التي ربما كانت أكثر الشخصيات حضورا وأكثرها تعقيدا ويتحتم علينا أن ننظر إليها بعدة أوجه فهي ميتافور متعدد الدلالات لذلك فنحن مع نص مفخخ يتحرك بنا ويخاطب الداخل ويثير الأسئلة أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى