صديقتي ذات الوجه البشوش
بقلم/ د. فاطمة الزهراء جمال الدين
حل الصباح وما زالت نغمات معزوفة ضوء القمر تتناثر في أرجاء الحجرة؛ حيثُ قضيتُ ليلتي الماضية جالسة على المقعد المجاور لفراش أمي. لقد كانت ليلة طويلة وثقيلة كرداء الليل القاتم، لم يُخففَّ وطأتها سوى أنغام تلك المعزوفة الموسيقية الحالمة. تسلل النوم ببطء إلى أجفان مريضتي الغالية فرفعتْ راية الاستسلام والخنوع، واستسلمت لسلطان الأدوية والمسكنات الذي تُوج في غفلة من الزمن على غابة من الألم.
أمسكتُ بدفتر ذي غلاف وردي تعلوه بعض الخربشات والرسوم العشوائية التي لم تمحُ بهاءه، بل وسمته بسمتٍ خاص. عثرتُ عليه بين طيَّات ملابس والدتي، رحتُ أقلِّب صفحاته، وفجأة هاجمتها إحدي نوبات الألم؛ فانهمكت في مدواتها والتخفيف عنها حتى غفتْ في هدوء بينما أراقب اختلاجات وجهها أثناء النوم، ما أقسى المرض عندما يصيب عزيزًا لدينا.
عدتُ إلى واقع اللحظة بعد شرودي وفتحتُ غلاف الدفتر، فإذا بي أجد كلمة “مذاكرات” تتوسط الغلاف الداخلي، أدركتُ على الفور من الخط أنها مذكرات والدتي، لكن لفت انتباهي أن هناك عبارات أخرى تحتها ” مذكرات وفقًا لتعليمات الطبيب”؛ فتذكرتُ ما أخبرني به والدي؛ أن أمي تكتب مذكراتها وتُدوِّن كل شاردة وواردة تنفيذًا لتعليمات الطبيب في محاولة منه لتذكريها بما يدور حولها وما تفعله، ليس ذلك فحسب؛ وإنما يزخر هاتفها المحمول بكثير من الفيديوهات لنشاطها اليومي، إلى جانب العديد من الصور.
شعرتُ بالغباء؛ فما أشد نسياني أنا أيضًا، وهنا غمغمتُ مخاطبة نفسي :
ــ ما أشد نسياني أنا أيضًا!
تسمرتُ فَزعة؛ إذ خطر ببالي خاطر صدمني حول إمكانية إصابتي بداء النسيان في يوم من الأيام مثل أمي، فأنسى كل شيء. حاولت طرد هذا الهاجس المُخيف الذي يلعب برأسي كما تلعب الرياح بأوراق الشجر، ثم جلستُ بعد وقوفي بسبب هول الفكرة. فتحتُ المذكرات ووجدت أن أمي كتبت:” أصبحتُ كثيرة النسيان؛ أنسى الوجوه والطرقات، ربما أحيانًا أنسى هويتي، لذا قررتُ بمساعدة طبيبي ابتكار طرق لتذكيري مَنْ أنا، كرسائل صوتية على الهاتف تذكر بعض التفاصيل والمواقف، إشعارات تأتيني من زوجي وبعض الأصدقاء على الهاتف كل بضع ساعات، وتحسبًا لنسيان الهاتف نفسه هناك مُفكرة موجودة معي دائمًا، وسوار معدني كل حلقة من حلقاته بها كلمة أو إشارة إلى شيء يخصني.
في اليوم الذي أحضر فيه زوجي هذا السوار المصنوع خصيصًا لي، شعرتُ بخيبة أمل شديدة، هل بلغ الأمر إلى هذا الحد؛ قيد معدني يذكرني بهويتي، حاولتُ أن أبتسم فَرحًا بهديته، لكنها كان ابتسامة عرجاء، رغم ثقل السوار في يدي إلا أني أسلَّمتُ أمري إلى الله فهذا قدري.
اليوم سأذهب لرؤية صديقتي البشوشة، أنسى اسمها دائمًا لكن لا أنسى وجهها أستطيع تمييزه في أي مكان وأداوم على رسمه لا أعرف لماذا؟ ولكنه دائمًا يؤنسني، لا أعرف الطريق ولكن يصطحبني زوجي لرؤيتها كل يوم، اليوم انشغل زوجي ببعض المهام العاجلة، فوجدت نفسي أستعد للخروج، خرجت واستوقفت تاكسي، فسألني:
ــ إلى أين؟
ــ إلى صديقتي ذات الوجه البشوش.
نظر إليَّ متعجبًا، وقال:
ــ يا فتاح يا عليم، يا رازق يا كريم، يا أمي إلى أين؟
فأدركتُ أنه لا يعرفها، ولا يعرف الطريق إليها فقررتُ مغادرة التاكسي، وقفتُ أمام العمارة حائرة إلى أين أذهب ؟! أين صديقتي؟! وإذا بالهاتف يرن؛ فقد اكتشف زوجي عدم وجودي في المنزل، فأخبرتُه أنني أمام العمارة، وأنني ركبتُ تاكسي لم يعرف عنوان صديقتي ذات الوجه البشوش فغادرته، جاء زوجي مسرعًا بعد دقائق، وما إن رآني لمحت في عينيه نظرة عتاب غاضبة، سرعان ما تحولت في لحظة إلى حب وشفقة عندما أخبرته أنني أريد الذهاب إلى صديقتي ذات الوجه البشوش، فأخذ الهاتف، وأجرى اتصالًا هاتفيًا:
ــ يا ابنتي والدتك تريد زيارتك في العمل ككل يوم.
ذهبتُ لزيارة صديقتي ذات الوجه البشوش، نعم إنها ابنتي “سوسن”، أنسى أحيانًا إنها ابنتي، ولكن ما أتذكره هو وجهها البشوش الذي أشعر بأنه يحمل كل فرح الدنيا عند رؤيتي.
” صفحة من مذكرات مريضة بالنسيان لعلها تذكرني عندما أنسي كل الماضي والحاضر.”
قرأت الابنة هذه الصفحات من مذكرات والدتها والدموع تنهمر على خديَّها، نهضت في صمت وخرجت من حجرة مريضتها الغالية ببطء وأغلقت الباب في هدوء، توجهت إلى والدها، وسألته:
ــ بابا كيف كتبت ماما هذه التفاصيل الدقيقة في المذكرات رغم نسيانها ؟! فأجاب الأب:
ــ أخبرني الطبيب بأنها كانت تنتابها أوقات يكون عقلها في أفضل حالاته وتتذكر الأحداث والأشخاص بشكل جيد وخاصة فيما يتعلق بك، كما أنني كنت أخبرها وأذكِّرها بكل التفاصيل والمواقف، فتسارع لتُدوِّن تلك التفاصيل في مفكرتها، حتى لا تنسى ولعلها تذّكرها فيما بعد، ولكن كل هذا كان في بداية مرضها، أمَّا بعد أن تَمكن المرض منها لم تعد حتى تكتب مذكراتها أو تطلع عليها، ولم تعد تذكر أنها مذكراتها أصلًا، كل ما تذكره أنتِ وتسأل عنكِ بلهفة: ” أين صديقتي ذات الوجه البشوش”؟
كفكفت “سوسن” دموعها، وعادت للجلوس جوار فراش والدتها، وأخذتٍ تتصفح دفتر المذكرات وتُقلِّب صفحاته الباقية، كانت هناك أخبار تعرفها، ومواقف أخرى لا تعرف تفاصيلها بدقة، ثم بعد بضع صفحات وجدت بعض الجمل المتناثرة، ثم في النهاية صفحات بيضاء، احتضنتها وجلستْ في صمت تمسك بيد والدتها النائمة في فراشها تنتظر استيقاظها بعد مُضي ليلة قاسية، اختلجت عضلات وجهها وأعينها المغلقة، وارتعشت أناملها، فتحت الأم عيونها ببطء، نظرت حولها، كانت نظراتها خالية من الحياة، تائهة، فارغة، نظرت إلى مَنْ تَشد على راحة يدها، تهلل وجها واستضاء كالقمر بعد محاقه، وكانت أول جملة تخرج مرتعشة من بين شفتيها:
ــ صديقتي ذات الوجه البشوش.