العائدون إلى ذواتهم من المنافي الزمنية

د.  عماد خالد رحمة |  ألمانيا

بعيداً عن لعبة استخدام الضمائر في لغتنا العربية مثل الضمائرالمتصلة، والضمائر المنفصلة، هناك ضمائر تحدَّث عنها بإسهاب الأديب والشاعر الفرنسي، ميشيل بوتور في تأملاته الروائية وتصوراته عن المكان الذي يعتبر من أهم ركائز الرواية، فإن ما نقصده في مدلول العائدين إليهم أو العائدين إلى أنفسهم هو التناغم والتصالح مع الذات بعد اغتراب وافتراق عنها، وتلك بالطبع أطروحة وجودية غالباً ما أساء البعض فهمها أو معرفة كنهها، وأدانوها أخلاقياً، لأنها بمثابة التراجع والتراخي والانسحاب من الواقع، فالعودة إلى الذات ليست انكفاء داخل قوقعتها وانقطاعاً عن السياق الإنساني والاجتماعي، ولعلّ هذا ما أراد الشاعر الفلسطيني محمود درويش قوله على نحوٍ مباشر، في قصيدة مديح الظل العالي حين قال: (عُد اليك فأنت أوسع من بلاد الناس).
وقد تصور عديد من الشعراء العرب لا بأس بهم ممن اجتذبهم الهاجس الصوفي أن التلاعب بالضمائر وحالاتها ومجازاتها هو الطريق الأسرع لتحقيق الحلول والوصال مع المطلق، ومنهم من أعاد إنتاج مقولة محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري: (عندما تتسع الرؤيا تضيق العبارة)، بحيث يصبح السكوت والصمت نهاية محتمة عندما تصل الرؤيا ذروة اتساعها إلى أقصى مدى، والمسألة في هذا المقام أبعد من مجرد التقشف في الأسلوب والمنهج والطريقة، فالوثني لا يصبح صوفياً لمجرد أن يتلاعب بالضمائر على اختلاف جذورها ومجازاتها، أو ينشئ عبارات هي أقرب إلى الإيهام من الغموض، حسب تعبير الناقد والشاعر والأديب الإنجليزي، وليام أمبسون. وإذا كانت العودة هنا تقتضي بالضرورة وجود مكان ما ،أو مغترب ما ،أو منفى يعاد منه، فإن منفى العائدين إليهم أو العائدين إلى أنفسهم ليس مكانياً على الإطلاق، بل هو منفى زماني بامتياز، وقد يكون أيضاً أبعد من ذلك فيصبح منفاً ميتافيزيقياً، وهذا المعنى القوي الغريب للمنفى الميتافيزيقي كالذي عبّر عنه الشاعر والناقد الفرنسي ستيفان مالارميه الذي ينتمي إلى تيار الرمزية ،حين يصور الإنسان المصاب بنوبة حنين إلى الذات بعد اغتراب عميق،وحالة نوستالوجيا عميقة وكثيفة، كما لو أنه يغفو في منتجع نائي في أعالي الهضاب، تماماً كما قال الفيلسوف اليوناني أفلاطون عن الأشباح التي تتمظهر خيالاتها لمن يراقبها من ثقوب الكهف المظلم، وهناك في قمة الجبل الذي حلم فيه الغريب بالعودة إلى الذات العودة إلى (الأنا)، أصغى الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه إلى صوت العربة التي تجرها خيول الزمن المتجهة نحو الأبدية المطلقة.
لم يكن سهلاً أن يكون الفرد ذاته ويتحرّر من حالات التماهي والذوبان حد التقمص التي طالما دفعته الضرورة إلى التأقلم القسري معها ،فأن يكون الفرد نفسه ولا شيئ آخر، فإنَّ ذلك يدل على التحرّر من أي ارتهان وهو تحرّرٌ باسل غير هيّاب. ويمكننا هنا أن نجد العديد من النصوص الإبداعية في مجال الأدب بمختلف لغات العالم، قدمت نماذج عديدة لمن دفعوا ثمن التماهي والذوبان والتقمص والاغتراب عن الذات، وانتهوا إما إلى الجنون، أو إلى الانتحار في محاولة للتخلص من معاناة الصراعات النفسية. وهي دون الوعي بحقيقة الذات وحدودها وحياتها العقلية الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى