عود للضمائر في القرآن… (الله ورسوله)

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه | مصر – أستاذ اللغويات التطبيقية – جامعة جنوب الوادي

تناولت سابقا إشكالية الإحالة coreference ومشكلات الضمائر وعوائدها antecedents وإختلاف الدلالات في سياق آية (وإن من اهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)، وناقشت الإشكالية التي تواجه مترجمي معاني القرآن الكريم في انتخاب دلالة واحدة من الدلالات المختلفة وصياغة ضمير مناسب لها. واليوم أتناول نفس الإشكالية مع آيات أخر.

وأولى الآيات هي قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) التوبة: 62.

والإشكاية هنا هي في الهاء الأخيرة التي تستخدم للإحالة لمفرد مذكور سابقا، في حين أن بالآية مذكورين: الله و رسوله. وقبل أن ننظر في الترجمات/ نتوقف مع هذه الصياغة القرآنية الفريدة. فقد أثار بعض المشككين إشكالاً لغويًّا حول الآية، من جهة أن الضمير في قوله تعالى: (يرضوه) جاء بصيغة الإفراد، مع أن سياق الكلام يعود إلى الله ورسوله، فكان الذي تقتضيه قواعد اللغة أن يأتي الضمير بصيغة التثنية، فيقول: (والله ورسوله أحق أن يرضوهما)؛ فهل صحيح أن هذا الأسلوب جاء مخالفًا لما تقتضيه القواعد؟ لقد توقف المفسرون عند هذه الآية، وأجابوا على هذا الإشكال بأجوبة عديدة، تبين أن الآية جاءت على أسلوب العرب، ولا إشكال فيها ولا مخالفة.

  1. ومن الأجوبة في توجيه الآية، أن قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه (عبارة عن جملتين؛ الأولى: (والله أحق أن يرضوه) والثانية: (ورسوله أحق أن يرضوه)، فحذف خبر الجملة الأولى (أحق أن يرضوه) لدلالة خبر الجملة الثانية عليه، وتقدير الآية: (والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه). وإلى هذا ذهب سيبويه في توجيه الآية. قالوا: وهذا كقول الشاعر الجاهلي أحيحية بن الجلاح:

                         نحن بما عندنا وأنت بما      عندك راض والرأي مختلف

والتقدير: نحن راضون بما عندنا، وأنت راض بما عندك، ورأينا ورأيك مختلفان، لكن حذف (الرضا) في الشطر الأول من البيت؛ لدلالة (الرضا) عليه في الشطر الثاني. 

2. وذكر المفسرون توجيهًا ثانياً للآية، يرى أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. وهذا مذهب المبرد في توجيه الآية. وكلا المذهبين له من كلام العرب ما يؤيده.

3. ثم إن المفسرين ذكروا هنا، أن الآية جاءت على هذا الأسلوب لاعتبارات معينة: 
فإما أن يكون مجيء الضمير بلفظ المفرد دون لفظ المثنى؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضي واحد؛ فإرضاء الرسول في الحقيقة هو إرضاء لله سبحانه، وهذا كقوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء:80)

4. وإما أن يكون مجيء الضمير بلفظ المفرد دون لفظ المثنى؛ للتفرقة بين الإرضاءين، رضا الله تعالى، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كقول الشاعر ضابئ بن الحارث البرجمي:

من يك أمسى بالمدينة رحله   فإني -وقيَّار- بها لغريب

و(قيار) اسم فرس الشاعر، والتقدير: فإني لغريب بالمدينة، و(قيار) بها غريب أيضاً؛ وكان الأصل أن يقول: لغريبان، لكن جاء به على صيغة الإفراد؛ لأن إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما، فأتى باللفظ على صيغة الإفراد دون التثنية مراعاة لذلك.

5. وإما أن يكون مجيء الضمير بلفظ المفرد دون لفظ المثنى؛ لتعظيم الجناب الإلهي بإفراده بالذكر تأدبًا؛ لئلا يجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال: (ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان) رواه أبو داود(.

وبأيٍّ من هذه الاعتبارات أخذنا، فإن الآية تبقى مستقيمة في تركيبها، وصحيحة في معناها.

6. على أن أمراً جدير بالذكر في هذا السياق، وهو أنه يشترط لصحة تثنية الضمائر وجمعها توافق ما يراد تثنيته وجمعه من جميع الجهات، فإذا لم يتحقق هذا التوافق من جميع الجهات، لم تجز التثنية ولا الجمع بحال؛ فأنت تقول في تثنية رجل: رجلان، وفي الجمع تقول: رجال؛ لاتحاد أفراد هذا الجنس، لكن لا يمكن أن تثني رجل وامرأة ولا أن تجمعهما مطلقاً؛ ولما كان الله سبحانه ليس كمثله شيء، فقد اقتضى التركيب القرآني في الآية أن يأتي على الشكل الذي أتى عليه.

وكان الشيخ عبد الله كابر – من علماء المدينة المنورة – يقول: (أهيم بهذه الهاء عشقا)، للمعاني العجيبة التي تربط – وفي نفس الوقت تمايز- بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.

***

الآن وقد نهلنا من هذه المعاني الثرية لهذه الهاء الفريدة، ما موقف المترجم – الغلبان- الذي لا يجد كل هذه الدلالات التركيبة في لغة أخرى غير العربية؟ فلنلق نظرة على 8 ترجمات مختلفة:

Sahih International: But Allah and His Messenger are more worthy for them to satisfy….

Mohsin Khan: ..but it is more fitting that they should please Allah and His Messenger (Muhammad SAW)…

Yusuf Ali: But it is more fitting that they should please Allah and His Messenger…

Muhammad Sarwar: .. (they would know) that God and His Messenger deserve more to be pleased than anyone else.

AbdulHaleem: if they were true believers it would be more fitting for them to please God and His Messenger.

اختارت مترجمات النسخة الصحيحة الدولية وكذلك محسن خان  وعبد الله يوسف وسرور وعبد الحليم أن يسقطوا استعمال الضمير تماما و يعوضوا عنه بمعنى اجتماع رضى الله ورسوله، مع الاختلاف في الفعل الدال على (الإرضاء) satisfy  عند الصحيحة الدولية، please  عند البقية.  وأرى أن الأولى أولى لأن صدر الآية فيه : يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والموقف هو اختلاق الاعذار عن عدم الخروج في غزوة العسرة، لذا فالحلف هنا لإرضاء المستمع فيكف غضبه، وليس ليظهر فرحه.

ثم نجد مجموعة أخرى:

Pickthall: but Allah, with His messenger, hath more right that they should please Him …

Shakir: Allah, as well as His Messenger, has a greater right that they should please Him…

Arberry:… but God and His Messenger — more right is it they should please Him…

Ghali: And Allah and His Messenger-it is truly worthier that they should satisfy Him

 

عند بيكتول، وشكير، وأربري وغالي إظهار الضمير، وبدئه بحرف استهلالي  capital letter (Him)  وبالتالى فالإشارة فيه عائدة على الله سبحانه وتعالى وحده بدلالة استهلال الضمير في (رسوله) بحرف كبير كذلك  His Messenger … غير أن هناك اختلافات بين الترجمات الأربع. فبيكتول يستخدم جملة اعتراضية بها حرف المعية  with  بما يعني أن إرضاء الله  سبحانه داخل فيه – ومعه- إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم. أما شكير فيتوسل بتركيب إنجبيزي فريد هو  as well as  الذي يشير للمعية كذلك، غير أن من لوازمه إفراد الفعل عند تعدد الفاعلين ويكون المعنى اشتراكهم في الفعل، فتقول – مثلا-

 Ahmad as well as Ali is Egyptian بما يعني اشتراكهما في صفة الجنسية.

ومن الطريف مجيء الفاعل الأول مفرد والمشترك جمعا:

He as well as they is Egyptian  ويتعجب الطلاب من ورود is  بعد they  في هذه الحالة، ومثلها ما يصلح أن يكون ردا للسؤال الذي أشتهر على ألسنة طلاب الثانوية عندما كان يُسألون (هل يصح قول  I is?) فأحد الاجوبة قولنا:  He as well as I is Egyptian.

أقول أفلح شكير بتوسله باستخدام هذا التعبير الفريد، غير أنه أساء عندما انهى الجملة بالضمير الظاهر  Him وكان يكفي الجملة – بدلاتها الواسعة- التوقف عند الفعل  please مع تعديل بسيط في الصياغة لتكون كالتالي:

Allah, as well as His Messenger, has a greater right to please (satisfy).

وأما ترجمة أربري فهي غريبة، فقد اختار تقديم ترجمة التركيب الحرفية على ترجمة المعنى؛ لذلك وضع شرطتين – بعد (الله ورسوله) ليستأنف جمله جديدة لأن التركيب الإنجليزي يأبي مثل هذا الاستئناف الموجود في العربية، واستخدم ضمير  Him  دون بيان ما الذي يشير إليه.

ومثل ترجمة أربري التي حاولت نقل التركيب، كذلك ترجمة الدكتور محمد غالي مع اختلاف في تركيب الاستئناف في الإنجليزية، والأصل في في الإنجليزية هو عود الضمير على المتقدم وليس على الأقرب، وبالتالي فالدلالة في الإنجليزية تشير إلى الله وحده، ويؤيد ذلك كما ذكرنا من استخدام الأحرف الاستهلالية.

وسبحان الذي أنزله قرآنا عربيا مبينا…

وفي بوست آخر، مناقشة لآية أخرى…

والله أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى