“كيف بدأ الخلق” دعوة لإعمال العقل أم لإعجازه؟!
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
لا تزال قضية بدء الخلق عصية على التحليل الكامل رغم بعد الهوة بين مرحلة البدء وإنجاز العقل، فلا يزال العقل رغم عظم إبحاره في لجة العلم، واندياح دائرة نفوذه الكشفي والتقني، واتساع بسطته في أرجاء الكون (فضائه وأرضه وسمائه) إلا أنه في هذه القضية لم يزل يقف مشدوها.. لم يأو بعد إلى سند علمي متين يثبت “كيف بدأ الخلق”..
وقد طاشت محاولات أينشتين (1929) التي ظن أنه اقترب فيها من معادلة [“كيفية بدء خلق الكون” والتي كان يطلق عليها “نظرية كل شيء” بل وجعلته كما عده العلماء حينها متأخرا عن الوسط العلمي الفيزيائي.. وهو الذي كان يردد دوما “أريد أن أعرف، لو كنت مكان الله… كيف كان سيخلق الكون”، ويقول:”إن الله لا يلعب النرد، ويرد عليه (نيلز بور) ” لا يمكنك أن تقول لله ماذا سيفعل بنرده”].(1)
وهذه الدعوة القرآنية للسير في الأرض والنظر بعين العقل والفكر” قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)”[العنكبوت]، ترى.. هل يطرحها القرآن لإعمال العقل البشري في القضية فيطّلع من خلال البحث والعلم على صدق دعوى الخلق وبدعة صنعته وما يحويه من جمال وجلال وكمال؟ أم هي دعوة يصل في منتهاها العقل البشري إلى التسليم لله بالخلق، والإقرار بالعجز؟!
لم يرد لفظ (السير) ــ وهو الانتقال من جهة إلى جهة ممعينة في الخصوص” (2) ــ في القرآن إلا لغرضين: “السياحة والتجارة، أو النظر والتأمل ” والاعتبار بأحوال الأمم من قبل(3) ، وكلها أمور تقتضي إعمال العقل واستحضار القلب للفهم والتبصرة، كما يستلزم الاستغراق في جزء من الزمن لتحقيق الفائدة منه ” سيرا فيها ليالي وأياما آمنين” (سبأ).. ومنها قوله “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)”[الحج].. وقوله: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)”[غافر].
وهو يختلف عن (الضرب): بمعنى السير يحتاج لشيء من القوة، ويكون للجهاد أو لطب الرزق وكلاهما يحتاج إلى جهد (ضرب: ذهب وأبعد وأسرع في السيرــ (4)، وهو الأمر الذي لا يحتمل معه لا السياحة ولا التعلم ولا الاعتبار لأن الإنسان يكون فيه في حالة من الجهد والحفز والسعي، يتعذر معه الالتفات أو الاسترواح لشيء من العلم والاعتبار “وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”[المزمل].. “وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)”[النساء].
أما المشي فيكون على القدم، ولمجرد الانتقال وليس بالضرورة توجه إلى هدف محدد(5)” ( “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)”[الملك].. “إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.. “[طه].. “فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ..”[القصص].
ولذا جاء لفظ السير في الآية موحيا حسب ما تقتضي عملية البحث والنظر عن بدء الخلق، وهو أمر معجز في خلقه، ومبهر أيضا للعقل البشري، ثم أمر بالنظر لأنه مادة الاعتبار والتفكر وثاني وسائل الإدراك الموصلة للعقل، حيث تقع العين في السير على كثير مما لم تألفه وإن كانت ترى مثله من قبل، لأن إلف الأشياء وملازمة رؤيتها ربما يمنع أو يغفل عن الوقوف بنظر الفكر لديها، أما بالمفارقة والسياحة فيقرع النظر والعقل من شواهد الخلق وعجائبها وتنوعها ما يستوقفه ، ويستلهم كوامن الفكر، ويستحث التدبر.. ولذا جاء الأمر بالسير والحث عليه في أكثر من موضع وبأكثر من لفظ [أفلم يسيروا (4)ــ أولم يسيروا (3)ــ قل سيروا (4) ]..
وربما رأينا من الفوائد مما وقف عليها بعض المتأملين من الفقهاء والشعراء والأدباء من عبر السير والسياحة، منها : غلاء القدر، وعز المطلب، وشوق العودة، إلى غيره من التزود من صقل التجارب وزيادة المعرفة، وطلب العلم .. ل
و كان في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل. (6)
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصبإ
ني رأيت ركود الماء يفسده
إن سال طاب وإن لم يسر لم يطب. (7)
تلك الطبيعة فقف بنا يا ساري
حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزت
روائع الأيات والآثـار (شوقي)
كما أن في السياحة والسيارة يرى الناظر من تنوع قطع الأرض وجمالها بدعا “ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود” (فاطر) ، وأنواع الصخور والبحور وجبال الجليد وغيرها، وكلها شواهد ودلائل تدفع العاقل على أن يبحث ويمعن البحث عن هذه القضية المعجزة “كيف بدأ الخلق”.
“وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ السَّيْرَ يُدْنِي إِلَى الرَّائِي مُشَاهَدَاتٍ جَمَّةً مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَرَضِينَ بجبالها وأنهارها ومحويّاتها وَيَمُرُّ بِهِ عَلَى مَنَازِلِ الْأُمَمِ حَاضِرِهَا وَبَائِدِهَا فَيَرَى كَثِيرًا مِنْ أَشْيَاءَ وَأَحْوَالٍ لَمْ يَعْتَدْ رُؤْيَةَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا شَاهَدَ ذَلِكَ جَالَ نَظَرُ فِكْرِهِ فِي تَكْوِينِهَا بَعْدَ الْعَدَمِ جَوَلَانًا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ حِينَمَا كَانَ يُشَاهِدُ أَمْثَالَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي دِيَارِ قَوْمِهِ…
وَجِيءَ فِي جَانِبِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّ السَّائِرَ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَرَارٍ فِي طَرِيقِهِ فَنَدَرَ أَنْ يَشْهَدَ حُدُوثَ بَدْءِ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ مَخْلُوقَاتٍ مَبْدُوءَةً مِنْ قَبْلُ فَيَفْطِنُ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا إِنَّمَا أَوْجَدَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَمْثَالِهَا فَهُوَ بِالْأَحْرَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا.” (9).
-
الجزيرة الوثائقية (سيمفونية أينشتين الناقصة)
-
لمسات بيانية ـ (د فاضل السامرائي)
-
تفسير الشعراوي
-
المعجم الوسيط
-
لمسات بيانية ـ (د فاضل السامرائي)
-
(لامية الطغرائي)
-
(ديوان الشافعي)
-
لمسات بيانية ـ (د فاضل السامرائي)
-
تفسير ابن عاشور