نشيد الحياة الصاخب (1)

جمال قيسي | روائي وناقد وتشكيلي يقيم في بغداد

في أكثر من حديث سابق أو مقارنة قمت بها في مقال سابق، بين نزار قباني وبدر شاكر السياب، كانت الكثير من الردود تأتي منفعلة والبعض ينزل باللعنات على القباني باعتباره ماجن كبير  ومؤسس لثقافة ( إيروتيكية )  أو لنقل إيحائية جنسية والأمر الأكثر غرابة، إن الكثير من أدباء سوريا وهم على العموم على مستوى رفيع من الإبداع  في الأدب العربي لهم نفس الموقف  بل إن البعض  تحامل عليه .

في غمرة الحياة، (طبعًا في سن الشباب) عندما كنت طالبًا في الصف المنتهي، أتذكر في  بداية الفصل الدراسي وفي درس اللغة العربية  والحصة المقررة كانت  للنصوص الأدبية  ودخل علينا أستاذ المادة، وهي المرة الأولى التي  ألتقيه، بصراحة كنت  قد غبت حصتين سابقتين له لأنها كانت مخصصة في النحو والقواعد  والتي كنت أكرهها  حد تجرع السم، كانت المحاضرة مخصصة لشرح بعض أبيات من قصيدة المتنبي ضمن المنهج المقرر، كنت مُلزمًا بالحضور بسبب موضوع الغيابات الأمر الذي يعني أنني  كنت بحضور جسماني لاغير وذهني خارج قاعة الدرس وانتبهت إلى الأستاذ  ذي القامة المتوسطة والمربوع  مع سحنة جنوبية غامقة، كان قد تخطى عقده الخامس بملابس تقليدية وابتسامة غير حقيقية، حينها قررت أني سأصم أذني  كمن صب فيها قارا، ترى ماذا سيقول هذا العجوز غير الترهات؟ صمت لفترة غير وجيزة  مما أثار انتباهنا  حتى عم الهدوء القاعة وأخذ يكتب بالطبشور على السبورة  وانجلت  العبارة  بعد  أن تقدم باتجاهنا مشيرًا إليها وكأنه يقول تفرّسوا بها، كانت العبارة من كلمتين ” الصورة في الشعر”  الأمر الذي نجح فيه إلى انتظار ما سيكون عليه الدرس

وشرع بمحاضرته قائلًا: الحركة صفة الحياة وحقيقتها، اليوم ستكون محاضرتنا خارج المنهج ستتعلمون كيفية الرسم بالكلمات وهو ما يدعونا إلى أن نقدر الأدب بأنه من أرقى درجات الوعي البشري واليوم سأشرح لكم بعض أبيات نزار قباني وهو سيد الصورة في الشعر العربي، لماذا نزار قباني؟  فقط  أريدكم  أن تعرفوا  أن أكثر شاعر تم قرائته من ملايين البشر هو نزار وهذا وحده مؤشر على أهميته وكلام كثير وأخذ يستعرض بعض النماذج من شعر القباني وشعرت بأنه يسبح في عالم آخر  بعيد كل البعد عن الأرض  وأتذكر منها:

يامن صورت لي الدنيا كقصيدة شعر

وزرعت جراحك في صدري

وأخذت الصبر

إن كنت أعز عليك فخذ بيدي

فأنا مفتون من رأسي حتى قدمي

وقال انظروا إلى كم الصور والمشاعر المنعكسة في هذا وتفكروا في مقطع:

يا كل الحاضر والماضي 

يا عمر العمر

عشقت نزار القباني واللغة العربية والأدب  من حينها، وفي لاحق الأيام عندما أصبحت مولعًا بالأدب، زاد شغفي بنزار قباني واجتهدت بالبحث والتقصي عن سر إبداعه، فخلاف الموهبة العبقرية وظروف تنشئته، كان للبيئة الشامية دور مهم، لأنها تشبه بستان الورد بألوانه الزاهية وضوع للزمان الشرقي الحقيقي وهو ما لمسته عند التجارب الشعرية للمبدعات والمبدعين    في سوريا، نزار أيقونة الإبداع الأدبي وهو أكثر شاعر قُريء عبر التاريخ في زمن محدد  عندما كان على قيد الحياة وبعد رحيله وربما سيبقى الرقم واحد بمطلق الأحوال، وسنحاول أن نستمتع بقراءة إحدى قصائده الجميلة في الحلقة الثانية من هذا المقال  ورحم الله الأستاذ ( مهدي قدرة) مدرس اللغة العربية الذي جعلني أعشق القباني. والأدب  العربي .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى