شبهات حول الرسول والصحابة.. نقد ملابسات ونقض حكاية زواج النبي بعائشة الفتاة الصغيرة

 

عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي | سلطنة عمان

لم يكن في ذهني العودُ إلى الكتابة عن شبهات تطرح حولَ الرسول صلى الله عليه وسلم يوم كتبتُ النسخة الأولى منه ردا على د. خالد الجديع، ومقطعه الصوتي أو دردشته الليلية المثيرة للجدل، إلا طيفا أيقظني من نومي عند الفجر، وقد فَرَدَ في عينَيَّ بعض مقدمة للمقال (والذي جعلته بين معكوفتين آخر المقدمة)، مؤكدا بذلك على ضرورة كتابتي عن شبهة أخرى تثار حول النبي محمد في زواجه من عائشة الفتاة الصغيرة، وما يناله عليه السلام في ذلك من كلام، لم يَفتُرْ فيما يظهر عبر الأعصر، بل زاد حدةً أيامَنا هذه وفتنةً لمحبي النبي من أتباعه، وتحديًا لتلك المحبة وتشكيكا، فلم يَسعْني والحالُ ذاك، لا سيما بعد حواري وولدَيَّ المبارَكَيْنِ حولَ القضية، وقد ابْتُلِيَا بمن يريدُ أن يزرعَ فيهما الشكَّ وغيرِهما في نبيهم عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي، وأنه رجل مزواج، ذو شبق جنسي، لم يفرق في زواجه بين المرأة الناضجة والفتاة الصغيرة، فضلا عن العدد المفتوح له في ذلك، وأنا في مقامي هذا لا يعنيني المشككون والمغرضون، (فليس إياهم من أريد وما أريد)، فمنهم من لا شُغلَ له ولا غاية إلا النيلُ من الإسلام ورسوله، بل ومن الإنسان ورسوله، وليس رغبة في حقيقة، ولا طلبا لمعرفة، ولكن ما يعنيني ضحايا تشكيكهم من العالمين، مسلمين أو مهتمين، الذين لا يريدون إلا المعلومة والحقيقة، هم أولاء من أريد وما أريد.

الثابتُ والمتغيرُ
تعمل ثُنائيةُ الثابتِ والمتغير في كثير من إشكالات الحياة الاجتماعية على تنقيتها ورفع الغبش عنها، فليست هي قاصرةً على الحقل العلمي من رياضيات وكيمياء وغيرها، فهي تقومُ على تعيينِ الثابت ونتيجته الطبيعية، ثم إذا ما كانت هناك نتيجةٌ على غير ما كانت عليه الأولى، يُبحثُ عن المتغير حينها والطارئ، لأنه لا تكون تلك النتيجةُ إلا لذلك التغيير، لبقاء الثابت دون تحول.

إن رغبةَ النكاح للمرء إنما هي رغبةٌ لها أسبابها الجسمانية، مع عدم إغفال الجانب البيئي أو التربوي أو النفسي، ولها كما غيرِها أوجٌّ تنشط فيه، وركودٌ تفتر و تخمل فيه من سني الإنسان ومراحله العمرية، ولتعلقها بالتركيب الجسدي والهرموني للمرء فهي ثابتة، وليست معرضةً من ثَمَّ للتغير في الأصل، ومن هذه الزاويةِ يمكن عرضُ جانب محمد الإنسان قبل بعثته، لتعيين الثابت عنده من ناحية هذه الرغبة، وأين يقع كإنسان.

الجموحُ في الرغبة
إن القارئَ في الأثر يجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام في سيرته يُسقطُ دعوى أو تهمةَ الرغبة الجامحة للزواج، عبر حقائقَ وشهاداتٍ مبسوطة في هذا المقام، فهو؛

١- قد تزوج متأخرا نسبيا في سن الخامسة والعشرين، بالنسبة لسن الزواج يومئذ، وقد عُلِمَ عدمُ حاجته أو فقر أسرته وجده، وفي تأخر زواجه دلالةٌ على اعتدال رغبته الجنسية.

٢- لم يؤثر أنه كان صاحبَ خليلاتٍ في أوج شبابه ونشاطه الهرموني والعاطفي قبل زواجه، ولا يحضر مواطنَ اللهو والقينات والرقص والغناء، بل كان منقطعا متبتلا ناضجا أمينا، ومن كان ذاك حالُه، فأنى يأتيه على كِبَر، وكيف يُحكم عليه بالجموح الجنسي؟!
٣- أول ما تزوج تزوج بامرأة تكبره بخمسة عشر سنة، فإن كان ذا ميل للفطرة لاختار من صغيرات السن ما يسد ويرد.

٤- عدمُ زواجه واكتفاؤه بزوجته الأولى التي تكبره إلى وفاتها بعد البعثة بعشر سنين، أي وهو في سن الخمسين، يدلان على اعتدال رغبة الرسول للزواج، وبُعدِه عن أي حالة شاذة أو جامحة.

٥- لم يتزوج بكرا إلا واحدة، فبين مطلقة وأرملة كُنَّ الباقيات، وهذا مرة أخرى يُبْعِدُ عنه الجانبَ الجامح في الزواج، الذي يراد أن يلصق به من قبل المتربصين.

٦- أن زواجه المتعددَ جاء متأخرا بعد خديجة وكُرِّس في سنينَ لم تزد عن سبع (ابتدأ و عمره ٥١ الى ٥٨ سنة) قريب الهجرة وبعدها، وبقي بعدها سنين لم يتزوج إلى وفاته عليه السلام (من ٥٨ الى ٦٣ سنة)، فإن كان ذلك لجماح طبع عنده، كان ليكون بعد تلك السنين مستمرا كما كان ليكون قبله!

تشكل النقاط أعلاه دليلا على الثابت في حال الرسول من كونه غير مزواج بل رجلا طبيعيا معتدلا، وأن كل النتائج أعلاه إنما هي النتائج الطبيعية لحال نبي الإنسانية في موضوع الزواج، مؤكدة على طبيعة هذا الجانب عنده كإنسان، واعتداله.

الرسول والرسالة
لقد أنيط بالنبي الأكرم الرسالةُ العالمية وهو في الأربعين من العمر، مما شكَّل تغيرا وتحولا في حياته كإنسان، وفي توزيع أولوياته في الباقي من عمره، وهو ما يجعل كلَّ الأعمال التي تلت البعثةَ النبوية (سياسية واجتماعية وثقافية إلخ) خاضعة لتلكم الرسالة ولتحقيق غايتها، ولو اختلفت نسبة ذلك، كما لا ينفي وجودُ الرغبة الذاتية للنبي في واقعة أو أخرى علاقةَ ذلك بالرسالة من زاوية أو أخرى، لا سيما في مشوار زواجه عليه السلام بعد البعثة، فهو وإن تحصلت رغبة منه في حالة زواج بعينها، إلا أن ذلك لا ينفي وجود غاية تتعلق بوضعه الجديد من كونه رسولا نبيا، وهدفٍ يتحقق من خلال ذلك الزواج، لا سيما وقد بَيَّنَا الثابتَ من أصلِ موقف النبي من الزواج ووضعَه الطبيعيَّ كما مر، وربما من أدل الأمثلة على ذلك زواجُه من زينب طليقةِ ابنه بالتبني زيدِ بن حارثة، فقد كانت نسبةُ الجانب التشريعي والمتعلقِ بالرسالة المحمدية أظهرَ من الرغبة الذاتية، وفي سياق الآيات دلالةٌ على ذلك وبيان؛ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)

زواجُه عليه السلام بعد البعثة
ربما تتضحُ ملامحُ وجود العلاقة بين زيجات النبي صلى الله عليه وسلم والرسالة بتتبع الآيات القرانية المخاطبة له في ذات الشأن -وقد سبقَ أن ذكرَنا آيةَ تزوجه من زينب- ونثني بآية ما أحل للنبي من النساء، ووننتهي بآية منع الزواج عنه فوق من عنده أو تبديلِهنَّ؛

1. (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)..الأحزاب ٥٠…
ففي الآية بيان الخصوصية دون المؤمنين في زواج النبي وأصناف من يتزوج وطرقه، ولو بالهبة، ومن ستهب نفسها إلا المُتسيِّدة في قومها المتحررة صاحبة الكلمة؟! وهو فتح واسع، يُستشعر من ضمن فوائده كثرةُ الأصهار وأنواعُهم، وتسكينُ القلوب بتعويض الحنان عن من فُقِد وما فقد، مما قد يُمَكِّن للدولة وييسرُ لها، والناظرُ في فترة عملية زواجه النشطة والتي كانت بعد موت خديجة يجدها قصيرة وفي بدايات الهجرة أو قبلها بقليل، ولا تستمر إلا لبضع سنين كما مر (سبع سنين على أبعد الأقوال)، وهي مدة عند عرضها على الثابت في وضع الرسول الجسماني من حيث الزواج تقريبا ٤٧ سنة ( ١٥-٦٢ سنة) لا سبب لها طبيعي، كما إن كان هناك سبب، فلا سبب لتكريسه في خمس سنين أو سبع وانقطاعه في خمس أو ما قارب مما بقي إلى وفاته، فلم يبق إلا خدمة الرسالة، والرغبة إنما كانت تبعا لها…

2.( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)…الاحزاب ٥٢..
مع حكم الآية على النبي بالتضييق عليه فيما وسع لغيره وجاز هنا، بعد اتساع له هناك في الآية السابقة، فإن هذه الآية تؤكد على ارتباط زيجات النبي وأنواعها في جانب منها بشكل نسبي متفاوت بينها وبعضها بالرسالة النبوية، من ثم جاء المنع هنا من الزواج ولو بتبديلهن، والأمرُ أو النهي لا يأتي إلا بانتهاء مهمة رئيسة لها أو بدايتها، فلما كان الأمر في زواج النبي كذلك في النهاية، فإن ذلك يؤكد على توظيف زواج النبي في خدمة الرسالة العالمية، وإن تحصل الجانب البشري فيها.

زواجُه من عائشة

لمحة
لقد وقف المسلمون من رواية زواج النبي عليه السلام من عائشة موقفين رئيسين ضدين، فبعضهم سلم لست سنين عقدا وتسعا دخولا، معتمدين على رواية عن عائشة صريحة في البخاري بذلك، وبعضهم بذل جهدا كبيرا لإثبات أن دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة إنما كان وهي ابنة ثماني عشرة سنة، ربما تأثرا بسن التكليف القانوني والوضعي هذه الأيام، معتمدين على كتب السير والتاريخ في المقام الأول، وعلى بعض الإشارات من كتب الحديث ذاتها، وهناك بالاضافة إلى الموقفين أعلاه من يرى أن دخوله بها كان وهي ابنة اثنتي أو ثلاث عشرة سنة، كما في الإصابة عند ابن حجر.

صغيرة وكبير
بالعود إلى الثابت من واقع الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الرغبة من الزواج الطبيعية، وعدم الجموح، وقد دللنا عليه فيما مر، فإنه لا سبب -وذاك حاله في شبابه- لزواجه وهو كبير من الصغيرة لمجرد الزواج، من ثم يبقى بُعْدُ الرسالة، هو الذي يجب بحثه في هذا الزواج، ليستبين أمرُه وسرُه، وهذا ما نحاول تجليتَه فيما يلي؛
١- جاءت عند البخاري رواية يحكي فيها الرسول أمره عند عائشة وفيها ” أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ ( أي رأى صورتها في قطعة من حرير أو رآها في ثوب من حرير ) وَيَقُولُ (صوت ما): هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ “… وفيها يظهر أن هناك تهيئة لهذا الزواج، وربما هذه الرؤيا بمرتَيْها الاثنتَيْن هي ضمن ما شجع النبي عليه السلام على تحقيقها، والزواج بالفتاة الصغيرة عائشة، على ما ظهر من الثابت من طبيعته غير المزواجة والجامحة، ثقةً واطمئنانا إلى غيب ربه، بل وحتى وحيه وأمره.

٢- أمر الله سبحانه نساء النبي بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة؛ (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، وفيه تأصيلٌ لدور البيت النبوي المتمثل في نسائه في الإبلاغ وعون الرسول عليه، فهن شريكاتٌ معه في تبليغ الحكمةِ والذكرِ الذي يسمعنه في بيوتهن، من ثم فالعدد والتوزيع العمري هما عاملان مساعدان في انتشار الحكمة وتبليغها، وتعليمِ الناس بأثر النبي عبر أزواجه، وهذا ما كان في بيته، فزوجاته في العمر يتابينَّ بين المسنة والصغيرة، وفي الأصول بين العربية وغيرِ العربية، وفي الدين بين من كانت من بيت أو بيئة مسلمة أو نصرانية (مارية) أو يهودية (صفية).

٣- في عدم دخول النبي على عائشة مباشرة- بعيدا عن تعيين السن، ستا أو عشرا أو خمس عشرة سنة- ودخوله عليها بعدها، تسعا أو ثلاث عشرة أو ثماني عشرة، تدل على تَحَيُّنِ الرسول عليه السلام وقتا بعينه، وذلك التربصُ يدل على كون الدخولِ سيكون بمجرد حلول الوقت أولِه، لأنه منتَظَرٌ لذاته أي الوقت، ولأن المقام مقامُ نكاح وزواج، فلا يكون الوقتُ إلا ما نحى الله إليه في الآية الكريمة (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) النساء ٦، فهو مبلغ النكاح، وفي زواجه عليه السلام في ذات الوقت بسودة الكبيرة في السن والعجوز، بعد زواجه بعائشة، وقبل الدخول بها نفيٌ لرأي من يرى أن انتظاره إنما كان عن عوز وفاقة مادية، وأي فاقة وهو رئيس المدينة، وأي فاقة ومن زوجه صاحبه أبو بكر وصديقه؟! فلم يبقَ بذلك إلا النضج البدني والجسماني لعائشة سببًا في انتظار الثلاث السنوات بين زواجه بها ودخوله عليها، وإن كان الأمر ذاك فيرجح دخوله عليها بالسن الأوسط بين الثلاثة وهو اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة سنة، ويبعد السن الأخير ( الثماني عشرة سنة) لتحقق البلوغ قبل ذلك أولا، فلا سبب لتعيين الثامنة عشرة، دون السابعة عشرة، دون السادسة عشرة، دون ما سواها، ولمعارضته ظاهر قولها: ” أدركت والدي مسلمين” ثانيا، والثامنة عشرة سن يجعلها تدركهما غير مسلمين في الجاهلية، وقبل البعثة ببضع سنين، أما الرأي الأول، وهو سن التسع سنين، فهو وإن قرب كون أن فترة النضج البدني للفتاة قد يبدأ بالثامنة حسب مواقع متخصصة بالرد على التساؤلات والتنوير ( https://www.ubykotex.com/en-us/periods/puberty/what-is-the-youngest-age-that-a-girl-can-start-her-period )، إلا أن ذلك يبعده جوانب أخرى في ذات الرواية، والتي فيها أن عائشة أدركت أبويها مسلمين، وأدركت هجرة أبيها الحبشة في السنة الخامسة من البعثة، فلا يكون عمرها حينها أقل من أربع سنين، وهو ما يبعد الأول (الذي يقترح أن عمرها سنة أو أشهر فقط أو لم تولد بعد).

٤- كون عائشة أصغر زوجات النبي، وأدركت أبويها مسلمين، ولم تعهد زواجا قبله، ولم يكن ليكون لها زواجٌ بعد النبي عليه السلام، تحريمًا من الله في قرآنه على المؤمنين زواج نساء نبيهم من بعده، فإن في إخلاص الله حياةَ عائشةَ وذاكرتَها -دون الزوجات الأخريات- إلا من الإسلام، وبالتالي صفاءَ ذاكرتها إلا منه، وفورانَ الشباب، والاستعدادَ الفطري والجسدي للصبر في سبيل تحقيق الغاية، كلُها مقوماتٌ قوية، واستعدادٌ فطريٌ للإقبال على الغَرف من معين المصطفى، والتربية في جامعته، فهي بذلك كانت أنسبَ من يبقى بعد الرسول عمرا مديدا، ممن يَطِّلعُ على حياة بيت النبي، وعلى النبي من الداخل، الداخلِ الخاص الذي لا يطلع عليه إنسانٌ إلا زوجةً وزوجًا على بعضهما، وعلى تبليغه وتعليمه للناس! وللحرص على طول مدة ذاك فقد كانت لصغر سنها وقتَ وفاته عليه السلام -فقط ثماني عشرة سنة- أقدرَ من يبلغ من زوجات النبي ما وجهت إليه الآيةُ من ذكر الكتاب والحكمة ونشرهما للناس، وقد تحققت خدمةُ الرسالة من لدن عائشة، فكانت مددا للنبي لأربعين سنةً بعده ويزيد، ولم يكن لزوجة من زوجاته في نشر علم بيت النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لها، ويُستطاعُ معرفة تحقق ذلك اللطفِ الذي شاءه الله من هذا الزواج، والذي ابتدأ برؤيا وانتهى بزواج، بكمية العلم والتراث الذي قدمته عائشةُ لهذه الأمة، وأورثته أجيالها المتعاقبة، رضي الله عنها وأرضاها، مقابلَ زوجات النبي الأُخَر، ونوعيةِ المواضيع التي قدمتها.

خلل موضوعي
يقوم المنتقدون على النبي زواجَه من عائشة بالتشنيع عليه بسبب صغر سنها، وكونِها فتاةً لا تزال تلعب، وهو أمر غير منضبط، لأن الحاكم عليه والناقد له إنما ينطلق من مخزون ما عندَه من بيئته، وزمانه ومكانه، وهي أمور متغيرة، فليست عاداتُ قوم في مكان ما كأفريقيا من حيثُ الزواجُ سنًا وعمرًا وطقوسًا هي عاداتِهم في أوروبا مثلا في زماننا هذا، وليس عادةُ الزواج ولا عمرُه في أوروبا اليوم هي العادةَ وهو السنَّ في الأعصر السابقة لأوروبا ذاتها، من هنا فالتحاكمُ إلى الزمان والمكان، ومحاكمةُ أزمنةٍ وأمكنةٍ عليه سابقةٍ أو حاليةٍ هو أمرٌ غير علمي ولا موضوعي، ومؤداه دائما إلى التباين، والمَخْلَصُ من ذلك كلِّه هو الرجوع الى الفطرة والطبيعة والتكوين الجسدي للإنسان، ففي تحكيمها تتمثل الموضوعيةُ والعلمية بأقصى تجليها، وما دامت الطبيعةُ البشرية تنطق بجاهزية الكائن البشري ذكرًا أو أنثى للزواج بعلامات لكل منهما، ففي وضع قيد مطلق عليها في كل زمان ومكان هو تحكمٌ محضٌ، وتسلقٌ لغير متسَلق، فالطبيعةُ والفطرة أصدقُ من ينطق بجاهزية الإنسان من عدمها، وما دون ذلك فهو محضُ هوىً، وتحكمٌ وعادةٌ لسياقات مختلفة لا دليلَ عليه ولا علمية فيه، والأصل في حكم الفطرة في هذا الجانب الاجتماعي الإطلاق، وإنما يُقَيَّدُ في زمانٍ أو مكانٍ ما بالضرر الذي قد يصيب الإنسانَ في ذلك المحيط لأسباب متغيرة، مثلا الدراسةُ عموما في أيامنا وأوطاننا ضابطٌ طارئ مستحدث، ولكنه معقولٌ ومنطقيٌّ لوضع سن للزواج جديد، يتناسب والحفاظَ على ذلك الحقِ للفتى والفتاة، لأنه بدونه ضياعٌ لمستقبَل، وخلخلةٌ لأسر ومجتمعات وأوطان، وهذا قد لا ينطبق على أماكنَ أخرى وأزمنةٍ مغايرة، حيثُ لا موانعَ علميةً أو اجتماعيةً تمنع التزاوجَ في سن مبكرة، بل في تأخيره ربما يكون ضُرٌّ، مثلًا تأخيرُ القوى العاملة في مزرعة أسرية منتجة بتأخير وجود الأولاد المعينين لأبيهم للزراعة والفلاحة، والتي كانت يومًا ما دخلًا رئيسًا وقويًا للمجتمع، يعدد ضررا اقتصاديا ومعيشيا على الأسرة في تلك الظروف، فكان الزواج الأبكر مطلبًا لتجاوزه، بينما بات تأخيرُ الزواج اليوم نفعا لتبدل مصادر الرزق وتغيرها.

أخيرا صدق الله العظيم في شهادته لنبيه (وإنك لعلى خلق عظيم)، وعلى المؤمنين التمسكُ بهذه الآية في معرض أي تشكيك من قبل الآخر، واعتناقُها بشكل مطلق، وأن يُتَنَبهَ إلى منهجية المشككين وأساليبهم الملتوية، فهي تقوم على الانتقائية من كتب لا تتساوى في الثبات عن النبي وسيرته، كما أنهم يعرضون عن الأدلة التي تصادم ما انتقوه، ولو كانت قرآنا كريما، مثاله شبهةُ صفية وقتل من بلغ من ذكور قومها، والتلاعب عاطفيا على هذا الحبل، دون العروجِ على غير ذلك من روايات تقلل العدد لأربعين من المقاتلة والكبار دون عموم البالغين، ولا على تأريخ القرآن للحدث (فريقا تقتلون وتأسرون فريقا)، ودلالةِ ذلك على أن هناك أسرى رجالا غير النساء، لكونهم على صعيد واحد في الميدان، والأسر للرجال، والسبي للنساء، وعدمِ التعرض إلى خيانة بني قريضة لعهدهم وممالأتهم للأحزاب على حرب المدينة، وغير ذلك من أقوال مرسلة يجب التنبه إلى عوارها، وسيهيئ الله لكل ما يعترضهم من إشكالٍ مُثارٍ وشبهةٍ يُراد بها الخلخلةُ مخرجًا وسبيلًا، ويبقى الأصلَ حبُ الله وحبُ رسوله وحبُ الإنسان أين كان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى