تيه في غمرة التيه.. قراءة نقدية في قصيدة وسام العاني

هدى عبد الحر حميد | العراق – رئيس قسم التحقيقات

    الثقافة حدث يفتح أفقا وحفر متأن ٍ في نسق قارٍ وإرادة صادقة للتغيير وتنمية فكر دائمة وتفعيل عطاء والأخذ من كل علم بطرف وهي متابعة حثيثة لكل حراك معرفي ،صغير وكبير  وتتبعه أينما يكون سواء في مواقع الصحافة المسموعة والمقروءة والمرئية أم الورقية و الإلكترونية وخلال متابعتي التي لا تنقطع وجدت ضالتي هذه المرة في قصيدة …وأي قصيدة: (في غمرة التيه).

   ففي مهرجان الشارقة للشعر العربي (دورته الثامنة عشرة) ومع الشاعر الأخير، مسك ختامها :(وسام العاني) وهي ليست المرة الأولى التي استمع إليه و أقرا قصيدته، لكن الأمر هنا مختلف تماما، حيث جاء الاختلاف بحجم بُعده عن الوطن وعمق المعاناة ومرارة الاشتياق الذي عانى منه العاني وكثر غيره من الذين بقوا ما بين نار الغربة ونار البقاء في الوطن، وهذه القصيدة فيها مغايرة عن قصائد مجموعته: (كالبحر يمشي حافيا) وتختلف أيضا عن كل ما تتبعته من قصائده السابقة سواء الورقية أو التي يلقيها في لقاء تلفزيوني أو مهرجان أدبي …..قصيدة العاني نبراس معرفة وعشق سنبلة تظلّنا بمياسم الفرح المعبأة بنشوة الحزن العراقي الشفيف، لترتسم هواجسنا وعذاباتنا في وهج إيقاعاته النامية نمو الباسقات على جنبات الفراتين وهواجس اليمام والنوارس الدائرة حول شط العرب، والحنين الجارف إلى جماليات حناء الفاو وهو يُنقش على كفوف العراقيات وسواعدهنّ.

  يأخذنا  العنوان ( في غمرة التيه) إلى موضوع القصيدة ومناسبتها وهو (الغربة- الاغتراب) حيث شعور البعد عن أرض الوطن و مكابدة مرارته الكثيفة، نعم الموضوع  ليس جديدا على الشعر والشعراء بل له تأريخه الطويل وله أعماقه وعوامله الاجتماعية التي تنتجه تبعا لحالات الوجود والواقع التي تعيشها ( أنا) الشاعر، لم تكن غربة جغرافية فقط بل كانت روحية أيضا وكما يقال :(أن الاغتراب قدر الشعراء) ولأن الشاعر هو سلطة الضمير الحقيقي المتحدث بضمير الشعب والوطن وهمومهما فيأخذ وصف الظروف السياسية التي حلت ببلده العراق والظلم والتعسف من جراء الحكام والأنظمة الدكتاتورية، نتيجة الظروف التي عانتها السياسة العراقية قبل وبعد (2003) من ظلم مرير، يستهل الشاعر قصيدته بوصف دقيق لحال وطنه  بجملة(في غمرة التيه) دليل التيه أو الضياع وفقدان الطريق وضياع السبيل للوصول إلى المبتغى شيء لم يعد يدل على شيء ولا يعرف جادة الصواب وحيرة مستمرة .

  إنّ سلطة الاغتراب وما يفرضه من ضغوط متعددة داخلية وخارجية، جعلت المتلقي يلحظ  كيف بدأ الشاعر المأزوم بتكرار أسلوب النفي بـ (لا سور ولا باب) :

في غَمرةِ التّيهِ لا سورٌ ولا بابُ

عُريٌ وليس سِوى الأجسادِ أثوابُ

يكرر في البيت الثاني ( في غمرة التيه) كأنها النقطة التي ينطلق منها وهي الأهم ثلاث مرات واحدة بعد الأخرى ولم يكن هذا التكرار عجزا لغويا إنما تكرارا نفسيا يدل على تكرار الأيام وتشابهها ليؤكد تزاحم الهموم  التي تعصف هواجس الشاعر التي يعذبها الاشتياق .

   طوع العاني اللغة لصالحه بحيث جعل كل كلمة  تخدم القصيدة وموضوعها بشكل متناسق وجعلها تحتضن أفكاره وتنطق كما هي مشاعره وأحاسيسه، حيث شحن القصيدة بمفردات الحزن نتيجة الاضطهاد والويلات التي عانى منها 🙁 الأحزان ودخان والحرب والجمر وموت واليتم، وغيرها)، وكأنه يريد أن يرسخ تجربته عبر هذه المفردات .

 

في غمرةِ التيهِ لم تحفلْ بنا رئةٌ

وفي الصدورِ دخانُ البعدِ ينسابُ

لم تشتهينا قُرى الأفراحِ سنبلةً

ولم تغازلْ خُطانا ثَمَّ أعتابُ

مُعتّقٌ صوتُ هذا النّايِ في دَمِنا

ونُوهمُ النفسَ أَن النّايَ كذابُ

   ويصف الشاعر حالة الضياع والتيه الذي أصاب العراق من جراء الأنظمة الحاكمة والظلم والاستبداد من حصار قاس إلى فوضى عارمة بين هذا وذاك وما حل بالمجتمع العراقي الذي أدت إلى غربة ومن ثمّ اغتراب طال كثير من العراقيين فتوزعوا على بلدان عربية أو أجنبية( لم تحفل بنا رئة) كأنه هنا يصف لنا حالة الانعزال أو اللامبالاة التي عانا منها العراقيون وفي نفوسهم حسرة( دخان البعد) كناية عن الاحتراق الذي يصيب الإنسان بمشاعره ونفسه و يصف حالة الحزن السرمدي كأن العراقيين والفرح ندين بعيدين دائما. (قرى) كناية عن المسافة البعيدة والسنبلة القلة القليلة من العطاء ويؤكد البعد بال( بالأعتاب) وهي أول خطوة قبل الوصول بذكر (الناي) وهو آلة عزف قديمة ترتبط  بالحزن، وهي جزء من التراث العراقي ارتبطت بالهوية العراقية:

  مُعتّقٌ صوتُ هذا النّايِ في دَمِنا

  ونُوهمُ النفسَ أَن النّايَ كذابُ

يأخذنا أيضا إلى مقولة للشاعر محمد الماغوط (1934-2006) 🙁 الفرح ليس مهنتي) وهي مقولة  تنطبق على أوجاع العراقيين بشكل دقيق وكأن الوجع لهم ومنهم وهو قدرهم الوحيد وقد عمل الشاعر على تنسيق عناصر الصورة بما يتناسب مع موضوع القصيدة ويستذكر الشاعر الطفولة  :

نُمحى ونُرسمُ فوق الرملِ خارطةً

قد ألْجأَتها إلى الأمواجِ أسبابُ

عندما كان يعبث في التراب ويكتب ويمحو ويرسم ما يشاء ليعود بنا إلى طفولة أخرى مختزنة وهذا ما يفسره علم النفس من تأويلات عن رسومات الطفل التي تتشكّل وتشكل لديه مفاهيم معينة وكأن حال العراقيين كمثل هذا الطفل عندما يرسم كي يعبر عما يدور في خاطره في التراب كأنه العبث إلى (أمواج) وهي كناية عن (الظروف المتقلبة) ليشبه العراقيين بالغابة في البيت : 

أسماؤنا غابةٌ شاختْ مواسمُها

يمشي بها الليلُ والنسيانُ حطّابُ

وهي عادة مليئة بالأشجار وعندما تشيخ وتصفر وتتساقط أوراقها يدب فيها الوهن والصفار فتتحول الأشجار الخضراء الى أخشاب متيبسة يفيد منها الحطاب كما نلحظ في القصيدة حوارا ذاتيا وهو حوار داخلي يدور بين الشاعر وذاته وهو وسيلة للإقناع استخدمها للخروج عن النمطية وكسر الروتين وجعل المتلقي متشوقا ومتوهما وكأن الشاعر يخاطب أو يخاطب شخصا آخر ، لكنه في الأصل يخاطب الذات ويحاورها ونجد ذلك واضحا في البيتين (الرابع عشر والخامس عشر). 

  بدأ الاستفهام من  البيت التاسع إلى البيت الثاني عشر:

 فمَن سيفتح بابَ العمرِ ثانيةً

ومن بأيديهُمُ المفتاحُ قد غابوا

 

ومن سيزرع في الأجسادِ حنطتَها

إذا نواعيرُها بالماءِ ترتابُ

 

ومن يُعيد الصبا في غيمةٍ يبستْ

وصِبْيةُ النهرِ في أحزانهم شابوا

 

ومن سيمحو المنافي من رؤى وطنٍ

يُعبّئُ الخوفَ في عينيهِ أغرابُ

الذي هو بمثابة التحريض على الرد رغم علمه الكافي بعدم وجود رد (ويبقى السؤال بلا جواب) يتجلى في السؤال الأثير وهو ( موعد العودة للوطن)  يكرّر سؤال الغربة بالعودة للوطن ، وهو يكني في هذه الأبيات عن معظم الكفاءات والقدرات والقامات العراقية التي غادرت العراق وقصدت ديار الغربة وبقي الوطن يخلو من ابنائه الاكفاء  حتى أنّه يكرر السؤال/ الاستفهام في أربعة أبيات متتالية (التاسع، و العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر) ففي البيت الثالث عشر :

ترَمّلتْ بعد موتِ النهرِ نخلتُهُ

واسّاقطتْ في سلالِ اليتمِ أرطابُ

 يصف حال العراق بأنه كالمرأة التي رُمّلت فتُركت وايتامها بحزن عميق وكأن النهر هو الرجل الذي ترك النخلة ولا شك أن الماء هو رمز العطاء والحياة والنخل هو سيد الشجر والمرأة هي سيدة البيت أما الابناء فهم ثمار ( أرطاب )، يستذكر الشاعر في البيت الحادي عشر ( صبية النهر) وهم صبية دجلة وأقران الشاعر الذين التقاهم في  صباه… الذين كبروا وشابوا، و هذا السؤال نفسه وبالاستفهام نفسه يكرّر الشاعر (استوطان الغرباء للعراق) ومدى التدخلات الخارجية في شؤونه وكيفية العبث بوطنية هذا البلد ،، يظل بوصف حالة مكابدة الظلم والعدوان الذي حلّ في بلده العراق في قوله :

كُنّا على شرفةِ الأحزانِ في دمِهِ

نَنثالُ أدعيةً والحربُ ميزابُ

وحين أوْدعَنا في حلمِهِ نهَراً

تناهبتْ نبعَهُ الفضيَ أنيابُ

 

وخنجرٌ زوّرَ الجيرانُ شفرتَهُ

غيماً ولكنّهُ بالموتِ سكّابُ

وظلَّ يركضُ في الساحاتِ محترقاً

وفي الجيوبِ يُخبّي الماءَ أعرابُ

يا نجمةً خانَها صمتُ السُراةِ إذا

ما اجْتاحها من جيوشِ الليلِ حُجّابُ

لأنّنا شهقةٌ لا صدرَ يفهمها

ودمعةٌ مالها إلّاكَ محرابُ

 

 

ندور حولكَ والأوطانُ مقفلَةٌ

وأنت كُلُّكَ للأوطانِ أبوابُ

 

أرجِعْ خُطانا إلى شطّيكَ، أيْبسَها

بردُ المنافي، ألا تشتاقُ يا آبُ

  ولم ينس الشاعر الهوية الاسلامية التي يحملها وهي الموسومة (بأدعية) في البيت الخامس عشر تتكاثف الأدعية والابتهالات كما الحروب والأزمات وكأنها بتناسب طردي ، يرجع حالة وصف الانحلال للأنظمة المستبدة تحت قمع السلطة الجائرة ويبين لنا علاقة العراق بدول الجوار وكيفية ممارسة الاضطهاد:(وخنجر زور الجيران شرفته) يعود مرة أخرى لوصف الحالة الغربة والتنقل والتشرد من بلد إلى آخر، والشوق لدجلته وفراته وكأن الأوطان كلها لم تسد فراغ الغربة ،، فيستذكر قصة النبي يوسف (ع) وغيابة الجب (في البيت الثاني والعشرين)

 ورد يوسف من أقصى غيابته 

 ذئب المواجع يا يعقوب جَواب

وفيها يشبه حال العراقيين بالنبي يوسف (ع)  

   والعاني بعد هذا التطواف الجميل والآسر لم يبتعد عن الموروث العربي والعقدي الذي نهل من موارده العذبة فقد أخذ من القرآن الكريم مرة ومن التراث الشعري مرة أخرى لينتج لنا قصيدة ذات هوية عراقية أصيلة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أحبائي
    الإغتراب ليس قدر الشعراء وحدهم لكنه قدر كل المبدعين الحقيقيين
    المبدع الحقيقي يشعر بغربة دائمة عن عالمه لأنه دائما من الحالمين
    المبدع يحلم بعالم العدل الذي يعيش فيه بشر روحهم الجميلة تدل على أنهم من الخيرين الطيبين
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم إلى حسن التعليق وآدابه….واحترام بعضنا البعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    جمال بركات…رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى