عندما تكتب الحرب سِيرتها
قراءة في مدونة (الحرب تكره الجسور) للمفكر والناقد العراقي جمال جاسم أمين
د.أمل سلمان| ناقدة وأكاديمية
كثيرة هي الإصدارات الأدبيةوالنقدية والفكريةوالثقافية التي تصدر كلّ يوم تقريبا، لكن النادر منها والمختلف من يستوقف القارىء ويثير لديه لّذة القراءةوالإبحار في غياباتها، هكذا أجدني أمام هذا الإصدار المهم الصّادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق لسنة ٢٠٢٢، مدونة(الحرب تكره الجسور)،
وأقول مدونة؛ لأننا نعجز في أيّ خانةٍ إبداعيةٍ يمكن أن نضعها، فهي جدل كتابي_ إن صح القول_يسعى لتوليد نص جديد مغاير، نصّ يقف في منطقة حرّة ذات نوافذ تنفتح على مختلف الأجناس الكتابية، ولا تقف عند جنس معين، فالتجنيس_ بحسب المؤلف _ عقبة تقف أمام فيض التجربة الإنسانية، فهو يسعى إلى التحرر عبر كتابته هذه من أي اشتراطات أوموانع أوتقاطعات تقف أمام همه الطاغي الذي يجثم على صدره إبان الحروب الثلاث التي عاشها وبعدها، وقد ضمّت هذه المدونة بين جنباتها عددا من المفاهيم الحداثوية من قبيل: (الكتابة المفتوحة،والكتابة بدرجة الشّعر، والكتابةالسّيرة،والكتابةالشّهادة،والكتابة السير ذاتية، والكتابة السّير غيرية، والشّاعر المعلم، والشّاعر المشروع، وشاعر الرؤيا..الخ) من المصطلحات التي أخذت معاني مغايرة في مدونته هذه، أرى لا بّد من الوقوف عندها ولو بشكل موجز وعلى النحو الآتي:
الكتابة المفتوحة/الكتابة بدرجة الشّعر
ربما يخيل للقارىء الكريم، أن هذا المصطلح لا يختلف عن النّص المفتوح الذي يجمع بين السّردية والشّعرية ويتخذ من الشعر بؤرة مركزيه له ومنطقةتشده نحوها، إلا أن مصطلح الكتابة المفتوحة يتجاوز الشعر ويتخذ من مختلف الأجناس الأدبية منطقة له،فهي ذلك الشكل اللامحدود والذي ينفتح على المعرفي والتشكيلي ويلتحم فيه الواقعي والمتخيل والسلطوي والشعبوي والخاص والعام والسرد السير الذاتي والسرد السير غيري، ينزع فيه مؤلفه إلى تغييب الوحدة الموضوعية وتشظية اللغة والانفتاح والتوسع على مختلف الأجناس الأدبية المختلفة، إذ يقف في منطقة حرة من دون أن يتخلى عن فكرته الأساسية، وهي تدوين ما عاشه هو وغيره إبان الحروب الثلاث: حرب إيران، وحرب الخليج الأولى، وحرب الخليج الثانية، إذ تحولت المفاهيم وتراجعت القيم، وهاجر الماء وانقطع الزاجل، وتهمش كل عنصر مركزي مشترك ومتداول ومألوف، وبرزت الذات الفردية ومات المعنى وغادر الشعراء من متردم .
الكتابة الشّهادة/ الكتابة السيرة
الكتابة الشهادة، تهتم بتحولات التجربة الإنسانية والمفاصل المهمة التي ترافق هذه التحولات، وهي لاتهتم بتفاصيل الحياة اليومية المألوفةفهي(تأريخ روح)، لذا إن أغلب الشعراء يُضمّنون جزءا من تحولاتهم الذاتية في قصائدهم فتغدو شهادات شعرية بعد أن تذاب في مصهر الشعر، ولكن يبقى جزء آخر من هذه التحولات والأحداث الفاصلة لايريد أن يعانق مثل هذا الذوبان بل يتماسك بصلابة وقائعه وأمكنته خارج الشعر ولذا فأن الكتابة الشهادة تشكل ميدانا لاستدراج ذلك العصي أو المهمل في أغلب الأحيان يقول المؤلف”هكذا أجدني كتبت عددا من الشهادات والرؤى وجدت أنها تتضمن شيئا بدرجة الشعر، ولا أقول الشعر ذاته، فهي الكتابة بجوار الشعر”وأما الكتابة السيرة، فهي حكي استعادي يقوم به شخص واقعي عند وجوده الذاتي الخاص مركزا على حياته الفردية وعلى تأريخ شخصيته بصفة خاصة،وقد جمع المؤلف في مدونته هذه ما بين الكتابتين بشكل متداخل يقول المؤلف:”منذ ثلاث حروب كبيرة تخللتها نوبات هدنة مؤقتة وفيضانات دم، وأنا أراقب الأشياء التي تجري بلا هوادة، استطعت أن أسجل حقيقة مفادها، أن “الحرب تكره الجسور” زيادة على السرد الغيري الذي نلمسه في جنباتها وهو يتحدث عن التجارب الشعريةعند كزار حنتوش والشاعر عبد الهادي عيدان مستفيدا من تجاربهما الإنسانية والشعرية، فقد وفرت الحروب فسحة شاسعة من الموت والرثاء تكفي لإنتاج سيرة حرب من نوع خاص، كما أنّها وفرت أوجاعا أخرى ينبغي أن تدون، حتى لايظل الألم من دون أسماء على حد تعبير المؤلف .
موت المعنى/فكرة الجندي المجهول
يرى المؤلف أن الكلمات في حالة الكتابة عن الحرب لاتريد أن تعبر فقط، وهي ليست تجميلا أيديولوجيا لفكرة الصراع مع الآخر، بل هي على وجه الدقة مرايا مُضبَّبة بالجراح والشظايا تريد أن تعكس الجانب الأعمق من الأشياء، كما أنّه بحث صامت وجريء في خرائط الأسماء التي يعتريها الفقدان ؛فالكتابة _عموما _ تسعى إلى (معنى)، لكن الكتابة عن الحرب ستدخل في متاهة لا حدود لها من خذلان هذا السعي ذلك؛ لأن الحرب ذاتها/ موضوع الكتابة عندما تنشب، فمنذ أول رصاصة لها تقتل المعنى، فهو أول ضحاياها على الإطلاق، وما نصب الجندي المجهول إلا صورة لهذا المقتول، الذي لا يدعيه أحد ولا نعثر عليه إلا عندما نفكر أن نكتب، ولأننا نتأخر في الكتابة دائما فإن (الجثة) التي تكتمل مجهوليتها تتحول بفعل هذه المجهولية إلى (ثلاجة حفظ الموتى)_ثم_ إلى أزاميل النحاتين على دكةٍ تحت الشمس يكتبون تحتها عبارة(المجهول) من دون أن يعرفوا أنّه المعنى، ولذلك فإن الكتابة عن الحرب تستوجب صعوبات استثنائية جمّة، ذات دلالة مركبة، استثنائية الحرب واستثنائية الكتابة ذاتها؛ لأنّها تكون من دون معنى.
العنونة/الحرب تكره الجسور
الجسور هنا تمثل نقاط الإرتكاز المادي والمعنوي فهي ليست صلات أرضية فقط، إنّما هي(صلات المعنى) أيضا، والإنسان بطبيعته يحتاج إلى كلّ أنواع هذه الوشائج ، فهو يصل الآخر ماديا عبر هذه الجسور والقناطر ويصله روحيا من خلال صلة الحوار التي تحتاج إلى جسور من المعنى، فللحرب ذاكرة ورفوف، إذن كيف تكتب الحرب سيرتها؟ وهل بإمكان أحد أن يكتبها عنها؟ الأموات مثلا؟أم الأحياء الذين استطاعوا أن يحتالوا عليها ليرتكبوا _في نظرها_ خيانة البقاء؟
الشّاعر المعلم/شاعر المَشروع/شاعر النصوص/الشّاعر النّاقد
وضح المؤلف الأستاذ جمال في المحور الخاص بشهادات الشّعر،هذه المفاهيم والصفات التي أُطلقت على الشعراء وميز بذكاء نقدي، وفكر خلّاق بين هذه المصطلحات الحداثوية، التي يطيل الوقوف عليها لذا سأكتفي بالوقوف عند مفهوم الشّاعر المعلم، فهي صفة أطلقت على الشّاعر الذي لايحتفي بنصوصه فقط، فالنصوص وحدها لاتوفر صورة نموذجية للشاعر الذي يراد له أن يرتفع إلى رتبة (المعلمين)،بل لابد من مواقف نقدية رديفة ترافق هذه النصوص،والمواقف النقدية هنا ليست النقد النظري الذي يتبناها الشاعر في أغلب الأحيان، إنما هي مواقف أقرب إلى السّلوك لا إلى النظرية، ولذلك عُدّ الشاعران، مظفر النواب ومحمود البريكان،من الشعراء المعلمين، فكلاهما يمتلك مواقف نقدية من الشّعر والحياة والآخرين بضمنهم (السياسة)، ولكنهما لم يكتبا بحوثا نظرية بهذا الصدد. تجسّدت مواقفهما عبر نصوصهما أوّلا، وسلوكهما الشخصي ثانيا، فهما يحولان الحياة إلى طقس خاص عبر الكتابة، يجعلونها نصا يوازي المكتوب ويدّعمه، الأمر الذي يكشف درجة من التماهي الصوفي بين ذات العارف ومعرفته/ذات الشّاعر ونصه، والشّاعر المعلم يجنح إلى(الجوانية)، يحتاجون الصّمت كثيرا، إذ يشعرون أن مثل هذا الصمت جزء مهم لمشروعهم/مشروع النص/مشروع الكلام،بمعنى أن هذا المشروع لايتصل بالكلام وحده، بل هو تجربة كلية تستثمر كل الطاقات، ولاسيما طاقة الصمت، وهذا ما يفسر صمت البريكان الطويل وعزوفه عن الإعلان لعقود عديدة، فصمته كان تواصلا وليس إنقطاعا، لم يكن مساحة بيضاء فارغة
مخلفات الحرب
يرسمها الشاعر المعلم، جمال جاسم آمين في لوحة تثير الوجع والألم، يقول: (الأسئلة التي لا يلبيها فضاء تذهب هائجة مثل سهام بلا مرمى.الأسئلة التي لاتحيد، إنها مخلفات حرب، فللحروب مخلفات لاتحصى/ النياشين، والأوسمة العاطلة/ الضياء المنقطع على طول مدار الخيبة)،(القمامة على عتبة الدار، الشرطة التي لا تطلق الرصاص على اللص، الشعراء بألسنة مغشوشة، المرأة التي أجَّلت نعيها لظروف أكثر كارثية، الأدوية التي تنشط المرض…للحروب مخلفات لا تحصى، أكبرها السريالية، ولكن حروبنا _للأسف_ تخلف كل شيء وتمرُّ بلا سريالية).
وأخيرا، أقول للقارىء الكريم: إن مدونة الأستاذ جمال جاسم أمين، مدونة ثرّية بالمفاهيم والأفكار والرؤى، حاولت قدر الإمكان تقريبها وتسلّيط الضوء على بعض مرتكزاتها ولا أدعي أنّي وفيتها حقها، فمن الصعب بل من العسير مجاراة فكر وقّاد، وقلم متمكن، ورؤى عميقة، وكتابة شذرية وسمّتْ كتابات الأستاذ جمال، فهناك شهادات أخرى للحرب، تشهدها الأمكنةوالشّعر والنّصوص والأشخاص، لاأعفي القارىء الكريم من الرجوع إليها والسّياحة في غياباتها.