أدب

قراءة موجزة لقصيدة”سيدة الأكوان” للشاعرة السورية نرجس عمران

بقلم: غازي أحمد أبوطبيخ الموسوي
أولا – النص:
هلتْ بشائُرك أيٌّها الشَّهيد
كم كان حلوًا
مذاقُ دمك
في فم التراب ؟!
وأنت يا مَن زرعت أسراً
وحصدت نصرا
فتفتحت أكمام الخلود
بكفيك أيَّها الأسير
ليكن فصلكَ القادم
هو ربيع الرُّجوع
إلى بيدر السَّلام
أمي
أبي
أختي
أخي
ابني
وما تبقى لي من كلِّي
هيا تهادوا فرحا
فطهر الدُّموع
الذي غسلنا به
سواد ليالي القهر
أسفر عن
صباحٍ أبيضَ الوجه
يتهالك ظهره رغدا
و رائحة الفرح
فاحت
من جروح
الرُّكام و أنينِ الخراب
وأخيرا
أسدل صبرنا ستارته
على مشهد النَّهاية السَّعيدة
عظيم هو
ما يغلي في أرواحنا
من أحاسيس

آن الآن للحق
أن يفرد أساريره
في أجسادٍ
تحولت إلى قدور
لتطهو السَّعادة
وتقدمها في
طبق الشِّفاه
وطبق العيون
وطبق قلب
يغلي نبضه
على صفيح بارد
كلُّها تطفح بهجة وحمدا

أين أنت يا سارقا غدي ؟!
يا مَن حملتَ أمسي
بكلِّ تقاسيمه و تجاعيده
وأسكنته يومي
حتى بات آيلا للذكريات
متصدعا بالحنان
ممهورا بالأشواق
أحتاج من البوح
ثانيةً وخفقة
حتى أزفَ حطام مشاعري
عروسا على فرس القصيد

أحتاج من الصَّمت
نظرة ودمعة
كي أزعرد الوجع
معلقاتٍ على جدران العيون

أحتاجُ من الصَّوت
حنجرتي وسماء
كي أختصرَ عُمر اختناق
طويل يزداد شبابا
بصرخة

لقد أصبح كلُّه قاب اجتماعين
أو أدنى من الكرامة
كلُّه وليد اللحظات القادمة
كلُّه خاتم بإصبح المفاجأت
كلُّه أعجز الدَّهشة عن الادهاش
لأنه يقين كان مزروعا فينا

سوريتي
كيف تضج الحياة
في جسدٍ لست قلبا له ؟!
هذا ما أيقنته جغرافيا العرب
فأعادت برمجة التاريخ
على نهج البنيان المرصوص
وعاد لنا من أوجاعنا بلسما
على هيئة كرسي
في جامعة الدول العربية

نحتاج فقط إلى عقلٍ
يفكر خارج الصُّندوق
وأصابعُ تراقصُ بيادقها
برشاقةٍ
لتصبح
ساحاتُ الفَّخارِ
كلُّها لنا

سورية
كسرتِ أنفةَ العالم
مباركٌ لك سيادة الكون .
يا سيدة الأكوان
للشَّهيد
الأرض التي شربت دماؤك
وأكل ترابها لحمك
لن تنجب إلا نصرا من ملامحك
ومجدا يحمل Dna الخاص
بكرامتك وكرمك

للأسير
يا خطَّا على جبهة العمر
لا تزيده الأيام الإ عمقا
لنا فيك أمل العلا والعلياء
ولنا في ألله أمل بعودتك
وسنلتقيك هناك

ثانيا – القراءة
     يحضر الفيلسوف والناقد الفرنسي التفكيكي جاك دريدا إلى الذهن بمجرد إتمام قراءة (النص) المنشور أعلاه،إذ نشعر باننا بإزاء نصين أو ربما ثلاثة نصوص مدمجة برابط المناخ العام (النفسي والموضوعي)، وهو الذي يؤطر هذه التجربة ويمنحها حق المجاورة المُقْنِعة. وإذا كان دريدا قد حاول تخليص النقد من التركيز على الموضوعة (المضمون) بتركيزه على الشكل، إلّا أننا نجد هنا ضرورة للإلتفات إلى مااوردته الشاعرة نرجس عمران من انتقالات موضوعية ضمنية على صعيد المضمون وتأثير ذلك على متابعتنا للمبنى العام للنص. ولا بأس نقدياً من توظيف اكثر من منهج نقدي مادامت بتكافلها تخدم غرضنا في قراءة وتحليل النصوص.
نقول ذلك لأن جميع مقاطع هذا النص تأتلف في حومانة الشعور الوطني الشامي الذي يمثل روح هذه المقاطع المتجاورة ،وليس عصيّاً ملاحظة التحولات الموضوعية المتلاحقة: (مناجاة الشهيد الأسير الذي تحولت شهادته ودمه المغروس في التراب الوطني إلى موسم فداء خلّاق للبهجة والنصر والفرح،رغم ان الشاعرة تعاني نوعاً من المكابدة الهائلة كونها تخاطب هنا زوجاً شهيداً وأخاً اسيراْ مفقوداً فضلاً عن زوج أختها الشهيد هو الآخر،لكنها لم تخلق لنا عبر بوحها النقي مرثية بكائية كئيبة،وإنما بقيت متفائلة ،ولم تفقد الأمل،بل احالت النص إلى باناروما تجمع بين الحزن والفرح في بوتقة واحدة،رغم أنها تتحمل فعليّاً تربية ثلاثة أيتام في ميقات إقتصادي رهيب،كإنمودج للسيدة العربية المعاصرة،التي تكاد أحزانها تتماثل في طول الأرض العربية وعرضها.
ثم يأتي المقطع الذي يليه الخاص بالضمير الفردي لصانعة هذه المناجاة تعبيراً عن طبيعة المعاناة الخاصة والإحساس بالفقد الجارح على المستوى الشخصي للزوجة او الحبيبة او الأم او الأخت او حتى الشاعرة التعبيرية التي ربما تستلهم الحدث وتتبنى توجيه الخطاب للفقيد الشهيد. ثم ختام المسك بعودة سوريا الى مقعدها الطبيعي في الجامعة العربية،سوريا التي تراها الشاعرة وهي في بحبوحة الظفر على رأس الهرم العالمي للفخار الوطني). ونحن هنا لاندعو الشاعرة نرجس عمران إلى فصل هذه المقاطع عن بعضها،وإنما اردنا تشخيص المبنى الشكلاني العام لهذا المدمج الواضح التحولات..
هذه المكابدة التراجيدية تفسر لنا سبب اختيارها للسياقات المباشرة اوشبه المباشرة باعتبارها تحكي معاناة واقعية شخصية وعامة في آن واحد،ولكنها واقعة تحت ضغط حياتي ومعاشي رهيب حقاً،فكان الصدق الشعوري هو الذي يستدعي اداته التعبيرية المناسبة للمقام الصادق.
ولقد شاعت قديماً في الموروث الأدبي العالمي والعربي على وجه الخصوص مقولة(أعذب الشعر أكذبه)، التي يتوهم البعض عندما يفهم منها المعنى المعجمي للكذب هنا، وإنما قصد بها النقاد القدامى اعتماد الشاعر على الأساليب البلاغية المتنوعة من (بيان ومعانٍ وبديعٍ) وكل صنوف المجاز لغرض عرض الصور الشعرية بإسلوب تصعيدي فنيٍّ جماليٍّ يقرب النص-بحسب رؤية الناص-من الذائقة الخاصة والعامة، وليس المقصود به الكذب بمعناه الحرفي، بينما لايضطر الشاعر المكتنز بالمشاعر المحتشدة الصادقة إلى مثل هكذا مبالغات بلاغية او زخارف لفظية بحكم قوة النشاط النفساني المبثوثة في أوردة السياقات الشعرية بما يكسبها حيوية تلقائية عالية تغنيها عن كل أنواع الصنعة إلّا ماجاء عفو الخاطر كما هي الحال في هذا النص الذي نعدّه من المطولات قياساً بالكثافات النوعية التي نأمل من شاعرتنا مقاربتها كونها تصعد بالنص إلى مقامات إبداعية أكثر رفعة وعمقاً، ولكن دون إخلال بمستويات الإفادة المعنوية او الجمالية.. إنما سيكتفي شاعر المصداقية بتلقائيته الناضجة،والمقصود بالنضج هنا ثلاثية (الموهبة،والملكة،والصدق الشعوري)،حينها لاحاجة لشاعر هذين البيتين كمثال تطبيقي إلى أن يتكلف التعبير،حين يقول:
(لاتخفي ماصنعت بك الأشواق
واشرح هواكَ فكلنا عشاق
.
وعسى يعينك من شكوتَ له الهوى
في حملهِ فالعاشقون رفاق)..
     بيتان يعبران بشكل مستقيم عن حقائق شعورية جمعية تحكي احاسيس اوسع الشرائح الإجتماعية،بلغة سلسة بعيدة عن اي نوع من انواع التكلف أو الإصطناع،وهو إسلوب يحتاج إلى ملكة تعبيرية متكاملة لايضطر معها الشاعر إلى الإستذكار أو الإستحضار ،بل تاتيه الأداة التعبيرية بطواعية وبديهة حاضرة، ولايتسنى ذلك إلّا لعدد محدود،أوجز النقاد العرب التعبير عنه (بالسهل الممتنع).. ومع إننا نطالع عبر هذا النص فعلاً إبداعياً نثرياً،ولكن الشعر هو الشعر بأي ثياب نزل ،ذلك لأن جميع الاشكال والطرازات الشعرية أجساد متنوعة لروح واحدة.. وانطلاقاً من هذا الفهم نلمس بكل وضوح مصداقية شاعرة هذا النص ،الذي نعتقد بأنه سيترك بصمته الواضحة على نفس المتلقي خاصة وهو يعبر عن إحساس جمعي يكاد يطبق على أمة كاملة !!..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى