تأمّلات في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد” (4)
د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام | رئيس جمعيّة التّراث، القرارة، غرداية، الجزائر
البحور الشّعريّة الخليليّة في الدّيوان وملاحظات عامة
الملاحظة البارزة في الدّيوان تتمثّل في تنويع الشّاعر في كتابة قصائده بين الشّعر العمودي وشعر التّفعيلة، مع التّصرّف في بنية القصائد في كلا النّوعين، ما يسجّل له صفة الحريّة في النّظم بما يمليه شعوره وما تدفعه إليه حاله النّفسيّة، ووَفق ما تموج في نفسه من حركات، لا يمكن معها التّقيد بشكل محدّد في التّعبير والتّصوير والإفصاح عن المكنون..
نقدّم بعض النّماذج في هذا النّظم على بحور الخليل.. فعلى بحر ” الوافر “:(مفاعلتن مفاعلتن فعول مفاعلتن مفاعلتن فعول) نظم قصيدته: ” نور وظلّ “(1). ممّا جاء فيها:
وَقالَ مُـحـــــــدّثِي لـمّـــــارَآنـــــي | صديقُك غَــادر الدّنيا وَوَلَّــى | |
فلـمْ نَرَ منك شعرًا مُستهـــلاّ | يذكرُنا به صبحًا وَليْـــــــلاَ | |
وكَان بِـــــودّكُم دومًــا حفيًّــــا | وكُنتَ لودّه أَهْلاً وخِــــلاَّ | |
يُعاتبُني صَديقــي في صَديقـــي | ومَا كلُّ العِتابِ يَصيرُ سَهْـــلاَ | |
وما يَدْري صديقي أيَّ حـــالٍ | يقلّبُ عُمْرنَا خِصْبًا وَمَـْحــلاَ | |
لقد كان ابنُ جَبْرٍ دِفْءَ قلبٍ | صدوقَ العهدِ أقْوَالاً وفعلاَ(2) |
على البحر نفسه نظم قصيدته: ” حطام “(3). هذه أسطر منها، عندما نجمع كلّ مقطع فيها نحصل على بيت من البحر في شطرين متقابلين في التّفعيلات:
فَـحيثُ نَظَرْتَ (مفاعلتن مُ)
في أيِّ اتّـجاهٍ (فاعلْتُن فعولن)
حُطامٌ (مفاعَلْ)
فَوْقَ سَاحَتِهِ حُطامُ (تُمْ مُفاعلتُنْ فعولن)
ولَكِنْ (مُفاعَلْ)
يُـمْطِرُ الرّحْـمنُ رُحْمَى (تُنْ مفاعلتُنْ فعولن)
فَيُزْهِرُ في (مُفاعَلَتُنْ)
أَضَالِعِنَا الوِئَامُ (مفاعلتُن فعولن)
وَيَشْدُو الـحَرْفُ (مفاعلتن مُ)
بالـحُبِّ ابْتِهَاجًا (فاعلتُنْ فعولن)
وَرَغْمَ الصَّمْتِ (مفاعلتن مُ)
يَنْتَفِضُ الكَلامُ (فاعلتُنْ فعولن)
نلاحظ أنّ كلّ مقطع ينفرد بطريقة خاصّة في توزيع التّفعيلات على الأسطر، لكنّه يكوّن في مجموعه تفعيلات بحر الوافر الموزّعة بين شطرين في النّظم العمودي. هذا شكل من أشكال التّنوّع في كتابة الشّعر المرتبطة بالبحور الشّعريّة الخليليّة عند سعيد الصّقلاوي..
وقفت في الدّيوان على بعض القصائد اعتمدت تفعيلة واحدة فبها. مثال ذلك قصيدة طويلة (مقارنة ببقيّة القصائد في الدّيوان) عنوانها: : ” صباح الخير يا وطني” (4) صيغتها” مفاعلتن” تحسب في بحر الوافر(5):
صَبَاحَ الـخَيْرِ يا أَهْلِي
وَيا لُغَتِي
ويا تسبيحَ أَيَّامٍ
وَمِئْذَنَةِ
وَيا رُحْمَى
وَإِيـمانًا
وَمَشْمُومًا
يُقطِّرُ مِنْ
نَدَى الرَّحْـمنِ لِي ثِقَتِي
بينما قطعة ” فراغ ” (6)كتبها الشّاعرُ في ثلاثة أبيات على نمط الشّطرين وتفعيلتها أيضًا ” مفاعلتن “. في كلّ شطر تفعيلتان..ما يعدّ مجزوء الوافر”..
تَساوَى الـحَيُّ والـمَيْتُ | عِظامًا ما لَـها صوْتُ | |
وَأفْكــــــــارًا بِلاَ جَسَدٍ | ورُوحًــــا شَلَّهَا الـمَوْتُ | |
ترَى منْ مِنْهمًا دَمهُ | فراغُ الوقْتِ والصّمْـتُ |
على البحر نفسه كتب قصيدته:” مغاني ” (7) وجاءت تفعيلاته كلّها على صيغة: ” مفاعلتن” أيضًا:
طَويلٌ (مُفاعلْ)
صَمتُ أحلامِي (تُنْ مُفاعلتُن)
ويومِي دونَ ميقاتِ (مفاعلتن مفاعلتن)
فَلاَ البَسماتُ تُؤْنِسُنِي (مُفاعَلَتُنْ مفاعلَتُنْ)
وَلاَ أَحْكِي مُعَاناتِي (مفاعلتُنْ مفاعلْتُنْ)
وَلَكِنِّي (مفاعلْتُنْ)
عَلَى حُبِّي (مُفاعلْتُنْ)
أَسيرٌ للكَراماتِ (مفاعلتُن مفاعلْتُن)
تُرَقِّينِي (مفاعلْتُنْ
إِلَى الأَسْمَى (مفاعلْتُن)
حَفيًّا بالبشاراتِ (مفاعلْتُنْ مُفاعلْتُن)
فَتَمْلَؤُنِي (مفاعلَتُنْ)
مَغانيهَا (مفاعلْتُن)
جَـمالاً مُزْهِرًا ذاتِي (مفاعلْتُنْ مُفاعلْتُنْ)
القصيدة كلّها على تفعيلة: ” مفاعلتن” كلّ مقطع تكوّن من أربع تفعيلات، لكنّها غير موزّعة بالتّساوي في كلّ سطر. كأنّي بالشّاعر رجع بالأصل إلى تفعيلات البحر.
على بحر البسيط (مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن) كتب الصّقلاوي قصيدة ” العارفون “ (8) وجاءت في الدّيوان كما رسمها الشّاعر هكذا:
إنّ الاذلاّء (مستفعلن فاع)
إنْ حَبَوا أعزّاء (لن متفعلن فاعي)
فالعشقُ (مستفعِ)
للعاشقين النّارُ والـماءُ (لن فاعلن مستفعلن فاعي)
والعارفون (مستفعلن فَ)
هُمُ الأسْنَى إذا وَلَـهوا (علن مستفعلن فَعِلُنْ)
وهم (متف)
بعزّ الـهوى (علن فاعلن)
حبًّا أذلاّء (مستفعلن فَعْلُنْ)
وما الحقيقةُ (متفعلن فع)
إلاّ كلُّ حادثةٍ (لن مستفعلن فَعِلُنْ)
فيها صفاتٌ (مستفعل فا)
بـها الآراءُ إغراءُ (علن مستفعلن فَعْلُنْ)
الـحيّ ميتٌ (مستفعل فا)
وإن في الصّحوِ أمْداءُ (علن مستفعلن فَعْلُنْ)
والـميتُ حيّ (مستفعل فا)
وإن في الغَيْبِ إغفاءُ (علن مستفعلن فَعْلُنْ)
اختار الشّاعر توزيع التّفعيلات والتّصرّف فيها في الأسطر بطريقته الخاصّة، مع التقيّد بالهمزة نهاية لما يكوّن شطرًا في ترتيب التّفعيلات في الشّعر العمودي. يمكن كتابة الأسطر السّابقة كما هو معروف في ترتيب التّفعيلات في بحر البسيط في الشّعر العمودي فنكون مع قطعة شعريّة كالآتي:
إنَّ الأَذلاّء إنْ حَبَـوا أعـزّاءُ | فالعِشْقُ للعاشقين النّارُ والـمَاءُ | |
والعارفون هُمُ الأسْنَى إذا وَلَهوا | وَهُمْ بِعِزّ الهَـوَى حبًّـــــــا أذِلاّءُ | |
ومَا الـحقيقةُ إلاّ كُلُّ حَادثَةٍ
الحيّ ميْتٌ وإنْ في الصّحْوِ أمْداءُ |
فيها صفاتٌ، بـِها الآراءُ إِغْرَاءُ
والـمَيْتُ حَيٌّ إنْ في الغيب إغفاءُ |
يبقى السّؤال المعروض: لماذا اختار الشّاعر هذه الطّريقة في نظم هذه القصيدة؟ ما علاقتها بنقل المشاعر؟ ماذا يتغيّر في الأمر لو كتبها كتابة عادية، ما دام قد تقيّد بمكوّنات بحر البسيط، من حيث التّفعيلات التي صاغ بها شعره وبعددها، التي أعطت لنا أربعة أبيات شعريّة في مجموعها، وما دام قد التزم الرّويّ الرّاتب؟
هذه أسئلة قد نجد لها أجوبة عند المتلقّي.. المهمّ عندي هو: إنّ هذا مظهر من مظاهر تفنّن الشّاعر في الكتابة الشّعريّة. تقويمها يعود للقارئ المتمرّس المتخصّص.(9)
قصدُ الشّاعر للنّظم على سنن الشّعر العمودي واضح؛ بدليل استيفاء تفعيلات البحر قبل إنهاء كلّ مقطع برويّ ثابت، ثمّ القيام بالتّصريع في البيت الأوّل من كلّ قصيدة..فالسّؤال عن اختيار توزيع ما كتبه على أسطر بطريقة شعر التّفعيلة يظلّ قائمًا.
بالطّريقة نفسها وعلى البحر ذاته نظم الشّاعر قصيدته: ” زمن “(10). نثبت أسطرًا منها فيما يأتي:
يا أيّها الزّمن الـماضي (مستفعلن فعلن مستف)
على عَجَلِ (علن فَعِلُنْ)
ماذا سَتكتُبُ عن بـحرٍ (مستفعلن فعلن مستف)
وَعَنْ جَبَلِ (علن فَعِلُنْ)
فهل ترى البحرَ (مُتَفْعِلُنْ فَاعِ)
لم يسكن على قَلَقِ (لن مستفعلن فعل)
وَهَلْ ترى جَبلاً (متفعلن فعلن)
يرسُو عَلَى وَجَلِ (مستفعلن فَعلن)
وهل ستأسرُ تاريخًا (متفعلن فعلن مستف)
بلا خـجلِ (علن فعلن)
أو هل ستطلُقه حُرًّا (مستفعلن فعلن مستف)
بلا دغلِ (علن فعلن)
وهل ستكتب صدقًا عنكَ (متفعلن فعلن مستفع)
في ثقةٍ (لن فعلن)
أم هل ستنشُره (مستفعلن فعلن)
أخبار مُنْخطلٍ (مستفعلن فعلن)
لا زلتَ توقدُ (مستفعلن فع)
في الأفكار حيرتَها (لن مستفعلن فعل)
وتَستَطير اللَّظَى (متفعلن فاعلن)
في قلب منفعلِ مستفعلن فعلن)
يمكن كتابة الأسطر على الشّكل الآتي:
يا أيّها الزّمنُ الـمَاضِي عَلَى عَجَلِ | ماذا ستَكْتُبُ عَنْ َـحْرٍ وَعَنْ جَبَل | |
فَهَلْ تَرَى البَحْرَ لم يَسْكُنْ عَلَى قَلَــــقٍ | وَهَلْ ترَى جَبَلاً يَرْسُو عَلَى وَجَلِ | |
وهلْ ستَأسِرُ تَاريـخًا بِلَا خَـجَــلٍ | أوْ هَلْ سَتُطْلِقُهُ حُـرًّا بلَا دَغَـلِ | |
وهَل سَتَكْتُبُ صِدْقًا عَنْكَ في ثقةٍ | أمْ هل ستَنْشُرُهُ أَخْبَارَ مُنْخطِلِ | |
لا زلتَ توقدُ في الأفكارِ حيرتَها | وتَسْتَطيرُ اللّظَى في قَلْبِ مُنْفَـعلِ |
على البحر نفسه كتب الصّقلاوي أسطرًا بعنوان ” تيه “(11). ما ميّزها هو ارتفاع درجة الشّعور فيها، باعتماد كلمات موحية، وعرض أسئلة على شكل حوار قصير مع الذّات التي تعيش في تيه وحيرة؛ بغية تصوير الشّاعر حال توتّر نفسه – فهذه هي طبيعةة الشّعراء – فوفّر لهذه الأسطر بتلك الطّريقةِ الصّفةَ الوجدانيّةَ:
ذاتي (مستفْ)
تتيهُ على بَـحْرٍ وليسَ بِه (علن فعلن مستفعلن فعلن)
غيرُ التّمَنّي (مستفعلن فا)
فهل ترجعُ لي ذاتي (علن مُسْتَعِلُنْ فَعْلُنْ)
وهل أُلاقي معانيها (متفعلن فعلن مستف)
وزَهرَتَـها (علن فعلن)
تُـهدي سناها (مستفعلن فا)
إلَى قلبِي وبسْمَاتي علن مستفعلن فَعْلُنْ)
يمكن وضع هذه الأسطر في بيتين، فنكون مع بحر البسيط بالتّرتيب العادي، كما هو في العروض الخليلي أو الشّعر العمودي.. فما دافع الشّاعر إلى كتابتها على شكل أسطر؟:
ذاتي تتيهُ علَى بَـحْرٍ، وليسَ بِه | غيرُ التّمَنّي، فهَلْ تَرْجعُ لي ذاتِي | |
وهَلْ أُلاقِي مَعانيهَا وَزَهرَتَهَــا | تُـهدي سَناها إلَى قَلْبِي وَبَسْماتِي |
على مجزوء البسيط أو قريب منه نظم الشّاعر قصيدته: ” النّيروز “(12):
نَظلُّ نَنْتَظِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
تأتِي فَننْهَمِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
أزْهارَ أَفْرَاحِ (مسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
الـماءُ والشَّجَرُ (مستفعلُن فعلنْ)
والشّمْسُ والقَمرُ (مستفعلُن فعلنْ)
تَسْبيحُ أَرْواحِ (مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
مِنْ حَوْلِنَا العُمُرُ (مستفعلُن فعلنْ)
أَحْلامُهُ وَطَرُ (مستفعلُن فعلنْ)
مـمْزُوجَةُ الرّاحِ (مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
يَهْذِي بِـهَا النّهَرُ (مستفعلُن فعلنْ)
والنّسمُ والزّهَرُ (مستفعلُن فعلنْ)
وكَأْسُ مَزّاحِ (مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
والبُلْبُلُ الـخَضِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
يَشْدُو فَيَنْبَهِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
خُدودُ تُفّاحِ (مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
كتابُهُ العُصُرُ (مستفعلُن فعلنْ)
في الرّوحِ يَزْدَهِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
وفي مَدَى السّاحِ (مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
الأَرْضُ والبَشَرُ (مستفعلُن فعلنْ)
نَيْرُوزُهْم نَضِرُ (مستفعلُن فعلنْ)
في قَلْبِ وَشَّاحِ(مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)
ما يمكن تسجيله ملاحطات أو استنتاجات على هذا النّصّ، الذي تصرّف فيه الشّاعر بطريقته الخاصّة، ربّما ليكسر الرّوتين أو الرّتابة، أو ليبدو نصّه في مظهر جديد. وفي حلّة فنيّة، تستجيب لمشاعره وعواطفه وخواطره:
1 ـــ إِنّ التّفعيلة الثّانية في السّطر الأوّل والثّاني من كلّ مقطع تنتهي بـــ ” فَعِلُنْ”.. والتّفعيلة الثّانية في السّطر الثّالث تنتهي بـــ ” فاعي”.. وقد تحوّل إلى ” فَعْلُنْ” هذه الرّتابة أوجدت إيقاعًا خاصًّا، انبعث من تكرار النّسق في كلّ مقطع.
2 ــــ هذه التّركيبة أو هذا النّسق يحطّ بنا في مجزوء بحر البسيط أو قريب منه. تنقص من كلّ مقطع تفعيلتان، (مستفعلن فاعلن). ليكتمل شطران من البسيط في التقسيم الخليلي.
3 ـــــ أوجد الشّاعر إيقاعات متميّزة من عدّة مصادر أو من عدّة تصرّفات:
أ ــــــ من نسق خاص، تمثّل في إنهاء السّطرين الأوّل والثّاني بحرف الرّاء المضموم، والثّالث بحرف الحاء المكسورة؛ رويًّا للقصيدة,, ما يعطيها سمات الشّعر العمودي، بوجود تفعيلات متكرّرة، كما هو في بحور الشّعر الخليلي، مع التّقيّد بحرف واحد في قافية النّصّ.
ب ــــــ من تكرار حروف معيّنة بشكل لافت للنّظر، مثل: (الرّاء، الحاء، الـهاء، السّين، الشّين، الـميم، الزّاي..) مع كثرة الـمدود.. أحدثت هذه الحروف والبقيّة في النّصّ جرْسًا خاصّا تَوَلَّدَ من الصّفات التي تميّز هذه الحروف ومن تجاورها في النّصّ، الذي كان للشّاعر دور في انتقارها؛ تبعًا لحرارة مشاعره وتوهّج عواطفه.
على بحر الكامل كتب قصيدة: ” قلب ” (13) متجنّبًا نظام الشّطرين(متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن ) ، ومال إلى الأسطر:
زَهِّرْ جَمالاً بالسّلامِ (متْفاعلن متفاعلن مُ)
وبالحياهْ (تَفَاعلن)
انثُرْ طُيوبَ الحبّ (مُتْفاعلنْ متْفاعِ)
في كلّ اتّجاهْ (لن مُتفاعلن)
واشربْ مِيَاهَ النُّور (متْفاعلن متفاع)
من أَحْلَى صفاهْ (لن متْفاعلن)
حلِّق (مُتْفا)
مع الأمل المجنّح في سماهْ (عِلُنْ مُتَفاعلن مُتَفاعِلُنْ)
واشرِقْ (مُتْفا)
بهاءً في العيونِ وفي الشّفاهْ (عِلُنْ مُتَفاعلن مُتَفاعِلُنْ)
واشْدُو (14) (مُتْفا
الـمَحبّة في الزّمان لـمنتهاهْ (عِلُنْ مُتَفاعلن مُتَفاعِلُنْ)
على مجزوء البحر نفسه مع بعض التّصرّف في تفعيلاته كتب قصيدته: ” انتظار ” (15)
عاد القطارُ (مُتْفاعِلُن مُ)
ولـمْ تعُودِي (تَفاعِلا تُنْ)
لكِنْ (متْفا)
وُجودُكِ (عِلُنْ مُتَ)
في وُجودِي (فاعلاتن) (16)
كلّ مقاطع القصيدة تنتهي بهذه النّهاية (متفاعلاتن). بزيادة سبب خفيف في الضّرب(17) .. بذلك يكون الشّاعر قد التزم الرّتابة في كلّ مقطع، أي حافظ على النّسق في كلّ أجزاء القصيدة.. هذا مظهر آخر من مظاهر التّفنّن والتّنوّع في الكتابة عنده.
مع بحر الكامل غير المكتمل، القريب من مجزوئه (18) نلتقي في قطعة الشّاعر: ” اختباء ” (19)مع هذا الشّكل أو التّوزيع للتّفعيلات:
الظّلُّ (مُتْفاعِ)
خلفَ الـحزنِ مُـختَبئٌ (لُنْ متْفاعِلُنْ فَعِلُنْ)
والـحُزنُ (مُتْفاعِ)
مِرْآةٌ بِـها ظلُّ (لُنْ مُتْفاعلُنْ فَعْلُنْ)
لَـمّا رأْيْتُ النّفسَ (متُفاعلُن مُتْفاعِ)
قَدْ شَرَقَتْ (لُنْ فَعِلُنْ)
أَدْرَكْتُ (مُتْفاعِ)
أنّ الـحُبَّ يَنْسَلُّ (لُنْ مُتْفاعِلُنْ فَعْلُنْ)
أَدْرَكتُ (مُتْفاعِ)
أنّ الدّهر مُلْتَبِسٌ (لُنء مُتْفاعِلُنْ فَعِلُنْ)
أوْ في يقينِ الـماءِ (مُتْفاعِلُنْ مُتْفاعِ)
مُـنْحَلُّ (لُنْ فَعْلُنْ)
الرّوحُ في نفسٍ (مُتْفاعِلُنْ مُتْفا)
نَدَى أَمَلٍ (عِلُنْ فَعِلُنْ)
والنّفسُ في رُوحٍ (مُتْفاعِلُنْ مُتْفا)
سَـمَا تَعْلُو (عِلُنْ فَعْلُنْ)
ما نلحظه في توزيع التّفعيلات على الأسطر أنّ الشّاعر لم يلتزم بنسق معيّن فيه. ونسجّل أنّه تقيّد بالبحر ولم يلتزم بمكوّنات البحر في تفعيلات كلّ سطر كما هي في نظام الشّطرين. مع ذلك نثبت أنّه تقيّد بعدد التّفعيلات إذا كتبنا الأسطر على شكل الشّطرين، إذ مجموعة من الأسطر تكوّن بيتًا في نظام الشّعر العمودي، كما أنّ الشّاعر التزم التّقفية برويّ واحد هو (اللّام).. يدرك المتلقّي ذلك بسهولة، فيمكن أن ننظم الأسطر في الأشطر كالآتي، فنحصل على أربعة أبيات كاملة، في بحر قريب من المجزوء:
الظّلُّ خلفَ الحزنِ مُـختَبئٌ | والـحزنُ مـرْآةٌ بِهَا ظلُّ | |
لَمَّا رأيتُ النّفسَ قَدْ شَرَقَــتْ | أَدْرَكْتُ أنَّ الـحُبَّ ينْسَـلُّ | |
أَدْرَكتُ أنَّ الدّهـرَ مُلْتَبِسٌ | أوْ في يقينِ الـمَاءِ مُنْحلُّ | |
الرّوحُ في نَفسٍ نَدَى أَمَلٍ | والنّفسُ في رُوحٍ سَمَا تَعْلُو |
بهذا التّرتيب تبدو القطعة عموديّة في نظمها.. لـماذا قدّمها الشّاعر في مظهر شعر التّفعيلة؟ هذا التّصرّف في حاجة إلى تأمّل وتحليل ومناقشة. نشير إلى أنّ هذه الأبيات يمكن استثمارها في مجال التّصوير، فقد اشتملت على عناصر تحطّ بها في ذلك المجال: التّقابل بين المظاهر والمشاهد، صفتا الإيحائيّة والوجدانيّة متوفّرتان في بعض مفرداتها، الإيقاع موجود، وهو ناتج من تكرار صيغ معيّنة، والجرْس حاضر فيها، وهو منبعث ومنبثق من حروف خاصّة متكرّرة في القطعة.. جماع كلّ ذلك ساعد الشّاعر على تكوين نسق كان التّصوير فيه بارزًا..
على بحر الطّويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) نظم سعيد قصيدته: “جمال هواكِ)(20) منها هذه الأسطر:
جمال هواكِ (فعولن مفاع)
يملأ العينَ والقلبَا (لن فعولن مفاعيلن)
فيزهرُ أمجادًا (فعول مفاعيلن)
ويختزنُ الخصبَا (فعول مفاعيلن)
يُسَطِّرُ في (فعول مفا)
سِفْرِ الزّمانِ وُجودَهُ (عيلن فعول مفاعلن)
ويَرْوِي حكايَا الـماجدين (فعولن مفاعيلن فعول)
ومنْ لَبَّى (مفاعيلن)
على بحر المتقارب: فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن ) كتب قصيدته: ” صباح بحبّ الوطن”(21)
كتب البيتين الأوّلين بنظام الشّطرين.. والباقي بنظام الأسطر، أي قام بالتّصرّف في تفعيلات الأسطر: عددًا وتوزيعًا.. فما هو الدّاعي إلى هذا الإجراء؟ ما هو دافع الشّاعر الشّعوري والنّفسي؟ ما هي قيمته الفنّيّة؟ الجواب عند الشّاعر.. والتّعليق والتّحليل من المتلقّي والدّارس..
صباحٌ جَـميلٌ بـحُبّ الوطنْ | تبسّمُ في الكَوْنِ ذِكْرًا وفَنْ | |
صباحٌ بِلادي، التي أهلُهـا | قلوبٌ من الـحبِّ طُولَ الزّمَنْ |
تُزَهِّرُ (فعول ف)
روحَ الوجودِ حبورَا (عولن فعول فعولن)
وتنثُرُ (فعول ف)
في العالمين الـحسنْ (عولن فعول فعو)
وتسقي (فعولن)
عـجافَ السّنينَ اخضرارَا (فعولن فعولن فعولن)
وتـمنحُ (فعول ف)
خوفَ النّفوسِ الوَسَنْ (عولن فعولن فعو)
تُوزّعُ (فعول ف)
قمحَ الـهناءِ (فعولن فعول)
وتُشْعِلُ (فعول ف)
نَـجْمَ الرّجاء (عولن فعول)
وتُـهْدِي السّنَنْ (فعولن فعو)
سلامٌ بلادي (فعولن فعولن)
هوى الطّيّبينْ (فعولن فعو)
هُدَى الصّالـحينْ (فعولن فعو)
بـهاءُ الفطَنْ (فعولن فعو)
على مجزوء المتقارب كتب مقطوعته: ” الـمنى والغمام”(22):
بِــجَيْبِ الــمُنَى والغَمامْ | تَدُسِّيـنَ صُبْحَ الكَــــلامْ | |
تُذِيبيــــنَ سِـرَّ الـمَعَانِـي | فَـيَجْـرِي بِـماءِ السّـــلامْ | |
وتَـخْضرُّ أَرْضُ الـحَيَاةِ | بِرَغْـــمِ اشْتِعالِ الرُّكامْ | |
سَــلامٌ علَى أُفْقِكِ الرّحْـبِ | يَسْبَحُ فيهِ الـحَمــامْ(23) |
يبدو أنّ الشّاعر في هذا الحسّ الوجداني كان سريعًا في بثّه، اختصر في عدد الأبيات، وفي عدد التّفعيلات، واختار رويّ الـميم الشّفوي المخرج، الذي صفته الغنّة وأنهاه بسكون لتكون القافية مقيّدة. في هذه السّرعة وهذا الاختيار للرويّ ونوع القافية والبحر، مع غلبة الكلمات الإيحائيّة (الغمام، صبح، أفق، سرّ، تخضرّ، تشتعل، يسبح، سلام، الحياة، الرّكام…) وكذا تَكَرُّر حَرْفَي الميم والسّين في المقطوعة.. في كلّ هذه المظاهر برز دورها في توفير موسيقى خاصّة نقلت الخلجات التي تموج في قلب الشّاعر …
هذه المقطوعة تكشف عن وجه من وجوه تعامل الشّاعر الصّقلاوي مع البحور الشّعريّة الخليليّة، وتبيّن رغبته في التّنويع في قوالب كتاباته والتّفنّن في عرض مشاعره وأفكاره على هذه القوالب.. هذا التّنويع يبين عن وعي الشّاعر في انتقاء أسلوبه في التّصوير، الذي كان له دور في إيجاد موسيقى خاصّة ترجمت عن مشاعره…
هكذا نقف على التّنوّع الذي قدّمه الشّاعر سعيد الصّقلاوي في نظم قصائد ديوانه ” ما تبقّى من صحف الوجد” في مجال الوزن، فقد مزج بين الشّعر العمودي وشعر التّفعيلة، الذي لم يخرج في أغلبه عن التّفعيلات المعروفة في النّسق الخليلي، مع بعض التّصرّف في بعض التّفعيلات زيادة ونقصانًا. كما كان في أغلب قصائده ومقطوعاته ملتزمًا بالرّويّ الرتّيب. لاحظت – أيضًا – أنّ كثيرًا من قوافي قصائده كانت مقيّدة.. ما تفسير هذا المظهر أو هذا الاختيار؟
هذه بعض النّماذج التي تكشف عن نوع الموسيقى في ديوان: ” ما تبقّى من صحف الوجد”.. هي في حاجة إلى تأمّل وتحليل عميقين، للوقوف على حقيقة الموسيقى في قصائد الدّيوان، ثم معرفة مدى تصرّف الشّاعر سعيد في العناصر المكوّنة للموسيقى بخاصّة في جانب الوزن والإيقاع.. لنسأل: هل كان لتصرّفه وتنويعه في هذه الموسيقى ما يلفت النّظر؟ هل في بعض ما قام به خروج عن المألوف؟ هل هو في صميم الكتابة الفيّة بالشّعر؟
ما أراه أنا – ملاحظة أوليّة -: إنّ سعيد الصّقلاوي حاول التّنويع في مكوّنات قصائده موسيقيّا، مع ارتباطه بأصول العروض كما عرف عن الخليل بن أحمد الفراهيدي ومن سار في دربه.. أي كان مرتبطًا كثيرًا بالشّعر العمودي.. مع الاجتهاد في ربط صلة قويّة بين الشّعر والوسيقى، ما وفّر لعمله الإيحاء الذي أعانه على إيجاد عنصر التّصوير المطلوب في العمليّة الشّعريّة.
وكان في نظمه مع هذا التّنويع يأخذ بعين الاعتبار قيمة الإيقاع النّفسي الكلامي، لا صورة الوزن العروضي للبيت الشّعري؛ بدليل تصرّفه في توزيع التّفعيلات على الأسطر، غير متقيّد بما هو متعارف عليه في العروض الخليلي، رغم ارتباطه به.
التزم الشّاعر بالقافية في مجمل قصائده، كتب أغلبها على شكل أسطر، لكن بإعادة كتابة هذه الأسطر بحسب التّفعيلات التي تتضمّنها يعود بنا أو يحطّ في نسق الأبيات ذات الشّطرين، كما هو في الشّعر العمودي الخليلي..
هل يمكن أن نقول: إنّ تجربة الصّقلاوي في الإيقاع كانت من نوع الإيقاع اللّفظي؟ وهل نقول أيضًا: إنّ هذه التّجربة اعتمدت إلإطار التّقليدي ذي الطّابع العصري؟ هل استندت على نظام المقطوعة المتغيّرة القوافي في نسق معلوم، كما سجّل هذه الملاحظة عبد القادر القُط عن بعض الشّعراء الوجدانيّين ومع محاولاتهم التّجديديّة المبكّرة، وذكر – خاصّة – الشّاعر أحمد باكثير نموذجًا لذلك (24) وما بيّنه من توفيقهم في الحصول على نتائج مهمّة في إطار القصيدة التّقليدي من وحدة في السّياق والشّعور (25)
من وجهة نظري الخاصّة، إنّ كثيرًا من هذه الملاحظات تحقّق للصّقلاوي في قصائد ديوانه.. فهذه الملاءمة بين القديم والجديد نجاح مهمّ في الكتابة الشّعريّة.. إطار القصيدة قديمٌ ومضمونُها وصياغتُها أو نسجها وسبكها وبناؤها جديد في لغتها وصورها وموسيقاها بخاصّة الإيقاع الذي غدا بارزًا في أشعاره..
الطّبيعة
كان للطّبيعة نصيب بارز في أشعار سعيد الصّقلاوي، هذا طبَعي ومنطقي وواقعي، ما دامت قصائد الدّيوان تنقل وجدانيّات الشّاعر، التي كانت – إلى جانب كونها تُصَوِّر حالات شعوريّة للشّاعر- تحمل رسائل وتقدّم أفكارًا عن الحياة الحاضرة، ونظرات لمستقبل الحياة التي تستفيد من الطّبيعة وما تتضمّن من معانٍ ومغازٍ، يعمد الفنّان إلى استثمارها لنقد مجريات الحياة واستلهامها في توحيه هذه الحياة الى ما ينفع ويفيد.. والحسّ المرهف سمة الشّعراء، هذا ما يخوّل لهم ويسمح بهذه الوصفات والتّصويرات الخاصّة..
في قصيدة الشّاعر سعيد الصّقلاوي ” مآلات ” (26) تظهر الطّبيعة بارزة للتّعبير عن مشاعره ووجدانه وأفكاره:
” متفكّرًا
بينَ الظِّلالِ مُرنـّمًا
حَسِبَ الحياةَ جـميلةً
وهي الـحِمَى
لَـمْ يَدْرِ أنَّ مآلَها
أَنْ تَـهْرَمَا
أَنَّ الرِّضَا
يُبْدِي الـجَمالَ الـمُنَعَّمَا
أنَّى عَبَرْتَ بِهِ الزَّمانَ
فَإنّهُ
طَوْقُ الـنّجاةِ
مَـحَبّةً وَتَبَسُّمَا
يَسْقيكَ شَهدَ سَكينَةٍ
وتَأَمُّلٍ
وَيُزيلُ عنْكَ الـهمَّ
والـمتَبرّمَا
إِنْ شِئْتَهُ زَهْرًا
أَتاكَ بِعِطْرِهِ
أَوْ شِئْتَهُ ودًّا
أَتاكَ مُتَمِّمَا “
إنّ النّصّ رغم قصره، هو يحمل رسالة في الحياة، تتمثّل في عدم ترك الهموم تسيطر على الإنسان، بل عليه توجيهها للإفادة منها، هذه الإفادة يمكن استرفادها من الطّبيعة، فإنّ ما فيها أشياء تعين على إدراك كيفية التّعامل والتّناغم في الحياة بشكل إيجابي.. فماذا نجد في النّصّ من الدّلالات على هذه الفكرة؟
(1) كلمات هي من صميم الطّبيعة: (شهد، زهر، الظّلال، العطر..)
(2) كلمات لها علاقة بمظاهر الطّبيعة أو ما تنتجه الطّبيعة: (الحياة، الجمال، ودّ، محبّة…) (مرنّمًا، منعّما، تبسّما. جميلة..)
(3) تركيبات تتضمّن أوصافاً، تحمل مفهومات تنتج من الطّبيعة: (الحياة جميلة، الجمال المنعّما، يَسْقيكَ شَهدَ سَكينَةٍ، يُبْدِي الـجَمالَ الـمُنَعَّمَا..)
يحمل النّصّ فكرة مضمونها: التّفاؤل بالحياة، وزرع الطّمانينة في القلب ونزع التّشاؤم، والتّخلّص من الهموم.. لتبليغ هذه الفكرة والرّسالة استعان الشّاعر بالطّبيعة – ولو بشكل بسيط ومختصر ومقتضب – لينقل هذه الفكرة.
يبدو أنّ سعيد الصّقلاوي متأثّر بإيليا أبي ماضي في شعر الطّبيعة، أو على الأقلّ نحسّ روحه في النّصّ..:
(1)نلحظ الدّعوة إلى التّأمّل والتّفكّر في الحياة كما كان يدعو إيليا أبو ماضي. في نصّ سعيد الصّقلاوي علامات على ذلك، منها:
(أ) عنوان النّصّ يحمل هذه الدّلالة (مآلات)، فيه دعوة إلى التّأمّل فيما تؤول إليه الحياة.
(ب) كلمات صريحة في المعنى: (متفكّرًا، تأمّل، لمْ يدرِ)
(2)تحطّ بنا هذه القصيدة أو تذكّرنا بقصيدة إيليا أبي ماضي: ” كن بلسمًا”. فكلّ ٌمن نصّ إيليا أبي ماضي وسعيد الصّقلاوي نظم على بحر الكامل، وكلاهما انتهي برويّ ميمي ممدود.
مطلع قصيدة إيليا أبي ماضي”
كُنْ بلسمًا إن صار دهركَ أرقمَا | وحلاوةً إن صَار غيرُكَ عَلْقمَا |
وكلّ مقطع من قصيدة الصّقلاوي يكوّن شطرين للبيت الواحد، فالمطلع جاء كالاتي:
مُتَفَكِّرًا بينَ الظِّلالِ مُرنـّمًا | حَسِبَ الحياةَ جـميلةً وهْيَ الحِمَى |
(4)في النّصّين كلمات مشتركة..
في قصيدة ” نيروز ” (27)يبدو فيها ارتباط الشّاعر بوطنه عمان، واعتزازه به واهتزاز مشاعره بالمظاهر والعادات التي تميّزه.. فعن موسم ” نيروز ” المتميّز في عمان؛ مناخًا واحتفالا وما يرتبط به من عادات وتقاليد.. كتب الشّاعر هذا النّصّ؛ مبديًا فيه مشاعره وعواطفه نحو وطنه عمان بواسطة وصف ما أهاج وجده نحو هذا الموسم.. فكان للكلمات والأوصاف والرّسوم التي تنتمي إلى الطّبيعة أو تتعلّق بها حضور في القصيدة، وبها تمكّن الشّاعر من نقل مشاعره للمتلقّي، قال:
” نَظلُّ نَنْتَظِرُ
تأتِي فَننْهَمِرُ
أزْهارَ أَفْرَاحِ
الـماءُ والشَّجَرُ
والشّمْسُ والقَمرُ
تَسْبيحُ أَرْواحِ
مِنْ حَوْلِنَا العُمُرُ
أَحْلامُهُ وَطَرُ
مـمْزُوجَةُ الرّاحِ
يَهْذِي بِـهَا النّهَرُ
والنّسمُ والزّهَرُ
وكَأْسُ مَزّاحِ
والبُلْبُلُ الـخَضِرُ
يَشْدُو فَيَنْبَهِرُ
خُدودُ تُفّاحِ
كتابُهُ العُصُرُ
في الرّوحِ يَزْدَهِرُ
وفي مَدَى السّاحِ
الأَرْضُ والبَشَرُ
نَيْرُوزُهْم نَضِرُ
في قَلْبِ وَشَّاحِ ”
اختار الشّاعر للنّصّ كلمات لها علاقة بالطّبيعة لينقل صورا عن مشاعره الصّادقة نحو وطنه عمان.. من خصائص الطّبيعة ومن طبعها أن تكون صافية من الدّغل، نقيّة من الدّرن، تحمل دلالات ومعاني في طيّاتها قيم، سخّرها الله ليستفيد منها الإنسان ما يعينه على فهم الحياة فهمًا صحيحًا، ويأخذ منها دروسًا في حسن التّعامل مع الأشياء..
إنّنا إذا بحثنا عن المعاني التي استنطق فيها سعيد الصّقلاوي الطّبيعة ليكشف عن حقيقة وطنه، نجد أنّه بدأ القصيدة بحسن استقبال ” نيروز” الذي يمثّل رمزًا من رموز عمان؛ بصفته معلمًا من المعالم التي تبرز وجهًا من وجوه الوطن، أو مظهرًا من مظاهره، إذ بحلوله تنشط النّفوس في إحياء عادات وتقاليد والقيام بأنشطة من وحي المناسبة.. هذه الأنشطة تمثّل أصالة عمان وعمقه..
ما دام نيروز يحمل صفات الطّبيعة أو مظاهرها، فهو يبدو في أبهى حلل الطّبيعة.. ليبرز ذلك عمد الشّاعر إلى عناصر أو لوحات:
(1) اختار لوصف الطّبيعة المربوطة والمصبوغة بمشاعره وعواطفه كلمات هي من مكوّنات هذه الطّبيعة: (المطر، الزّهر، الشّجر، النّهر، القمر، الشّمس، الأرض، الماء، البلبل، تفّاح..)
هذه الأشياء هي ممّا يبرز مكوّنات الطّبيعة، ويظهر مكنوناتها.. هي كلّها مت\\\وفّرة في طبيعة عمان، وقد جاءت لتستقبل هذا العيد المتميّز (نيروز)..أليس في هذا الحشد لهذه الأسماء نقل لما تزدهر وتزدهي به طبيعة عمان؟! في هذا الحشد المتتابع لهذه الأشياء تصوير لإعجاب الشّاعر بمظاهر وطنه، حتّى انّه استسلم لورودها على خاطره وهو يتفاعل وجدانيّا وعاطفيّا مع روائع عيد نيروز فدوّنها في شعره..
الكلّ يستقبل هذا العيد: البشر والحجر والشّجر والزّهر والمطر…في هذا التّصوير دلالة بعيده الأثر، وهي الوَحدة التي يكون عليها الجميع ملتفّين حول الوطن، وفيها يظهر الارتباط القويّ به..
(2) قدّم تركيبات فيها تصوير للتّفاعل بين الطّبيعة التي حملها نيروز وأهل عمان (والشّاعر واحد منهم)، هذا التّفاعل يبدو في افتتاح الشّاعر النّصّ بوصف الشّغف والشّوق اللّذين تكون عليهما نفوس العمانيّين وهم ينتظرون قدوم هذا العيد: (نظلّ ننتظر)، وحين يقدم يتحرّك الكلّ، وتدبّ الحياة نديّة في كلّ شيء (تأتي فننهمرُ أفراحَ أزهارِ).. في هذا الوصف والتّصوير نقرأ ما يدور في جنان الشّاعر من الوجد والشعور الخضر نحو نيروز بطبيعته وجماله النّضر..
(3) قدّم مشاعره في صور، اعتمد فيها المجاز والاستعارة.. من هذه التّركيبات والصّور قوله: ” تأتِي فَننْهَمِرُ أزْهارَ أَفْرَاحِ”. تقدّم هذه التّركيبة وتبيّن كثرة الهرولة والسّرعة لاستقبال نيروز حين قدومه.. فيكون هذا القدوم ماءً عذبًا منهمرًا، يتعمّق الأرض في سقيها؛ لتنتعش وتنبت نباتا حسنًا، يظهر على شكل أزهار فوّاحة ترسل أريجًا ينعش النّفوس ويحيي القلوب، فتتحوّل الأرجاء أفراحًا..
في هذه الصّورة النّاقلة للمشاعر نحو نيروز حين قدومه بعد طول انتظار..اعتمد الشّاعر على الكلمات الموحية والمنسابة انسياب الماء، وعلى الخيال الذي بنى استعارة، وظّفها الشّاعر في الكشف عن عواطفه ووجده.. فكانت هذه التّركيبة قطعة من الطّبيعة التي تسكن قلبه، المستوحاة من طبيعة العيد نفسه.
” يَهْذِي بِـهَا النّهَرُ والنّسمُ والزّهَرُ وكَأْسُ مَزّاحِ “.. من آثار حلول نيروز بحلّته الجميلة أنّها جعلت الطّبيعة نفسها تنتشي وتبتسم إلى حد الهذيان الإيجابي طبعًا، اشترك في هذا الانتشاء النّهر والزّهر وغيرهما.. المجاز واضح في هذ التّصوير، لا تخطئه حاسّة المتلقّي..
” والبُلْبُلُ الـخَضِرُ يَشْدُو فَيَنْبَهِرُ خُدودُ تُفّاحِ “. ما على الأرض وما يمشي عليها ابتهج، وما في السّماء أو ما يطير شدا وغنّى طربًا..كما ظهر الانبهار بطبيعة نيروز في احمرار التّفّاح..هكذا صوّرت التّركيبة اللّون والصّوت والنّضارة والحركة بواسطة الخيال الذي أنتج مجازًا ولّد استعارة.. تضافر كلّ ذلك في تصوير مشاعر الشّاعر نحو طبيعة نيروز..
(4) أتى ببعض الكلمات مردوفة أو مرفودة بأوصاف أو إضافات: ” والبُلْبُلُ الـخَضِرُ “، ” أَحْلامُهُ وَطَرُ مـمْزُوجَةُ الرّاحِ”، ” نَيْرُوزُهْم نَضِرُ في قَلْبِ وَشَّاحِ ” ” الـماءُ والشَّجَرُ والشّمْسُ والقَمرُ تَسْبيحُ أَرْواحِ” ..
هذه الجمل بهذا النّسق تكشف عن الحسّ الوجداني في قلب الشّاعر، الذي يترجم عمّا يموج فيه من انبهار بطبيعة عمان في موسم نيروز..
(5) لم يغب الإيقاع عن نسيج النّص، الذي أوجد وشيحة قويّة بين طبيعة الوطن في موسم نيروز وطبيعة ما يتململ في داخل قلب الشّاعر من جمال وحسن وبهاء..( ننهمر، ينبهر، يَزْدَهِرُ، ننتظر) زيادة على الصّيغة الواحدة التي جاءت عليها هذه الكلمات، نلاحظ تكرار حرفي الهاء والرّاء، من مجموع ذلك تكوّن إيقاع مطرب معبّر مصوّر: (البَشَرُ، النَّهَرُ، الشّجَرُ، القَمَرُ، الزّهَرُ، الـخَضِرُ، وَطَرُ، نَضِرُ، العُمُرُ، العُصُرُ)هذه الكلمات كلّها ثلاثيّة الحروف، وكلّها انتهت بـــــ ” راءٍ ” مضمومةٍ، وبعضها جاءت فيها حركة الفتحة أو الضّمّة متجاورة.. هذا النّسق كوّن إيقاعًا انعكس من طبيعة نيروز المطربة المنعشة المبهجة.. فكان الشّاعر سعيد الصّقلاوي بهذا النّسيج قد جمع بين المضمون والشّكل في تقديم طبيعة نيروز..
بهذا التّصوير يكون الشّاعر سعيد الصّقلاوي قد أخذنا بجولة سياحيّة في طبيعة عمان في موسم نيروز من خلال نفسه أو من بوّابة مشاعره، أو من داخل ذاته.. فهذا التّصرّف هو من صميم الكتابة الشّعريّة، خاصّة الكتابة الوجدانيّة؛ لأنّ الفنّان حين يكتب من هذه الزّاوية أو يعالج الموضوعات برؤية خاصّة يكون له الحقّ أن يختار الأسلوب الذي يريده، ويسلك الطّريق التي يرتئيها مناسبة لبلوغ هدفه. “…وعندئذ يأخذ الشّاعر كلّ الحقّ في أن يشكّل الطّبيعة ويتلاعب بمفرداتها وبصورها النّاجزة كذلك كيفما شاء ووفقا لتصوّراته الخاصّة، إذا رأى أنّ هذا هو الطّريق الوحيد أو الأسلوب الأصدق في التّعبير عن نفسه.
وليس في هذا الموقف أيّ تعارض مع النّظريّة التي تجعل النّصّ نوعًا من الجهد الذي يبذله الإنسان لكي يحقّق التّكامل بين نفسه وبين الأشكال الأساسية للعالم الطّبيعي وإيقاعات الحياة. إنّ الشّاعر إذ يندمج في الأشياء يضفي عليها مشاعره. فقد قيل ذات يوم: إنّ الفنّان يلوّن الأشياء بدمه.” (28)
هل لنا الحقّ أن نسأل عن الرّسالة التي يريد الشّاعر تبليغها أو الهدف الدي يرمي تحقيقه بهذا التّصوير؟ هل نبقيه في دائرة التّعبير عن مشاعره وعواطفه، ولا نطلب منه أكثر من هذا؟
لا ننتظر الجواب النّهائي.. نقول: يكفي أنّه قدّم للمتلقّي جمال بلده، وسجّل عنه إحدى المحطّات المهمّة في الحياة العمانيّة العامّة، كما أنّه بيّن ارتباطه ببلده وحبّه له.. هذه الإشارات في حدّ ذاتها رسائل مهمّة لكلّ فرد له وطن ينتمي إليه: أن يعتزّ به ويظلَّ وفيًّا له، وأن يكون كما قال ابن الرّومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألاَّ أبيعَــهُ | وألاَّ أرَى غبري لهُ الدّهرَ مالكَا | |
عَمَرْتُ بهِ شرخَ الشّبابِ مُنعّمًا | بِصُحْبَةِ قَوْمٍ أصْبحُوا في ظلالِكَا | |
وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِّجـالِ إليْهمُ | مَآرِبُ قَضَّاها الشّبـــابُ هُنَالكَا | |
إذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَـهُمْ ذَكًّرَتْهـُـمْ | عُهُودَ الصِّبَا فيها، فَحنّوا لذلكَا | |
وقدْ ألفتْهُ النّفسُ حتّى كأَنّهُ | لَـها جسدٌ، إنْ بانَ غُودِرَ هالكَا |
ما لفت نظري كثرة ورود لون الاخضرار في أشعار الدّيوان، مرّة بلفظه الصّريح ومرّة بما يشير أو يومئ إليه ويدلّ كالنّضارة..نلتقي مع هذه التّراكيب في أشعاره في الدّيوان:
” وتسقي
عجاف السّنين اخضرَارًا
وتمنح
خوف النّفوس الوسَنْ ” (29)
” والأطول أقصرْ
والأخضرُ أَسْمَرْ
والأبيضُ أَغْبَرْ
…خلّيني في النّور الأخضر
وأقيمي في محرابٍ لا يتأَثَّرْ
…فالوطن الأكبر يملؤُنا
يسمو فينا
…لن يتكسّر
وبنا منه الرّوحُ الأنْضرْ “ (30)
” وتخضرُّ أرضُ الحياة
برغم اشتعال الرّكامْ
سلام على أفقكِ الرّحبِ
يسبحُ فيه الحمامْ ” (31)
” سلام على الأيّامِ
إذْ أنتَ زهوُهُ
ودمت على الأيّام
مخضرّةً حبًّا ” (32)
” لكَ روضُ السّنا والمُنَى
والهوى الأخضر الطّيّبُ ” (33)
الاخضرار مرتبط ومقرون في صياغة الشّاعر سعيد الصّقلاوي بالحبّ والهوى والخير والنّضارة والحيوية والانتعاش والأمل والرّوح والضّياء والسّناء…هكذا يبدو لنا اللّون الأخضر معلمًا في شخصيّته، وأحد مظاهر الطّبيعة البارز في حياته، وأحد مكوّنات معجمه الشّعري..
مظاهر الطّبيعة بألوانها وأنواعها والالفاظ والصّور التي تعبّر عنها، والرّسائل التي تحملها مبثوثة في أشعار الدّيوان بكثرة.. أتينا بقصيدة واحدة نموذجًا لها، وأشرنا إلى لون واحد يبرز فيه وجه الطّبيعة بقوّة وهو الاخضرار الذي ظهر بشكل جليّ في أشعار الصّقلاوي.. يمكن للمتلقّي أن يرجع إليه ليقرأ التّفصيلات والنّماذج فيه.. المهمّ عندنا هو بيان وجه من الوجوه، الذي برز في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد “، وعرض أحد مظاهر وجدانيّات الشّاعر، وكيف نقلها إلى المتلقّي فنيًّا..
الصّقلاوي لم يخرج عن دائرة الشّعراء الوجدانيّين.. يقول عبد القادر القُطّ” ” ومنذ أن بدأ الشّعراء يتّجهون إلى التّجربة الذّاتيّة ويهتمّون بتصوير المشاعر والانفعالات ويلتفتون إلى مشاهد الطّبيعة ويربطون بينها وبين وجدانهم. أخذت طائفة كبيرة من الألفاظ المحمّلة بالدّلالة الشّعوريّة والجمالية تتردّد على عباراتهم وصورهم ممتزجة أحيانًا بألفاظ تقليديّة وخالصة أحيانًا لطبيعة التّجربة الوجدانيّة الجديدة. (34)
إنّ في شعر سعيد الصّقلاوي المستلهِم الطّبيعة والموظِّف لها في نقل مشاعره وانفعالاته نصيبًا من هذه الصّبغة في الكتابة الشّعريّة، فقد جمعت ألفاظه بين القديم والجديد، وهي مختارة بحسب ما دعت إليه تجربته ومواقفه وقدرته على انتقاء ما يلائم ممارسته وإبداعه.. المهمّ هو في هذه التّجربة كان وجدانيًّا في كتابته..
نسأل بعد عرض هذه التّجربة وهذه الكتابة، بناء على تأثير الطّبيعة في شعر الصّقلاوي: هل كان ذاتيًّا على منوال الشّعراء الوجدانيين و طبيعتهم؛ وَفقَ ما سجّله عنهم الدّارسون والنّقّاد؟ وبالتّدقيق هل ينطبق الحكم الآتي على سعيد الصّقلاوي؟: ” ويظهر الرّومانتيكي ذاتيًا في صوره، يصف ما حوله من مظاهر وموضوعات من خلال ذاته، فنفسه مرآة لما يراه. ولذا كانوا يمزجون مشاعرهم بمناظر الطّبيعة، وكانوا يكثرون من تشخيصها وأنسنتها، فتتحدّث بلغة إحساساتهم، وتفصح عنها، وتصدر عن مواقفهم الذّاتيّة منها، وبذلك نبذوا التّقليد ومالوا إلى الأصالة والتّفرّد.” (35)
يبدو لي أنّ الشّاعر الصّقلاوي ذاتيّ من حيث التّصوير والوصف والتّقدير، غيري من حيث معالجة القضايا والمسائل، وما يقدّمه من رسائل في شعره، باستثمار مظاهر الطّبيعة، أي هو ينطلق من ذاته في التّصوير ليحطّ عند غيره في القيام بالواجب في بثّ الوعي ونشر القيم واستنهاض الهمم..
وقفات في بعض القصائد
لا يمكن لي أن أدرس كلّ قصائد الدّيوان دراسة مستفيضة مستقصيًا ومستخرجًا ما فيها من خصائص ومميّزات.. إنّما أقف عند بعضها لتقديم نظرة شاملة عنها أو استخراج بعض ما يكشف عن شخصيّة الشّاعر الصّقلاوي أو الإشارة إلى جانب معيّن؛ لتكون هذه القصائد نماذج تُسهم في الكشف عن شعريّتها.(36)
(أ)من القصائد التي كثرت فيها الأسئلة ” سفر إلى الأعلى ” (37)
تمثّل هذه القصيدة وجهًا من وجوه الشّعريّة أو سمة من السّمات التي عرف بها الوجدانيّون في كتاباتهم الشّعريّة، وهي الـجنوح إلى السّؤال، أي الاستمرار في إخراج المشاعر بالاسترسال في تقديم الأسئلة ..:
قدّم الشّاعر الصّقلاوي أسئلة على لسان أمّه.. من بين ما ورد في القصيدة:
” هلْ حقًّا
ما بقي الأجملْ
ولماذا
لا نشعر بالوقتِ
أمْ أنّ الوقتَ غَدَا أطولْ
لِـمْ لَا
نسمعُ للعصفور نشيدَا
أفلاَ يجد الوقتَ الأمثَلْ
لِـمْ لَا نشرَبُ
قهوتَنَا تحتَ الشّيريشِ
نقرأُ
في صحفِ الأيّامِ بلا تشويشِ
نكتبُ
في عينِ الأضْواءِ
بلا تهميشِ
ننظرُ
في مرآةِ الذّات بلا تفتيشِ
ونطيِّرُ أجنِحةَ الحلمِ الزّاهي
أَبأَيْدينَا الوقتُ مكبَّلْ
لِـمْ لا نسمعُ موسيقى وغناءَ
أو ضِحكَ براءةِ طفلٍ وثُغاءَ
أفلاَ نسعدُ بالنّخْلِ حديثًا ورُواءَ
ونقَصُّ مشاعرَنا أشواقًا وبهاءَ
نروي الأشعارَ جمالاً.. حبًّا وثناءَ
أتُرَى نبضُ الوقتِ تَعطَّلْ
لِـمْ لا
تلمسُ
رؤيَتُنَا صبرَ الوجدانِ
وتزكِّي الإنسانَ
إلى الإنسان
لِـمْ لا
نرزَح في الميدانِ
أو نبرعُ
بين الإخوانِ
أوْ يطربنا العازي
لِـمْ لا
نصغي
للماء يثرثرُ في فلجِ
فيناغي داخلة الإحساس بلا حرجِ
أبأحجار الوقتِ نتّكلُ
رحلتْ أمِّي
رحلَ الزّمنُ الأوّلْ
لكنْ
منها
بقي الزّمنُ الأجملْ “
الأسئلة التي تتابعت في هذه القصيدة كانت منطلقة من وجدان الشّاعر، الذي امتلأ بمشاعر عالية التّوتّر، تريد أن تفصح عن شيء يموج في قلبه، وموجّهة لمعالجة حال يعيشها الإنسان؛ هي استذكار ذكريات ووصف مظاهر من الحياة الاجتماعيّة التي تسود المجتمع الذي ينتمي إليه.
إنّ الشّاعر بهذه الصّياغة وبهذا الأسلوب الذي تغشاه أسئلة وتوجّهه أسئلة وتحوطه أسئلة وترافقه أسئلة.. يرمي إلى إبلاغ المتلقّي أشياء؟ إمّا:
(1)أن يعرض حال النّاس مع ما كان يسود المجتمع من خصوصيّات وعادات وتحرّكات وتصرّفات.. تمثّل الطّابع الحقيقي للمجتمع.. فرّط فيها النّاس أو لم يعيروا لها اهتمامًا كبيرًا.. فهو بهذه الأسئلة يعبّر عن أسفه لذلك، ويذكّر النّاس بها..
(2)أن يتساءل: هل يمكن أن تعود هذه العادات وهذه المظاهر إلى الحياة العامّة؟
(3)أن يسجّل أنّ الحياة الحقيقيّة والطّبيعيّة في المجتمع الذي ينتمي إليه (الشّاعر) هي في تلك العادات والتّقاليد والمظاهر.. فالعودة إليها ضروريّة للمحافظة على أصالة هذا المجتمع وطبيعته؟
(4) أن يذكّر الآباءُ الرّاحلون الذين رسّخوا تلك العادات والمظاهر.. الأبناءَ الذين هم امتدادٌ لهم في كلّ شيء، وهم يعيشون ويدرجون ويتقلّبون في البيئة التي كانوا هم يتحرّكون فيها.. أن يذكّروهم بواجب التّمسّك بكلّ ذلك؛ لأنّ سعادتهم وهناءهم ومصلحتهم ومكانتهم في السّير في هذه السّبيل.. فتجربتنا معها أثبتت ذلك..؛ بدليل أنّ الشّاعر اختار عرض الأسئلة بلسان أمّه: (لِـمْ.. لِـمْ.. لِـمْ…)
ما يثبت أنّ الشّاعر يعيش وجدانيًّا مظاهر بيئته وعاداتها وما يموج فيها وما يروج ويعوج.. ممّا هو سمات خاصّة تتميّز بها الحياة في التّربة التي ينتمي إليها، وهو يرجو أن تستمرّ وتتواصل وتبقى وتعيش.. مايثبت كلّ هذا هو ما سجّله في قصائد كثيرة. منها قصيدته ” مراكب الأحلام ” (38) التي قال في مستهلّها:
” أعيديني
إلى ذاتي
ولُـمّي كلّ أشتاتي “
وأنهاها بقوله:
” رأيتُ مراكبَ الأحلامِ
لا تجري إلى الآتي “.
مهما يكن التّأويلُ والاستنتاج اللّذان نخرج بهما من هذا العرض وهذا التّقديم، فإنّنا نسجّل للشّاعر مظهرًا من مظاهر تناول موضوعاته الوجدانيّة، التي هي من سمات التّصوير الوجداني عند الشّعراء الرّومانسيّين والوجدانيّين.. فلهذا الأسلوب أثره في بقاء جذوة الشّعور متّقدة لتمنح الفنّان مزيدًا من الإبداع والتّفنّن في البوح بالمشاعر والأفكار التي لا تنتهي.. وبها تتطّور الكتابة وتتغذّى بالمقوّمات، التي من بينها التّعمّق في البحث وسبر الأغوار واستبطان الأشياء.. فالأسئلة أحيانًا أهمّ من الأجوبة كما هو معروف في الفلسفة.. وحتّى الأدب يرتقي فنيًّا بهذه السّمة.
من أدلّة ذلك أنّنا نحن تأثّرنا بأسلوب الشّاعر في القصيدة فأطلقنا العنان لعرض مجموعة من الاستنتاجات والتّأويلات غير المنتهية لتحديد الموضوع أو الفكرة الدّقيقة المعنيّة، التي يريد الشّاعر إيصالها إلى المتلقّي، أو ضبط حقيقة المشاعر التي استبدّت به.. وكأنّي بسعيد الصّقلاوي يذكّرنا بقول أبي الطّيّب المتنبّي:
أنامُ مِلْ ءَ جفونِي عن شوارِدِها | ويسـهَرُ الـخلقُ جرّاهَا ويختصمُ |
في بعض قصائد الدّيوان يرد هذا النّمطُ أو الأسلوب المعتمد على الأسئلة المتتابعة ليبثّ به الشّاعرُ شعورًا أو ينشر فكرة. ينظر قصيدته مثلا : ” ماذا تقول “ (39) وقصيدته: ” تيه ” (40)فهما تقدّمان صورة عن هذه الحقيقة في أشعار الدّيوان، وعن طبيعة الشّاعر الصّقلاوي في كتابته الشّعريّة، وعن أحد وجوه التّصوير والتّعبير عنده..
يقول في قصيدته ” زمن “(41):
” يَا أيّها الزّمنُ الماضي
على عجلٍ
ماذا ستكتُبُ عن بحرٍ
وعنْ جبلِ
فهل ترى البحرَ
لم يسكنْ على قلقٍ
وهل ترى جبلاً
يرسُو على وجلِ
وهل ستأسرُ تاريخًا
بلاَ خجلٍ
أوْ هل ستُطلقُهُ حرًّا
بلا دغلِ
وهل ستكتبُ صدقًا عنكَ
في ثقةٍ
أمْ هلْ ستنْشُرُهُ
أخبارَ منْخَطِلِ
لا زلتَ توقِدُ
في الأفكار حَيرتَها
وتستطيرُ اللّظَى
في قلب مُنفعلِ
خيلُ الأساطيرِ
تجري في أَعنّتِها
لها المدى ملعبٌ
والنّاسُ في شُغُلِ
إنِّي أُسائِلُ أَنْفاسًا
وتَسْأَلُنِي
عينُ اليقينِ
وما في الرّوحِ من شُعَلِ
إذا كنتَ تعرفُ ما تُبدِي
علَى سُؤْلٍ
فلستُ أَعْرِفُ ما تُبْدِي
على سُؤْلِ “
هل إدراج القصيدة آخر الدّيوان يحمل دلالة خاصّة، أو معنى محدّد: هل نفهم من هذا الإجراء أنّ الشّاعر أنهى وجدانياته وسرد مشاعره ونقل أفكاره بطريقة، يوحي بها إلى المتلقّي أنّه لم يتمكّن من بثّ كل ما يريد الإفصاح عنه؟ هل يعني أنّه عجز عن إيجاد أجوبة لكلّ ما يشاهده في مسار الحياة؟ هل يريد أن يقول: إنّ السّؤال يلازم الشّاعر الوجداني كظلّه لا يفارقه، فليس المهمّ عنده أن يحصل على الأجوبة، إنّما الأهمّ أن يبقى مرتبطًا بما يجري في الكون، وما يفرزه وجدانه متفاعلا مستفسرًا متسائلا، وبذلك يعيش دائم التّوهّج واتّقاد المشاعر وفيضان الأفكار.. فيكتب ويبدع ويواصل في التّعبير والتّصوير؟
مع ملاحظة أنّ القصيدة: ” سفر إلى الأعلى ” التي أثبتناها في هذا السّياق، نشرت الثّالثة في ترتيب قصائد الدّيوان.. بمعنى أوضح وصورة أبين دلالة: إنّ الشّاعر افتتح ديوانه بأسئلة وأنهاه بأسئلة.. ماذا يعني هذا؟ هل يضيف جديدًا لاستفساراتنا عن ظاهرة الأسئلة المتكرّرة في قصائد الشّاعر في هذا الدّيوان؟
الشّاعر الصّقلاوي – حسب تقديري – يسير في طريق الشّعراء الوجدانيّين بهذا الأسلوب، وينطلق من منطلقاتهم، ويسعى إلى الوصول إلى ما يرغبون بهذا النّمط من الكتابة الشّعريّة، التي ترتكز على بثّ المشاعر . يمكن عرض تجربة الصّقلاوي مع الكتابة – بخصائص الشّعر الوجداني – بما سجّله عبد القادر القطّ عن الشّعراء الوجدانيّين للوقوف على ما يتوفّر عليه شعره من تلك الخصائص من عدمها..
يقول عبد القادر القُطّ: ” وهناك سمة نفسيّة أو وجدانيّة غالبة تنبع منها كثير من المظاهر الفنّيّة في شعر هؤلاء الشّعراء، هي حدّة إحساسهم ورغبتهم في إبراز هذا الإحساس الحاد بأقصى ما يمكن من البيان والتّأكيد. ويتحقّق هذا التّأكيد ببناء العبارات الشّعريّة في الأبيات المتتابعة على نمط لغويّ وبيانيّ واحد، مع خلاف يسير. وربّما تضمّنت العبارات المتشابهة بعض المجاز أو الألفاظ الوجدانيّة الحديثة. لكنّ منطلقها يظلّ هذا البناء اللّغوي الذي يعتمد أحيانًا على الاستفهامات أو التّعجّب أو النّفي مع نسق خاصّ للعبارة في أوضاع أفعالها وأحوالها وصفاتها وإضافاتها، وغير ذلك من عناصر بناء الجملة… وكأنّ الشّاعر يقنع ببراعته في تركيب تلك الأبنية المتشابهة المتتابعة، وقد يؤدّي اعتماد الشّاعر على صيغ الاستفهام والتّعجّب والتّساؤل والنّفي إلى علوّ النّبرة وصخب الإيقاع” (42)
(ب)بين قصيدة ” انتظار ” لسعيد الصّقلاوي (43) وقصيدة ” انتطار ” (44) لعلي محمود طه تشابه في الحسّ الوجداني وتماثل في الحال، وتقاطع في بعض الكلمات. قال سعيد الصّقلاوي وهو يتأسّف عن عدم لقائه بمن كان ينتظر قدومه:
” عادَ القطارُ
ولم تعودِي
لكنْ
وُجودُكِ
في وُجودِي
يمضِي النّهارُ
بلا وُعودِ
والمساءُ
بلا وعودِ
وأنَا
أُحدِّثُ فكرتي
طورًا
وأستَدْعِي شرُودِي
ماذَا…
وماذَا…
ثُمَّ ماذَا…
فالرّبيع بلا ورودِ
وهواجسِي
تترَى تَجيءُ
ومرّةً
يحلُو نشيدِي
وحفيفُ أشجارٍ
يُؤَانِسُنِي
ويسْأَلُ في برودِ
المقعَدُ الخالي
وأعمدةُ الإنارةِ
في هجودِ
النّاسُ
واللّحظاتُ
والجدرانُ
أعيُنُهُمْ شُهُودِي
والهاتفُ المسكونُ
بالأشواقِ
يقبَعُ
في رُكودِ
عينُ النّوافذِ
والزّجاجِ
تُطلُّ في
لـهفٍ شديدِ
نفسُ الرّصيفِ
تَرَقُّبٌ
لِخطاكِ
تَدرُجُ
في وئيدِ
عادَ القطارُ
محمّلاً
بالوعدِ
لكنْ
لم تعودِي
يتصارعُ الخفقانُ
في صدري
فَأُنْزَغُ
من جمودي
أجري على العربات
أَفْتَحُها
هبوطًا
في صُعودِ
وتنوشُنِي الهمساتُ
والنّظراتُ
تلسعُ
في وريدِي
وَسَأَلْتُ أَمْكِنَةً
وأحداقًا
ومرسالَ البريدِ
غالبتُ نفسي بالتّمنِّي
كيْ أَراكِ
فلمْ تجودِي
نادى القطار
تأهّبًا
وأنا فؤادي
في وقيدِ
نادَى وغلَّقَ بابَهُ
وأنَا أُتَمْتِمُ في قُعودِي
ومضَى
بلا حرجٍ
يُصفّرُ
للقريبِ
وللبعيدِ
سـمَّرتُنِي
قلبًا
وأحلامًا
وأوقاتِي قُيودِي
مُستطلعًا
رؤْيَا
هلال جمالِ
مقعدِكِ السّعيدِ “.
كتب علي محمود طه قائلا في انتظاره:
ليلٌ منَ الأَوْهَامِ طَالَ سُهَـادُه | بينَ الجوَى الـمُضنِي وهَـْمِس الخَواطرِ | |
حتّى إذاَ هَتَفَتْ بِمقدمك الـمُنَى | وَأصخْتُ أَسْتَرْعِي انْتباهَةَ حَائِر | |
وَسَرَى النّسيمُ مِنَ الـخَمائل وَالرُّبَى | نَشْوَانَ يَعْبقُ مِنْ شَذَاكَ العَاطِرِ | |
وَتَرنَّـــــمَ الوَادِي بِسَلْسَلِ مَائِـهِ | وَتَلَتْ حَـمَائِمُهُ نَشيدَ الصَّافِـرِ | |
وَأَطلَّتِ الأَزهارُ مِنْ وَرَقَاتِـهَا | حَيْرَى تعَجَّبُ للرَّبِـيعِ البَاكـرِ | |
وَجَرَى شُعَاعُ البَدْرِ حَوْلَك رَاقِصًا | طَــرَبًا علَى المَرْجِ النَّضيرِ الزَّاهِـرِ | |
أَقْبَلْت بِالبَسَمَاتِ تَـمْلَأُ خَاطِرِي | سَحَرًا وَأَمْلَأُ مِنْ جَمالِكَ نَاظِــرِي |
هاتان القصيدتان تلتقيان في كثير من العناصر:
(1)النّفس الوجداني في التّصوير والتّعبير وبثّ المشاعر..
(2)توظيف الطّبيعة في الصّياغة ونسيج الكتابة ونقل الأحاسيس.
(3) وجود ألفاظ مشتركة في النّصّين بحروفها أو بمعانيها، مثل: أحلام، همس، التّمنّي والمنى، الصّافر، الأزهار والورود، هاتف، جمال، نشيد، فكرتي وخاطري، حائر، أشجار وورقات.. يفترق النّصّان في غير ما سجّلناه، لكنّ بعض الكلمات الواردة فيهما تؤدّيان كثيرًا من المعاني المشتركة بينهما.
(4) بحر القصيدتين واحد، هو ” الكامل” مع إنهاء سعيد الصّقلاوي التّفعيلة الأخيرة في السّطر الأخير من كلّ مقطع بــــ ” متفاعلاتن، أي في التّفعيلة علّة..
يتميّز نصّ الصّقلاوي بما يأتي:
(1)الشّاعر أكثر انفعالا ًوتأثّرًا بالانتظار.
(2) نصّه أعمق وصفًا للحال وأحسن تصويرًا للمعاناة.
(3) هو أطولُ نفسًا في التّعبير وأكثر تفصيلا وتتبّعًا للحركات.
(4) في قصيدة الصّقلاوي عدّة أمكنة وعدّة مشاهد. وهي اكثر حركيّة وحيويّة في نقل مشاعره وهواجسه وهمساته ووجداناته.. وفيها أكثر من مقطع، مزج بينها الشّاعرُ وقدّمها بطريقة التّركيب (المونتاج) السّيينمائي، إذ كان ينتقل بها مع المتلقّي بين الزّمان والمكان والأحداث والحركات..
(5) قدّم الصّقلاوي مشاعره عن طريق القصّ، أي ظهر النّصّ في مظهر القصّة.
(6) أشرَك في التّصوير والتّعبير أكثر من شيء وأكثر من جهة..
(7) مازج بين الفعل الدّاخلي والخارجي، فنقل المتلقّي إلى أعماق نفسه وأوقفه على مشاعره وحاله النّفسيّة، .بينما اكتفى علي محمود طه بالوصف الخارجي لما مرّ به وما كان ينتابه من مشاعر..
(8) انتظار علي محمود طه أتى بالنّتيجة، أمّا انتظار سعيد الصّقلاوي فذهب هباء منثورًا، فتمتّع ناظرُ الأوّل بجمال من كان ينتظر، أمّا الثّاني فبقي ناظرُه يستطلع رؤية هلال جمالِ من كان يترقّب حضوره في مقعدِه السّعيدِ، فاكتفى في الغنيمة بالإيّاب كما يقول المثل العربي..
(9) نتظار الصّقلاوي كان في النّهار وغشيه المساء ولم يظفر ببغيته، أمّا انتظار علي محمود طه فكان في اللّيل، وأسفر له الصّبح عن مبتغاه...
(10) توفّرت قصيدة الصّقلاوي على التّصوير والإيقاع والأسلوب والصّياغة المناسبة لنقل الوجدان..
نؤكّد أنّ المهمّ من هذه المقارنة ليس المقاربة أو المفاضلة أو التّقويم..إنّما الغرض هو بيان مدى تمتّع سعيد الصّقلاوي بالحسّ العاطفي، وتوفّر شعره على خصائص الشّعر الوجداني، وتأكيد سيره أو تدرّجه في مسار الشّعراء الوجدانيّين.. أو على الأقلّ محاولة إيجاد علاقة وثيقة بينه وبين الشّعر الوجداني، أو تلمّس أثره في كتابة الصّقلاوي الشّعريّة.
(ج) من القصائد التي يمكن اعتمادها نموذجًا للتّعرّف على شخصيّة الشّاعر سعيد الصّقلاوي قصيدة: “مٍرآة” (45) فهي تعكس صورة ما يتميّز به، كما تعكس الواقع الذي يعيشه النّاس.. ففيها تأمّلات في الحياة، ونظرات في الوطن، ومقارنات هادفة، ورسائل عميقة، وإبراز تناقضات ومفارقات في حياة البشر.. وغير ذلك، ممّا يقدّم فكرة عن معالجة مهمّة للواقع، قام بها الشّاعر بطريقة فنيّة بواسطة الشّعر، الذي يعنى بنقل الشّعور في الدّرجة الأولى. افتتح الشّاعر القصيدة بقوله:
” مرآتِي أنتِ
ومِرآتُكِ أنتِ
هُمْ
وكلانَا ينظرُ في المرآةِ
ولكِنَّا
هلْ نعرفُهُمْ!
الأيمنُ أيسرْ
والأكبرُ أَصْغَرْ
والأطولُ أَقْصَرْ
والأخْضَرُ أَسْمَرْ
والأبيَضُ أَغْبَرْ
والمبصِرُ أَعْورْ
والواضِحُ مُضْمَرْ
والباسمُ كشَّرْ…”
وأنهى القصيدة بالمشاعر الآتية:
” خلّيني
في النّور الأخضرْ
وأقيميني
في محرابٍ لا يتأثّرْ
فالوطنُ الأكبرُ يملؤنا
يسمُو فينا
أوْحَدَ
أغْلَى
أَحْلَى
أَكْثَرْ
لنْ
يتكسّرْ
وبنا منهُ الرّوحُ الأنْضَرْ”.
إنّ قصيدة ” مرآة ” – بتكرار كلمة مرآة ودلالاتها، وتصوير حال النّاس التي قد تبدو متناقضة، وما فيها من صور التّقابل والتّضاد والتناظر وغيرها، ممّا يموج في حياة البشر..- تمثّل المرآة التي تعكس الأوضاع والأحوال والمظاهر التي تسود في علاقات النّاس مع كلّ شيء.. فهي – إلى جانب تصوير الواقع – تحمل رسائل لمن يهمّه الأمر لإعادة النّظر في التّصرّفات المشينة المقيتة التي لا تخدم الإنسانيّة في شيء.. ومع كلّ ذلك فالقصيدة تحمل روح التّفاؤل والأمل والرّجاء في العيش في هذه الحياة بإيجابيّة..كما تدعو إلى ذلك قصائد الدّيوان.
إنّ سعيد الصّقلاوي في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد ” كان جدّ متفائل، رغم ما كان يبديه من حسرات على بعض الأوضاع والمظاهر والتّصرّفات.. من نماذج القصائد التي تحمل هذه الرّوح أو الخاصيّة، قصيدة ” سطوع ” (46)
من بين المقاطع التي وزدت فيها:
” دَعْ
عنْكَ
حديثًا
في القبرِ
واسطعْ
كالنّجمِ
على الدّهرِ
واجعلْ فكرَكَ
نَـهرًا
يَـجرِي
من عَيْنِ الفكرِ
على الفكرِ
فالنّارُ رماد
إنْ سَكَنتْ
وَلَـهيبٌ
بالـهِمّةِ يسْرِي “
“…العمرُ
مليءٌ بالنّعْمَى
فازْرَعْهُ رِضًا
بِـهَدْيِ الصّبرِ
يا صبْرًا
توقِدُ إيـمَانًا
وَتُثَبِّتُ قلبًا
في العسرِ
أَمطِرْ
فيوضَ غيومِكَ فينَا
زَهِّرْ
أَنْفُسَنا بالخير.”.
ملاحظات عامّة
نريد في هذا العنصر تسجيل بعض الملاحظات العامّة التي برزت في ديوان ” ما تقّى من صحف الوجد ” مجملة مختصرة من دون تعليقات كبيرة؛ لمزيد الكشف عن شعريّة قصائد الدّيوان:
أوّلا: أثر القرآن في أشعار الدّيوان
سجّلت أثر القرآن في بعض قصائد الدّيوان على مستوى الكلمات والتّراكيب والمعاني والموسيقى وبعض الاقتياسات العفويّة التّلقائيّة العامّة.
(أ) في القصيدة المعنونة بـــ ” محبّة ” نلمس آثار القرآن الكريم في طواياها ونسيجها، من خلال بعض الكلمات والمعاني والفواصل والصّيغ التي تحطّ بنا في سورتي :” الكهف ” و” الجنّ ” بخاصّة. فمن الكلمات التي استعملها الشّاعر ونسج بها قصيدته: (رشدا، رصدا، ملتحدا، وردا..) كما نجد فيها حضورًا لصيغ: فَعَلاَ، ومُنفعلاَ، وُمفتعَلا) التي وردت كثيرًا في السّورتين المذكورتين. مثل: (الأبدا، لهفا، رشدا، وردَا، رصدَا، مُعتمدا، ملتحدا، مجتهدا، محتشدا، معتقدا، مندفقا، منجردا، منفردا، المنتهى.) فالفاصلة المتردّدة في سورتي الكهف والجنّ تنتهي بحرف الدّال، والرّوي في القصيدة هو حرف الدّال. زيادة على الإيقاع الذي أحدثه تكرار الصّيغ، مع ورود كلمات قرآنيّة في القصيدة من خارج السّورتين كسدرتهم والمنتهى..كلّ ذلك يبعث على القول: إنّ الشّاعر وقع تحت تأثير الذّكر الحكيم باستلهامه له في صياغة تراكيب قصيدته..
من هذه الآيات الـمستلهمة في قصيدة سعيد الصّقلاوي ما يأتي: )…ربّنا آتِنَا منْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ( (الكهف/ 10) و)…وَلَنْ تَـجِدَ مِنْ دُونِهِ مُـلْتَحَدًا( (الكهف/27). و)…فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَـجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَإِنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُريدَ بِـمَنْ في الأَرْضِ أمْ اَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا( (الجنّ/ 9، 10) و) قُلْ إنّي لَنْ يُـجيرنِي منَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دونِهِ مُلْتَحَدًا( (الجنّ/22) و)إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (الجنّ/27)
من الأسطر التي تبرز فيها هذه الألفاظ القرآنيّة في قصيدة الصّقلاوي:
” وأنتَ تَفهَمُ
أنّ الكونَ حُجّتُهُ
وأنتَ تعرف
من آياته الأبدَا
المؤمنون به حقًّا
ومُعتقدَا
كم قلّدتهم
يداهُ الخيرَ منفرِدَا
وساورتَـهم
من الرّحمن رحمتُه
وأيّدتـْهُم
بعزم الله مُعتمَدَا
فلا الوساوِسُ
تأوي عندَ سِدرتِهِمْ
ولا الشّياطينُ
تَغزو أفقهم رصَدَا
فالنّفسُ مزرعةٌ
بالحقِّ وارِفَةٌ
تضيئُها الرّوحُ إيـمانَا
وَمُلتَـحَدَا ” (47)
إنّ مضمون القصيدة الذي ينضح بالرّوح الإيمانيّة والطّابع الإسلامي، الذي يشير إلى محبّة الله التي ينتج عنها كلّ خير، في الدّنيا والأخرى.. يبرّر اختيارَ الشّاعر ألفاظًا قرآنيّة، ونقلَ بعضها مع سياقها الذي وردت فيه في المصدر .. هذا أحد مظاهر ملاءمة الشّاعر بين الشّعر وما يقتبسه من القرآن.
(ب)في الأسطر الآتية نلمح روح الآيات الكريمة: ) فَأَلْهَمَهَا فُجورهَا وتقواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكّاها وَقَدْ خابَ منْ دَسّاهَا( الشّمس/ 8 – 10)
” تَأْمنُ النّفسُ بتقواها
وتزكو
بالحياءْ ” (48)
(ج)
” من منبع النّور قدْ
قد عَبُّوا وما فُتِنُوا
إلاَّ بِحبّ الذي
في حبِّه لَبثُوا
والإيمانُ طَهّرهُمْ
مستمسكينَ
فلا زيغٌ ولا رَفَثُ
ما هدّهمْ شَظَفُ
أو هزّهم ترفُ
وما استكانوا
ولا في عهدهم نكثُوا ” (49)
في الأسطر كلمات يمكن – جدًّا – أنّ الشّاعر وهو يختارها كان تحت تأثير الألفاظ القرآنيّة، مثل: (فُتنُوا، رفث، لبثوا، نكثوا، استكانوا، حبّ الذي، مستمسكين…) من هذه الآيات المستلهمة قول الله U: )الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فيهِنَّ الحجَّ فلا رفثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ…( (البقرة/197). بقيّة الكلمات لا يغيب عن دارس القرآن مكانها في المصحف..
من الآيات المستلهمة قول الله U: )وَإِنْ نكثُوا أيمانَهُمْ منْ بعْدِ عهدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فقاتِلُوا أئِمَّةِ الكُفْرِ إنَّهُمْ لاَ أَيْمانَ لهُمْ لَعلّهُمْ ينتهُونَ ألاَ تُقاتِلُونَ قومًا نَكثُوا أيْمانهُمْ وهمُّوا بإخراجِ الرّسولِ … ((التّوبة/11، 12) حتّى ولو كان المعنى في الآيتين يختلف عن المعنى الوارد في أسطر قصيدة الصّقلاوي.. فالآيتان تنعيان فعلا شنيعًا والصّقلاوي يثني على فعل محمود.. إلاّ أنّ دلالة الكلمات في الآيتين لم تغب عن ذهن الشّاعر وعن شعوره وهو يكتب، حسب تقديري..فالشّاعر قام بعملية تحوير لمضمون الآيتين، لكنّه بقي مشدودًا إلى كلماتها.
(د)
” صباحَ الأمْنِ
من خَوْفٍ
ومن جُوعٍ
يُبَسْتِنُ بالرّضَا نَفْسًا
وبالدّعةِ” (50)
ألا تحطّ بنا هذه الأسطر في سورة قريش؟ في قوله تعالى: )الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍٍ وَآمَنَهُمْ من خوفٍ ( (الآية: 4)
(هـ)” وعرفنا
كيف أنّ الحياة
محض فتون” (51)
قال تعالى: (اعْلَمُوا أنَمَا الحياةُ الدُّنْيَا لعبٌ ولَـهْوٌ وَزينَةٌ وتَفاخُرٌ بينَكُمْ وتَكاثُرٌ في الأَموالِ والأوْلادِ…وما الحياةُ الدّنْيَا إلاَّ متاعُ الغُرُورِ( (الحديد/ 20). كلّ ما ذكره اللّه Uعن حقيقة الحياة من أوصاف,, هو فتنة.
(و)
1 ـــــ ” وكان بودّكم دومًا حفيًّا
وكنتَ لودّه أهْلاً وخلاّ ” (52)
2 ــــ ” ولكنّي
على حبّي
أسيرٌ للكرامات
تُرقِّيني إلى الأسمى
حفيًّا بالبشارات” (53)
قال تعالى: (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتغفِرُ لكً ربِّيَ إِنَّهُ كانَ بِي حفيًّا ( (مريم/ 47).
(ز)” فلا الوساوسُ
تأوي عند سدرتهم
ولا الشّياطينُ تغزُو أُفْقَهُمْ رَصَدَا ” (54)
قال تعالى: (عِنْدَ سِدْرَة الـمُنتَهَى عِنْدَهَا جَنّةُ الـمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشَى ( (النّجم/14 – 16).
(ح)” جحْفلُ الشَّرِّ توالَى
في صباحٍ ومَسَاءْ
أينما ولّيتَ وجهًا
ستراهُ
كربلاءْ ” (55)
استلهم الشّاعر ما جاء في القرآن، واستعان به لتصوير حال الفساد المستشري في الأرض، أي استوحى الصّياغة من دون أن يتقيّد بالمعنى الذي ورد في الآية الكريمة: )…وحيثُ ما كُنْتُمْ فَولُّوا وُجُوهًكُمْ شَطْرَهُ… ( (البقرة/ 150).
(ط)وردت كلمة ” سلام ” في قصائد الشّاعر بكثرة، وبوتيرة تحطّ بنا في روح القرآن ونسيجه…ونحسّ في هذا الاسترفاد والاستعمال ارتباطها أو استلهامها من القرآن الكريم.(56) هذه نماذج من هذا الاستيحاء:
(1) ” سلامٌ بلادِي
هَوَى الطَّيِّبين
هُدَى الصَّالحين
بهاءُ الفِطَنْ ” (57)
(2) ” سلام على أفق الرّحب
يسبَحُ فيهِ الـحمامْ ” (58)
(3) ” سلام على الأيّام
إذ أنتِ زهوه
ودُمتِ على الأَيَّامِ
مُخضَرَّةً حُبًّا ” (59)
(4)” أَيُّها الرّاحلُ في سلامٍ
قلبُكَ الـجِنانُ في سلامِ ” (60)
ألا تذكّرنا هذه الأسطر، أو تنزل بنا في آيات عديدة من القرآن الحكيم.. فقد وردت فيه بالدّعاء والخير وارتبطت بالجنّة …كقوله تعالى: )سلامٌ عَليْكُم بما صبرتُمْ فنعمَ عقبَى الدّار ( (الرّعد/22). وقوله: )الذّينَ تَتَوفَّاهُم الملائِكةُ طَيِّبينَ يقولُونَ سلامٌ عليْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (النّحل/ 32). ومثل ما ورد في آيات من سورتي مريم والصّافّات. كقوله تعالى: ) وسلامٌ عليه يومَ وُلِدَ ويومَ يَموتُ ويومَ يُبْعَثُ حيًّا ( (مريم/ 15) ) سلام على إبراهيم ((الصّفّات/ 109)، )سلَامٌ عَلى موسَى وَهَارون ( (الصّافات/ 114)، ، )سلامٌ قولاً نْ رَبٍّ رحيمٍ ( (يس/ 58)
(ي)” وأخي
قلبًا وروحًا
في هناءٍ أو عناءْ
لكَ دينٌ
لِيَ دينٌ
كلّنا حرٌّ بشاءْ” (61)
رغم بساطة استلهام القرآن في هذه التّركيبة، فإنّه يحطّ بنا في سورة الكافرون. ما يثبت استحواذ القرآن على اهتمام الشّاعر وشدّة تأثّره به.. فهو يحضر بشكل متواصل وقويّ في أثناء كتابته الشّعريّة.
ثانيا: ماذا يعني غلبة الجمل الفعليّة على الجمل الاسميّة، وغلبة الفعل المضارع على الفعلين الماضي والأمر فيها؟؟ ماذا يعني كثرة استعمال اسم الفاعل (فاعل وما يشبهه أو يماثله)؟ ماذا يعني بداية بعض القصائد بصيغة الغائب وعلى وزن اسم الفاعل؟ النّموذج عن الفعل المضارع في قصيدة ” طواف “(62). قال الشّاعر:
” أسافِرُ
حامِلاً زَمَنِي
فَيَحْمِلُنِي
إِلَى زمنِ
أَطُوفُ بِهِ
علَى مُدُنٍ
وَيَأْخُذُنِي
إِلَى مُدنِ
أضَاءَتْ
مَنْ جَنَى مُزْنِي
تُبَسْتنُ
في مباهِجِها
أزاهيرٌ
منَ الشّجَنِ
أُلَـمْلِـمُها
تُبَعْثِرُنِي
وَأَشْطُبُها
وتَكْتُبُنِي “.
هل لهذا الاستعمال أو الأسلوب تفسير موضوعي أو فنّي؟ ما علاقته بالجانب الوجداني الشّعوري؟ هل جاء عفو الخاطر وبتلقائيّة؟ كيف أثّر إيجاباً أو سلبًا على العمليّة الشّعريّة؟؟ مهما تكن الإجابة فهذه الصّياغة تبرز مظهرًا من مظاهر الكتابة الشّعريّة عند سعيد الصّقلاوي، وهي في الوقت نفسه تكشف عن التّنوّع فيها؟ تقويم ذلك من شأن المتلقّي المتخصّص..
ثالثًا: لم ينفصل الشّاعر سعيد الصّقلاوي عن الشّعر القديم ولم يتخلّ بشكل حاد ٍّعنه في بناء القصيدة وفي العمليّة الشّعريّة، رغم أنّه ساير تطوّرات الكتابة في عصره، واستجاب لوتيرة التّجديد فيها.. هل ينطبق عليه الحكم الذي أصدره عبد القادر القُطّ عن الشّعر العربي المعاصر: ” ويلاحظ الدّارس في هذا المجال أنّ الشّعر العربي – مهما يوغل في التّجديد – يظلّ مرتبطًا على نحو ما ببعض المظاهر الفنّيّة في تراث الشّعر العربي القديم. ومع أنّ الشّعر الوجداني في هذه المرحلة قد تحقّق له وضع عصريّ متميّز، فإنّ كثيرًا من سمات الشّعر القديم ظلّت تبدو فيه عند هذا الشّاعر أو ذاك، وفي قصيدة أو أخرى، بصورة ملموسة أو خفيّة في أحيان أخرى…” (63)
هذه بعض الملاحظات عن قصائد ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد”، أردفنا بها ما قدّمنا من تحليلات لبعض النّماذج عن الكتابة الشّعريّة في الدّيوان، وسرد بعض الخصائص التي ميّزتها.. عسى بذلك نكون قد وفّينا بوعدنا في المقدّمة: تسليط كشّاف التّأمّل في هذه الأشعار، من دون أن ندّعي الإحاطة بكلّ ما حفل به الدّيوان، فضلا عن تناوله بعمق بالعرض المستفيض والتّحليل المعمّق والنّقد المركّز..
الخاتمة
هده بعض النّتائج التي توصّلت إليها الدّراسة:
(1)توفّرت قصائد الدّيوان على كلّ العناصر التي يتكوّن منها بناء القصيدة أو العمليّة الشّعريّة، من مضمون ولغة وتصوير وموسيقى.. وصياغة تميّزت بخصائص لها علاقة بذاتيّة الشّاعر..
(2)جاءت لغة الدّيوان – في معظمها – وَفق ما تطلبه البلاغة، وهو مراعاة مقتضى الحال، ليفقه المتلقّي المعنى المنشود، ثمّ يعيه ويتجاوب معه.. هذا مظهر من مظاهر القوّة في الدّيوان، ومعلم من معالم الشّعريّة فيه..
(3)غلب الحسّ الوجداني على قصائد الدّيوان، إذ سلك الشّاعر في معظمها مسلك الوجدانيّين في العمليّة الشّعرية أو البناء الشّعري، من ذلك توظيف الطّبيعة في الكتابة، وطبعها بالذّاتيّة، أي إضفاء الصّبغة الذّاتيّة عليها، لتحمل الطّابعَ الشّخصي الأفكارُ التي تنتج عن عرضه وتحليله والرّسائل التي أطلقها أو أرسلها..
(4) تنوّع نظم الشّاعر ونفنّن في بناء القصيدة: لغة وصورة ورمزًا وموسيقى وأسلوبًا وصياغة..
(5) يمكن تصنيف صور أشعار الدّيوان في زمرة التّصوير اللّفظي، وهي التي تعتمد على اللّفظة في البناء.
(6)أغلب قصائد الدّيوان نظمت على نهج شعر التّفعيلة، غير أنّ الشّاعر كان مشدودًا إلى بحور الشّعر العربي المعروفة، بدليل أنّ المتلقّي يمكن له أن يكتب أو يحوّل كثيرًا من أسطر القصائد والمقطوعات إلى أشطر لأبيات، فيحصل على بحر أو مجزوء بحر، كما أنّ القافية لم تغب عن أغلب ما نظم الشّاعر ..
(7)اجتهد الشّاعر في إيجاد الوَحدة المعنويّة والشّعوريّة والنّفسيّة في قصائده؛ رغم وجود مجموعة من الأفكار والموضوعات في بعض القصائد.. إلاّ أنّ السّمة الغالبة فيها هي أنّ كلّ قصيدة كانت تنفرد بموضوع محدّد، وقد تتوارد على الشّاعر فيها أفكارٌ ومعانٍ عديدة مختلفة..إلاّ أنّها تخدم الموضوع الرّئيس في القصيدة..
(8) برز في بعض القصائد الحوار بشكل جيّد، وبعض ما كتب الشّاعر حمل طابع القصّ والحكاية..
(9)عرض الشّاعر بعض مشاعره وأفكاره عن طريق أسئلة، على طريقة الشّعراء الوجدانيّين.
(10)توفّر شعره على خصائص الشّعر الوجداني، ما يبين عن سيره أو تدرّجه في مسار الشّعراء الوجدانيّين..
(11) جمع في بعض قصائده بين الفنّ والفكر أو الأدب والفكر.. فكان يظهر مفكّرًا يقدّم أفكارًا ونظرات في الحياة، مع تسجيل مشاعر وعواطف وشجون، تنقل ما بقي من الوجد في جنانه..
(12)اشتمل الدّيوان على جوانب عديدة من الحياة العمانيّة، الاجتماعيّة – بخاصّة – منها الحياة الأسريّة.. قدّمها الشّاعر في لوحات فنيّة ولمحات فكريّة ونفحات عاطفيّة.. بما تقبله الكتابة الشّعريّة والبناء الفنّي.
(13) معظم قصائد الدّيوان قصيرة، وبعض قطعه مكوّنة من بيتين فقط.. هل البوح بالوجد يقتضي هذا؟ هل الميل إلى الإيجاز وعدم الإثقال على المتلقّي بكثرة القول هو السّبب؟ هل رَأَى الشّاعر أنّ أسلوب البطاقات والبرقيّات والتّرميز والتّلميح .. كلّ ذلك أصبح هو المفضّل في الزّمن السّريع في إحداثياته وأحداثه، وفي تعامله مع سيرورة الحياة الجديدة..إذ أنّ هذا يتطلّب الاختصار في الخطاب؟؟
(14) يكثر الشّاعر الابتداء في الكتابة بصفةٍ، على شكل اسم فاعل، من دون ذكر صاحب الفعل.. في هذا نَفَسٌ وجداني، وفيه لفت للنّظر وجذب للنّفس …
(15) زخر الدّيوان بالإيقاع في كثير من أشعاره، على طريقة الشّعراء المحدثين أو الشّعر الحديث أو الشّعراء الوجدانييّن.. ربّما يفسّر هذا تنويعَ الشّاعر في نسق كتابته الشّعريّة من حيث الوزن وجمعه بين أنماط الشّعر العمودي وشعر التّفعيلة، وتصرّفه أحيانا في التّفعيلات المعروفة في النّظام الخليلي؛ زيادة ونقصانا وغير ذلك من أنواع التّصرّف فيها..
(16) تميّزت أشعار الصّقلاوي في الدّيوان بالرّوح لإسلاميّة في كلّ ما عالج من مسائل وعرض من قضايا وما قدّم من انطباعات.
(17) ما يلفت النّظر بشكل كبير هو معجمه الشّعري.. لذا فهو في حاجة إلى دراسة وتحليل وتقويم.
(18) في النّهاية نقول: الكتابة الشّعرية الوجدانية في ديوان ما تبقّى من صحف الوجد، في حاجة إلى تقويم..
…………
المراجع والمصادر والهوامش:
(1)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 87 – 90.
(2)المصدر السّابق، ص: 87، 88.
(3) المصدر السّابق، ص: 145، 146.
(4)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 155 – 160.
(5) هل استعمال الصّقلاوي يرجع بنا إلى أصل بحر الوافر قبل التّعديل؟ يقول الشّيخ نور الدّين السّالمي عن بحر الوافر: ” …وقد علمت أنّها مركّبة من (مفاعلتن) ستّ مرّا، فيكون ذلك القدر وزن الوافر. لكن لا يستعمل تام الحروف، بل يجب في تامّه القطف في العروض والضّرب، وهو حذف السّبب الخفيف مع إسكان ما قبله، فيصير (مفاعلتن ) في العروض، والضّرب (مفاعلْ) بسكون اللّام، فينقل إلى (فعولن)، وإنّما التزم فيه ذلك لأنّه شعر كثرت حركاته فاستثقلت، فحذف من آخر عروضه وآخر ضربه تسهيلا وتخفيفًا. نور الدّين السّالمي العماني، المنهل الصّافي على فاتح العروض والقوافي، وزارة التّراث القومي والثّقافة، سلطنة عمان، 1402هـ/ 1982م، ص: 98.
(6)ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 165،.
(7) المصدر السّابق، ص: 147، 148.
(8) المصدر السّابق، ص: 125.
(9)ينظر علاقة هذه القصيدة بالتي قبلها ” عشق “، من حيث الصّياغة والأسلوب. ينظر ص: 121 – 123. تردّدت في القصيدتين كلمات تنتهي بالهمزة بعد ألف ممدودة.. وكلمة: الحقيقة، وكلمات على صيغة ” أفعل ” (اللّام مقصورة) الأنقى، الأتقى، الأسنى.. العشق، صيغة (الفاعلون) وغيرها، هل لترتيب القصيدتين متجاورتين في الدّيوان صلة بموضوعيهما؟ هل للعاشقين في قصيدة ” عشق ” والعارفين في قصيدة ” العارفون ” ترابط في المضمون للدّلالة على الصّفاء والطّهر والنّقاء والارتقاء في الخلال والقيم.؟
(10) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 175 – 178.
(11) المصدر السّابق، ص: 127، 128.
(12) المصدر السّابق، ص: 167 – 169. قال الصّقلاوي” النّيروز في عمان ميقات زماني مناخي، وهو أيضًا فنّ شعبي يمارس وله تقاليده ومراسمه.
(13)المصدر السّابق، ص: 163، 164.
(14)في الكلمة خطآ نحوي، المفروض أن تكتب (اشدُ) من دون واو، فهي فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة.
(15) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 131 – 139.
(16) على بحر الكامل أيضًا نظم الشّاعر قصيدته: ” مآلات “، ينظر الدّيوان، ص: 91 – 93.
(17)هذه الزّيادة تسمّى علّة. وهنا تدعى ترفيلا. وتكون في مجزوء الكامل.. وإن كان الصّقلاوي تصرّف – أيضًا – في توزيع التّفعيلات في الشّطرين.. إذا كتبنا الأسطر على نمط الشّطرين.. لمزيد التّعرّف على علل الزّيادة في بحر الكامل ينظر المنهل الصّافي على فاتح العروض والقوافي، ص: 50، 51.
(18)هذا الوزن أحد مظاهر مجزوء الكامل الذي يكون على الشّكل الآتي: متفاعلن متفاعلن فَعِلُنْ متفاعلن متفاعلن فَعْلُنْ أي العروض (مُتَفَا) تتحوّل فَعِلُنْ) والضّرب (فاعِي) تتحوّل ( فَعْلُنْ) ينظر المرحع السّابق، ص: 104.
(19) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 153، 154.
(20) المصدر السّابق، ص: 141 – 143.
(21) المصدر السّابق، ص: 31 – 33.
(22)المصدر السّابق، ص:129،
(23) ليستقيم وزن البيت يجب يكتب هكذا: ” سلامٌ علَى أُفْقِكِ الرّحْـ ـبِ يسبحُ فيه الـحَمامْ “.
(24) ينظر الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 388.
(25)المرجع السّابق، ص: 371.
(26) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 91 – 93.
(27) المصدر السّابق، ص: 167 – 169.
(28)التّفسير النّفسي للأدب، ص: 65.
(29) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 32.
(30)المصدر السّابق، ص: 118 – 120.
(40)المصدر السّابق، ص: 129، 130.
(41)المصدر السّابق، ص: 143.
(42) المصدر السّابق، ص: 150.
(43) الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 396.
(44)الصّورة الشّعريّة في النّقد العربي الحديث، ص: 45
(45) ديوان ما تبقّى من صحف الوجد، يثير كثيرًا من القضايا ويزخر بعناصر عديدة تستوقف الدّارس والنّاقد ليعالجها ويتناولها بالبحث والدّراسة.. فلا يمكن عرضها كلّها، فضلا عن تحليلها ونقدها في هذه الدّراسة المقتضبة. لذا اخترنا منها بعضًا للتّأمّل فيها. وآثرنا في هذا العنصر التّعليق على بعض القصائد؛ تنويعًا فيها ومحاولة لتناول العمل الشّعري في أكثر من عنصر، بعد التّخصيص الذي كان في المباحث السّابقة.
(46) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 25 – 30 ظاهرة عرض الأسئلة النّابعة من فورة المشاعر منتشرة في كثير من قصائد الدّيوان.
(47) ينظر المصدر السّابق، ص: 11 – 23.
(48)المصدر السّابق، ص: 77 – 79.
(49)المصدر السّابق، ص: 127 ، 128.
(50) المصدر السّابق، ص: 175 – 178.
(51)الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 440، 441. ينظر ما بعد هاتين الصّفحتين ففيها فصّل عبد القادر القُطّ في الموضوع، وأتى بنماذج من أشعار هؤلاء الشّعراء وعلّق عليها..
(52) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 131 – 139.
(53) ينظر الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 455.
(54) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 117 – 120.
(55) المصدر السّابق، ص: 109 – 113
(56)المصدر السّابق، ص: 61، 62.
(57) المصدر السّابق، ص: 45.
(58)المصدر السّابق، ص: 121، 122.
(59) المصدر السّابق، ص: 157، 158.
(60)المصدر السّابق، ص: 53، 54.
(61)المصدر السّابق، ص: 87.
(62)المصدر السّابق، ص” 148.
(63) المصدر السّابق، ص: 62.
(64)المصدر السّابق، ص: 45، 46.
(65) حتّى القرآن الكريم استعمل لفظة ” سلام ” بكثرة في كثير من سوره..
(66) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 33.
(67) المصدر السّابق، ص: 130.
(68)المصدر السّابق، ص: 143.
(69) المصدر السّابق، ص: 97.
(70)المصدر السّابق، ص: 41، 42.
(71) الصدر السّابق، ص: 171 – 173.
(72) الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، دا، ص، 435.