أدب

نادية محمد.. ممرات آمنة للحنين

قراءة في ديوان: مواسم الحب

د. عبد الحكم العلامي | ناقد وشاعر مصري
أيها الراعي
لا تكسر مزمارك
ف ينوح
القمر!
ربما كان عليَّ أن أضع هذا الدال النصي متعاليًا هكذا، وذلك لشعوري بمدى فاعليته ، وأنا في سبيلي لمتابعة عالم الشاعرة “نادية محمد عبد الهادي” من خلال ديوانها الأثير “مواسم الحب”(1) ولإحساسي بالطاقة التأثيرية لهذا الدال النصي على بقية الدوال/ النصوص، وبوصفه الدال المفتاح الذي سيسهل مهمة دخولنا إلى هذا العالم لهذه الشاعرة من خلال ديوانها سالف الذكر، وهذا الدال الأول بهذه الكثافة، والنفاذ الشعريين سيعمل معنا دافعًا _كما سنرى_ إلى متابعة حقيقتين: الحقيقة الأولى، تتمثلفي هذا الراعي صاحب المزمار الذي أراه معادلًا موضوعيًا للذات الشاعرة هنا، فما الراعي سوى الشاعر، وما المزمار سوى الشعر فكلاهما: الراعي والشاعر يعبران من خلال آلتيهما، فيغنيان أو ينوحان، والحقيقة الثانية تأتي بوصفها مصادقات للحقيقة الأولى فما حلول القمر الذي سينوح على أثر وقع كسر المزمار، سوى الآخر المتلقي عن هذا الراعي صاحب المزمار، وهذا ربما يكون تأويلًا قريب المنال،أو هو كذلك بالفعل، وإذا ترقينا مع فكرة الناي، والمزمار فإننا سنقف على اتصافات ذات مغزى عرفاني صوفي، دليلنا في ذلك مثنوي الناي عند قطب التصوف: جلال الدين الرومي” الذي يتحدث عن الناي بحسبانه أداة للبث والشكوى، وما يصدر عنه من أنغام محملة بالشجن والحنين، الموقف يتلاقى هنا_فيما أحسب_ مع هذا الطرح ذي المنزع العرفاني، وفي المقطع رقم(19) يتخذ الموقف مسارًا آخر يقوده إلى وجوده المتعين ذي الصبغة الإلهية بمعناها الإنساني، أي المنتسبة إلى الله، تقول الشاعرة:
صانع الحواديت
كل مساء يحوك حدوتته
على مقياس شفتين
بلونها الأحمر
تنكشف سرةُ الليل
يتعرى خصرُ الظلام
فتتلوَّن بالغبار
طارت منه فراشة
قبل أن يحوك لها
حدوتة العنكبوت
ليغزل
من جناحيها بيتًا
…..
ضاقت عليه الحكايات
لا ملجأ له إلا
رحيق حكايته
القديمة
المساء والظلام مرادفان أثيران لليل، والليل بالنسبة للشاعر والصوفي مساحة هادئة، ومنطلقة في اللامحدود، يستطيع إنسانها أن يتحرك فيها بحرية وشفافية ونفاذ، بعيدًا عن أطر النهار وإقامته المشروطة، ففي الليل يمسي الإنسان أكثر اقترابًا من ذاته، وبالتالي يستطيع أن يتفحصها ويستكنه بواطنها، وأغوارها، فالليل لن يكون هنا مرادفًا لحالة من السكون والأنزواء، بل يصبح فسحة مندوبة للتهيؤ، والتقاط الأنفاس بغية مواصلة تلك الرحلة المنشودة من أجل إفساح مجال أوسع للرؤية، فصانع الحواديت في هذا الموقف لا همَّ له سوى ترديد حواديته التي يضعها هكذا متوافقة تمامًا مع صيدته التي يترصدها في كل مساء، فهو يقيسها ويلوِّنها، ويعدها إعدادًا حتى تبوح له بأسرار هذه الصيدة، والموقف يحيل إلى إهابات ذات منزع حسي جسداني، فهاهي ذي سرة الليل تنكشف، وتتعرى في حلكة هذا الظلام الذي يحيل هو الآخر إلى جسدانية حالة تتمثل في هاتين الشفتين الحمراوين.إنها إهابات تتخذ سمتًا حسيًا محضًا كما قلت، وهي أي الذات الشاعرة في الوقت نفسه تبدو مدفوعة إلى الإنصات لصانع الحواديت ذاك، حتى وإن بدا لائكًا لحكاياه القديمة المكرورة. الذات الشاعرة هنا في حالة حصار بين صانع الحواديت هذا، وحكاياه القديمة تلك، فلا مفر إذن لا مفر مما ينذر بموقف إنساني ذي طبيعة شعرية متفارقة _على ما يبدو_ مع مواقف أخرى إنسانية ذات منزع عرفاني صوفي، فبين الموقفين: الشعري ذي المنزع الإنساني، والآخر ذي المنزع العرفاني على الرغم مما بينهما من اتفاق، إلا أنهما يتفارقان في لحظات حاسمة!
تستظل وحدتي
أسفل شجرة خيالك
عذرًا لا تقطعها
هي كلُّ ما لديَّ منك
لماذا تكره الخيال أيها الساكن
في حنايا الروح
تكره أن تسقيني من كفِّ القمر
الساطع بين عينيك،
تراودني على السفر
كلما هززت نخيل صدرك
تبخل بالاقتراب …
بصوتك الذي أعشق نبراته
نبراته التي تخشى سماعَ بحة صوتي
كي لا يرقَّ فؤادك الهارب من مداراتي.
إنها رحلة بحث مضنية وشاقة عن الاكتمال بالآخر، الذي يسرف في النأي هنا بحيث يتسربل وجوده بإهابات متعالية تسعى الذات الشاعرة إلى محايثاتها، والاكتمال بها: تراودني على السفر، كلما هززت نخيل صدرك” على حد تقدير الموقف، والذي يبدو لي _كما هو حادث بالفعل_ ذلك التماهي بين رغبة كل من الصوفي والشاعر في الاكتمال بالأخر، فالشاعر ذو المنذع الإنساني قريب المنال يسعى إلى الاكتمال بالآخر في تجربة الحب، والصوفي ذو المنذع العرفاني بعيد المنال يسعى للاكتمال بالآخر في تجربة القرب، كلاهما يسعى إلى الاكتمال، ولكن لكل منهما وجهته، فحقيقة الشاعر أو واقعه هو الجانب الإنساني أو الإلهي بوجه عام، أما حقيقة الصوفي أو واقعه فهي الله، الحقيقة الكبرى!
والحق أن ” وجود التصوف في شعر الحداثة لا يكفي فيه القول بأنه يجسِّد أو يمثل مجرد الصلة بين الشعر والتصوف. التصوف في شعر الحداثة العربية المعاصرة هو تجربة تحمل مفهوم المعاناة والممارسة الواعية، ولهذا يعدُّ أحد العناصر الفاعلة فيه… وأن اتجاه الشعر الحديث إلى التصوف هو في مستوى من القوة يجعله أبرز سائر هذه الاتجاهات” (2) والموقف هنا يشي بحالة من الظمأ الروحي شديدة الاستسرار، تأتي مشفوعة هذه المرة برغبة عارمة في المساكنة، وتحقيق الجوار! تقول الشاعرة في الموقف رقم (2):
لا تغلق الباب
لا تسرِّح رجائي سراحًا جميلا
لا أريد نفقة لجنوني بك
ولا لجسدي الذي لم تستعمله
إلا بالحلم
لا تزد البحر بيننا عن سبعة
ولا الجبال ارتفاعًا عن (أيفرست)
يمكنني أن أغزو القمر
بليلة شتاء حزينة
اترك لي شيئًا من قميصك
وخصلة من شعرك
ومنديلًا عليه بقايا من عطرك
أنت ممحاة لذنبي
طفل العمر المدلل
لا تغلق ممرات الحب
بأسلاكك الشائكة.
ففي هذا الموقف بين: لا تغلق الباب، وبين لا تغلق ممرات الحب يتولد حزن دفين لدى الذات الشاعرة هنا/ حزن ينذر هدير سطحه بأغوار سحيقة، فالرجاءات كثيرة، والأبواب موصدة في وجه جسد يموء لم يستعمل: إلا بالحلم” على حد قول تلك الذات الراغبة، بينما تزداد البحار مساحات وعددا، وتتطاول ارتفاعات الجبال أكثر فأكثر لتحدث جملة من الحوائل تفضي إلى حوائل أخرى متعددة تقف عائقًا أمام هذه الرغبة الجامحة في الاكتمال: اترك لي شيئًا من قميصك، وخصلة من شعرك، ومنديلًا به بقايا من عطرك”، هكذا، وهكذا نحن بإزاء سردية من الرجاءات التي لا تكاد تنتهي ، حتى تبدأ من جديد، ولا تكاد تصل إلى مبتغاها في اللحظة التي تُجابَه فيها هذه الرجاءات بتلك الحوائل المضافة، والمستجدة هي الأخرى من الأسلاك الشائكة! وفي مثل هذه الأجواء الطاردة، والحوائل المعقدة التي تعمل على إفشال خطة الذات الشاعرة في الاكتمال بالأخر، أقول هنا إن عليها أي الذات الشاعرة أن تصبح مستعدة “لأن تفجر الحجارة، لا أن تفجر الأنهار، لتكن صلبًا متماسكًا كالحجارة، ولتكن متحركًا مثمرًا كالخصوبة، اهتم يا سيدي بالعوائق، والعناصر المناوئة، كفاك البحث المستمرعن التناسب والخصب الهادئ، والتفكير الذي يمكن أن يمضي دون أن يقوم على حرارة الروح، إن الروح العظيمة هي التي يرمز إليها من بعيد أو من قريب بالنار، والنحلة الحبلى، والحجارة التي تهتز من المخاض” (3) نعم هكذا، وهكذا لابد من البحث عن مسار آخر للعمل يمكننا فيه تحقيق نتائج أكثر ملائمة لحالة الظمأ هذه، ولابد من الفكاك كذلك من هذا الحيز الضيق الذي يُحكم الحصار على هذه الذات المعذبة، وأن يدفع بها إلى ملاحقة وجودها الحق/ وجودها الذي يمكِّنها من ممارسة حريتها، وإشباع رغبتها في الاكتمال، وإحراز المؤانسة، تقول الشاعرة في موقف رقم (4):
دفتر صور
أتحسس فيه
بأناملي عيون الماء
أضغط بكفي
على مواضع الحنين
فتصرخ،
زهرة حمراء
دفتر يرسم لقاء الذكريات
أبحث في ألبوم الحكايات
وروايات العاشقين
أراوغ،،،،
أعيد نرد السعادة
على طاولة السنين
كأس العصير ساخنة،
الصباح كهل،
قطار الليل مسروق
ألوِّح لعيون الشمس
فتضحك من غربتي
أداعب بنات القمر.
هل نحن بإزاء حلول_ولو مؤقتة_ لحالة الظمأ التي رافقتنا طوال هذه المواقف من قبل الذات الشاعرة؟ ربما نكون على وفاق من هذا، فالموقف يشهد جملة من الأفعال تثير حالة من الحراك المناوئ لحالة الظمأ تلك، فها هو دفتر الصور/ الرغبة في الاحتشاد من أجل التذكر، ولملمة الشظايا، وها هي الأفعال: أتحسس بأناملي/ أضغط بكفي/ أبحث/ أراوغ/ أعيد نرد السعادة/ أداعب بنات القمر! أفعال _كما هو باد_ تهيببنفرة قبلية، وبعدية من قبل الذات الشاعرة تلك التي نعاينها هنا، ومسار آخر ارتأت الذات الشاعرة أن تتخذه_ على ما يبدو_ من أجل إحداث حالة من الإفاقة، لمسببات الحياة لديها، فها هي ذي تعيد نرد السعادة، وتداعب بنات القمر/ السعادة والقمر وجهان أثيران لعملة واحدة لدى الإنسان، هي رغبة في الانعتاق وملاحقة الجوار وإحراز المساكنة! هكذا، وعلى هذا النحو:
أرقب السماء الزرقاء
وهي تهدهد قطنها
أخطف قطعة بخيالي
أضعها بحجري
تأخذني في رحلة
للشمس
أعانق بها القمر..

المراجعات:
1-يراجع: نادية محمد “ديوان مواسم الحب” دار يسطرون للطباعة والنشر/ القاهرة/2021م
2-يراجع: د. عبد الرحمن محمد القاعود “الإبهام في شعر الحداثة”/ سلسلة عالم المعرفة/ العدد 279/ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/ الكويت/ 2002م
3-يراجع: د. مصطفى ناصف “ثقافتنا والشعر المعاصر” / الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 2000م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى