
الكاتب والروائي الفلسطيني | سعيد أبو غــــــزة
على مشارف الثالث والخمسين
أحبو مثقلاً، لا مُتكاسلاً
محشوراً بين ذاكرةٍ من دخانٍ
ونَفَسٍ متقطّعٍ من رمادٍ وندم
أُطفئ شمعةً تشتعلُ في الركام
وأُضيءُ أخرى بفتيلِ حُلمٍ لا يموت.
شَعري صارَ أبيضَ كرايةِ هدنةٍ لم تُوقّع،
وقلبي ما زال ورديًّا، عنيدًا،
ينبضُ في صدرٍ أنهكه الحنينُ
ويكابرُ كي لا يعترفَ بالانكسار.
في المرآةِ تجاعيدٌ تُغازلُ فحولتي
كأنها تذكّرني أنني ما زلتُ أعيش،
أنني أحبُّ رغم النيران،
وأشتاقُ رغم الحصار،
وأكتبُ لأن الكتابةَ ما زالت تُبقيني إنسانًا.
يا نوفمبر الشقي،
ها أنا أبلغك من جديد،
أحملُ على ظهري عامين من الحرب،
من الرماد،
من أسماءٍ صارت أرقامًا،
ومن وجوهٍ لم يبقَ منها غير ظلٍّ في الذاكرة.
ما زلتُ شابًا في عينيّ رغم الخمسينَ وما فوقها،
مولعًا بالنساء،
وبقافيةِ الشعر،
وبغوايةِ الحكاية،
وبأملٍ صغيرٍ يلوّح لي من بين الركام.
لا زال المخيم في جيب سترتي،
ورائحةُ الخبزِ المُتفحّم تسكنُ أنفي،
ووشمُ البندقيةِ على ذراعي
صارَ علامةَ هويةٍ لا تمحى.
كبرَ الحلمُ معي،
وشاخَ معي،
لكنه ما زال يراقصني كلّما اشتدَّ القصفُ
ويهمسُ لي:
“لا تَنَمْ قبل أن تتحرر.”
أُطفئُ شمعةَ العام الجديد
ولا تُطفئني،
أبحث عن قُبلةٍ من الحياة
أو عناقٍ من حبيبتي المقيدة،
أو صلاةٍ آمنةٍ في الأقصى
تمسحُ وجهي من غبارِ القهر.
وحبيبتي ما زالت خلف الأسلاك،
تئنُّ أنينَ الرّيم النافر،
بين ذئبٍ هائجٍ
وغنمٍ صامتٍ يُبرّرُ الذبح.
وجنديٌّ أشقرُ يسرقُ الضوءَ من عينيها
ويمنعُ عنها الهواءَ كي لا تنطقَ باسمِ الله.
سأجتازُ الثالث والخمسين
وغزة ما زالت تُنزفُ جمالًا،
يتكالبُ عليها الغولُ الأحمر،
وتبيعُها البشريةُ في مزادِ الصمتِ والبيانات.
الأطفالُ الشهداءُ يصطفّون
كأنهم فجرٌ من طهرٍ جديد،
والأرضُ تغسلُ وجهها بالدمعِ والدم.
رفاقي كثيرون،
لكنهم تائهون بين شهوةِ السلطةِ وبلادةِ الانتظار،
يتقاتلون على مقاعدَ فوق ركامِ المعنى،
ويحلمونَ بلقبٍ أو رتبةٍ
في حضرة السلطان.
سأبلغ الثالث والخمسين،
ربما تأتي النبوءةُ مؤجلةً،
وربما لا تأتي.
ربما أرى القدسَ من بعيدٍ تلوّح لي،
وربما تهمسُ في أذني حبيبتي:
“ما زلتُ أؤمن بالضوء.”
هي أحلامٌ لا تُمنح،
لكنها تُورَّث،
كأنها وصيّةُ مَن عاشَ على حدود الحلم.
سأدخل الثالث والخمسين
وأُبقي شعري أبيضَ كما هو،
بشرطٍ واحدٍ فقط:
ألا تصبغينَ يا سيدتي…
دعيني أشيخُ بصدقٍ،
كما تشيخُ الأوطانُ الجميلةُ
حين تُحاصرها الحربُ
ويُعاندها الأمل.





