لطيفة الحاج في “نواقيس العزلة” بين فانتازيا الحدث وفانتازيا الثقافة (3 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

أما الاستذكارات التي أضاءت شخصية راشد فهي تعود إلى ما قبل الأيام الثلاثة التي يستغرقها الزمن الفيزيائي للرواية، وقد كانت أطولَها الاستذكارات التي استعادت حكاية تعرّف راشد إلى مريم وخطبتهما وزواجهما، وقد احتلت هذه الحكاية فضاءً طباعياً معتبراً يبدأ من ص115، حيث  انثقب إطار سيارة البرادو التي تقلّها إلى الجامعة، وتوقفت إلى جانبها سيارة هوندا أكورد بيضاء، نزل منها شاب وسيم للمساعدة، هذا الشاب الذي لم تتبادل معه كلمة واحدة هو راشد الذي خطبها بلا يأس، وتزوجها، وصار فيما بعد روائياً بناءً على اقتراحها وتشجيعها:

ـ راشد، بما انك تحب الروايات، وتقرأ روايات كثيرة، ألا تفكر يوماً في كتابة رواية؟

ـ رواية؟”، ص25.

وقد قاد هذا الواقع/ الحاضرُ مريم إلى غيرةٍ شكّلت إيقاعاً ناظماً لحياتها، أو بالأدق لمرحلة لا وعيها، بسبب كثرة المعجبات وتطفّلهنّ ووقاحتهنّ أحياناً، وهذا ما تجسّد خوفاً من الاقتراب نحو الشقة التي تصدر أحياناً رائحة عفونة، أو تستدعي بكاء الساردة على غير انتظار: “أدير المفتاح في قفل الدولاب، تسيل دموعي إلى داخل فمي”، ص38.

وإذا كنّا سنؤجل الحديث عن الغيرة، بوصفها مرتكزاً من مرتكزات لا وعي الشخصية، إلى حين دراسة الإيقاع، فإننا سنشير إلى أنّها أسهمت في خلق قلق المستقبل، ونعني هنا صيغة المستقبل اللغوية التي تجلّت من خلال عدة سياقات، تحمل ـ بلا استثناء تقريباً ـ بذرة الخوف من القادم المجهول، فالاستباق اللغوي يقترن حيناً بالحبوب المهدئة التي تمنح شجاعة مفتقدة، ويقترن حيناً آخر باحتمال الانفتاح على زمنٍ قادمٍ مجهولٍ مع راشد:

  • “سأحكي لكم، وسأخبركم عن كلّ ما واجهته وعشته. تلك الحبوب الصغيرة التي بدأت ابتلعها منحتني الشجاعة”، ص12.
  • “سينتظر بضعة أشهر، وسيتزوج بأخرى، علناً أو سرّاً، وأنا من سيعوّضني؟ سأُترك ولن يرغب فيّ أحد (…) لن أجرؤ على الزواج بآخر، وسأختار البقاء معه، أو الافتراق عنه، وقضاء بقية عمري بلا رجل”، ص106.

حتى إن بعض الاستباقات التي تحمل في بدايتها مؤشراً إيجابياً، ورغبة في التميز، سرعان ما تنقلب إلى ضدّها؛ فالساردة تحلم بمقابلة تجريها قناة فضائية معها ومع زوجها للحديث عن دورها في إبداعه، فتقول: “تخيلت مراراً الأسئلة التي ستوجّه إليّ، وإجاباتي التي سأعطيها بثقة كبيرة، وأنا أنظر إليه بحب وإعجاب”، ص141. غير أنّها سرعان ما تنسحب في نكوص سلبي، متخيلة أن المذيعة قد تتجرأ، وتسأل عن رواية “ذاكرة الرحم”، تلك الرواية التي تحدّث فيها راشد عن الإجهاض: “هل كانت الرواية حقيقية؟ هل حقاً تعرضتما لتجربة الإجهاض؟ هل سننكر؟ ملامحنا ستكشفنا”، ص141.

راشد (الثابت والمتحوّل) في مرآة امرأة منعزلة:

دقّت مريم “نواقيس العزلة” منذ السطر الأول لرواية لطيفة الحاج، وحتى السطر الأخير منها، فعاشت الساردة عزلتها على حدود الخوف من أبيها وأمها، ذلك الخوف الذي يتولد، ليس من الإقدام على الذنب، بل من احتمال ارتكابه، فهي تقول: “نشأت منعزلة ومنطوية وجبانة، خائفة من أن أكسر والدي إن أقدمتُ على عمل مشين.. من أن أحزن أمّي إذا تعرّفت على بنات لا تعرف أهلهنّ”، ص13، وقد عشش الخوف في داخلها، إلى درجة تقرأ فيها الرواية التي اشترتها من بائع الجرائد، تحت اللحاف، ص19، وتحمل عقدة عزلتها، وعقدة خوفها من القراءة إلى بيت زوجها الروائي، فتقرأ وتقرأ، دون أن تمّلّ، وتتوق شوقاً إلى التواصل الذي حرمت منه، فترغب بجميع أشكال الاتصال مع زوجها الذي تحبه: “اشتقت إليه، لم أره منذ أسبوعين، أشعر برعشة تسري في جسدي، رغبة عارمة فيه”، ص17.

ولم يكن رجلاً فظاً، غير أنّ مريم حملت في لا وعيها خوفاً دائماً من مستقبلها معه، على الرغم من أنها ما تزال تذكر فيه ذلك البطل الرومانسي الكلاسيكي الذي قضت معه شهر عسل جميل في جزيرة سيشيل وباريس وغيرهما، وتحوّلت تبعاً لهذا الخوف المرَضي، من امرأة تهتم بجمالها، إلى امرأة لا تكاد تعرف نفسها في المرآة:

“استوقفني منظري المثير للشفقة. شعري الذي لم أسرّحه منذ أيام منكوش من الأمام، وضفيرتي الطويلة منحلة حتى المنتصف.. عيناي حمراوان والسواد يحيط بهما.. بثور ظهرت على أعلى خدّي، وأنفي يلمع بسبب الدهون”، ص10. وما هذا المنظر الذي يشير الشفقة سوى انعكاس لرؤية جديدة تجاه زوج أضاعت فيه زوجتُه بطلَ الروايات الكلاسيكي؛ لأنه “صار بطلاً حزيناً محبطاً وكثير الصمت”، ص103.

لقد تغيّرت صورة راشد حقاً، ونقصد هنا صورته في لا وعي البطلة، ولا يعود سبب تغيره إلى صفة جوهرية فيه، بقدر ما يعود إلى زاوية النظر التي يظهر منها، فبعد حادثة الإجهاض الأول، شبك راشد أصابعه في أصابع مريم، ووضع يده على بطنها، وقال بمودة: “ستحملين ثانية”، ص90. أمّا في الإجهاض الثاني، فقد كان الأمر مختلفاً، وقد لا يعود بالضرورة إلى تغيّر مشاعر راشد تجاهها، بل يمكن أن يكون تغيّرُ تعامله مع الموضوع شكلاً من أشكال حبّها، والرغبة في عدم إيذاء مشاعرها، أو جرحها. تصف مريم ما حدث بعد الإجهاض الثاني قائلة: “بقيت في المستشفى تلك الليلة، لم يشبك أصابعه في أصابعي، ولم يضع يده على بطني، خشي عليّ مني، أو على نفسه، لا أعلم”، ص98، ثم تستطرد في شبه لوم: “خذلتني ردة فعله الباردة نحو إجهاض الجنين”، ص106.

ربّما لم تدرك مريم، في لا وعيها، ما أدركته في وعيها، من توق راشد إلى التغيير، وهو الشاب الذي تشير صوره القديمة إلى حيوته المفرطة ونشاطه، وربما لم تدرك أيضاً إلى أنّ هذا التغيّر في الشكل قد لا يعني تغيّراً في الجوهر، على الرغم من أّنها تعرف أنه يغيّر طباعه مع كل رواية جديدة، فالتغير صفة لازمة له، وهو “يصبح شخصاً آخر مع كل رواية”، ص30، و”يصحو عند السابعة تماماً، يعدّل جلسته، ينتناول نصف قنينة من الماء بقربه، ويفتح الجهاز، ويشرع في الكتابة. أحياناً يكتب بسرعة كمن رأى حلماً وخشي أن ينساه”، ص34؛ فهو لا يشبه المؤلفين الذين عرفوا بطقوس كتابتهم من أمثال ترومان كابوتي(1) “الذي كان يستحيل له أن يبدأ الكتابة قبل أن يستلقي”، ص69. بل كان “يقفز من عمل إلى آخر ومن طقوس إلى أخرى”، ص69، سائلاً عن صفات شخصياته ومستطلعاً ظروف عيشها وبيئتها.

فهو حين كتب رواية “أقل الأشياء” عاش على الضروريات فقط، ونحل وأصبح نباتياً، كما عاش مع شخصية المتسولة، واكتفى في بعض الأحيان بأكل ببيضة مسلوقة، ونام على الأرض، مبتسماً وعاش “بخيالاته مع بطلة الرواية”، ص62، وسأل مريم قبل أن يكتب رواية “ليزر” عن “حجم غرفة الليزر، وشكل الجهاز الذي يستخدمونه”، ص166، وحين كان كتب رواية (بطون جائعة وأيد قصيرة) عن ماكس العامل في مطعم للوجبات السريعة دخل إلى أعماق تجربته، ما جعل مريم ذاتها تندهش من “براعته في مراقبة الناس ونقل سلوكياتهم وأفكارهم”، ص144، فصارت تراقب تصرفاته، لتحدس الشخصية التي سيكتب عنها:

  • “حاولت من نوعية الأكل أن أستشف ملامح الشخصية الرئيسية التي يكتبها، ويعيش معها أو فيها: مأكولات شعبية، بقايا هريس، ثريد، لقيمات، والكثير من قناني الماء الفارغة”، ص63.
  • “قلت في نفسي لعله يكتب عن شخصية صباحية؛ لهذا ينهض باكرا، شخصية تتناول عدة أكواب من القهوة السوداء قبل النوم وفي الصباح الباكر”، ص123.

لم ترد مريم المأزومة، إذاً، أن تفهم تغيّر راشد خارج إطار رواياته، وصارت تتهمه وتلومه بإعراضه عن كوابيسها “إني أرى كوابيسي من جديد وهو غارق في كتابته، غير آبه بي”، ص36، بل إنها صارت تخشى من شخصياته الروائية عليه، وتلمس خوفه منها؛ ففي نقلة فانتازية طريفة تشير الساردة إلى أن راشد، وهو يكتب رواية لص النهار كان “يخشى أن يدخل اللص الذي خلقه في روايته شقتنا، ويسرق شيئاً من أغراضي”، ص69.

هذه الصورة السلبية التي تترسخ في لا وعي مريم، تستدعي إلى ذهنها رواية “المسخ” لكافكا، حيث تتعامل أسرة غريغور سامسا المتحول إلى حشرة بسلبية تامة، إلى جانب رواية “أحدب نوتردام” التي كانت أكثر تأثيراً وحضوراً:

“كان راشد يرفع بصره نحوي، ويهزّ رأسه، ويعود لنقر حاسوبه بسلبية تامة، محاكياً أسرة جريجور المسكين، لم يفعل شيئاً لينهي عذابي وعذاب كوازيمودو الأحدب الصرصار”، ص43.

غير أنّ الطوارئ التي تظهر في ساحة وعي راشد، وأمام ناظريه، بعيداً عما لا يدركه حسّه، تؤكد عمق ارتباطه بزوجته، وخشيته عليها، وإن كانت هي تريد أن يدخل إلى أحلامها وكوابيسها، ويمكن لنا أن نقرأ عدة سياقات، حتى قبل أن نصل إلى المقطع الأخير، لندرك خوفه عليها، عندما يتعلق الأمر بما يمكن إدراكه:

  • “كان باب الشفة لا يزال مفتوحاً. عبر كوازيمودو في الممر ملوّحاً برشاده، امتقع وجهي وشعرت بأنني ارتفع عند الأرض، كأن أحدهم حملني، هذه المرة كان يبدو القلق على راشد، وضعني على الكرسي الطويل، وأسرع يحضر لي كوب ماء. قرّبه من شفتيّ المرتجفتين. هل أنت بخير؟ قلت: لا بد أنها الحبوب. تسبب لي الدوار”، ص45.
  • “تقيّأت ما في جوفي في السلة بجوار السرير، توقفت النقرات، وقفز راشد نحوي، ضاحكة بهستيرية بعد فراغي، صرخت: أنا حامل”، ص36.

في لغة السرد:

على الرغم من انحيازي إلى الجمالي الفانتازي في هذه الرواية، وهذه سمة تبشّر بخير كثير، فإنني أميل إلى أن أعدّ أن المشكلة الكبرى التي تعاني منها هذه الرواية هي لغتها، وأقصد بذلك انحياز هذه اللغة إلى وظيفتها الإخبارية، دون التفات يُذكر إلى وظيفتها الجمالية، ودون ارتفاع، على مستوى السبك، إلى شعرية السرد التي تميّز لغة كاتب من آخر. وهذا ما يجعل اللغة أقرب إلى المقولات الذهنية، التي لم تغب عن السياقات القصصية، من مثل المقتبسات التالية:

  • “أليست الكتابة شكلا من أشكال البوح؟”، ص28.
  • “الاقتراب غطاء وحجاب”، ص12.
  • “ماذا عن الرجال الذين يستولون على رواتب زوجاتهم؟ الذين لا ينفقون درهماً على منازلهم”، ص27.
  • “في الدقيقة الواحدة يتم إجهاض 84 طفلاً، أي أكثر من طفل كل ثانية، وكل عام يجهض قرابة الـ 44 مليون طفل…”، ص107.
  • “كل ما في الأمر أنّ أرحامنا فشلت في أن تكون مأوى لتلك النطف”، ص108.

غير أنّ ما يحسب لهذه اللغة احتفالها بالحمولة الاجتماعية، وهي سمة تشترك فيها الروائية مع العديد من الكاتبات الإماراتيات، من مثل التأكيد على أن البنت الصغيرة لا يمكن “أن تعيش طفولة حقيقة؛ لأنّ كل الأشياء غير لائقة”، ص13، ومن مثل إشارتها إلى العباءة التي تجعل الطفلة تغادر مرغمة مرحلة طفولتها. تقول الساردة: “كنت قد بدأت بلبس العباءة منذ بداية العام الدراسي؛ فلقد أصبحت كبيرة، لكنني لم أكن أشعر بأني كبيرة، كنت أنتظر بائع الجرائد؛ لأشتري منه دفاتر التلوين والمصقات”، ص19. وهي في هذا المقطع تذكّرُ بقصيدة للشاعرة الإماراتية صالحة غابش بعنوان “العباءة”، تنتهج فيها سردية شعرية تقوم على سيرة حياة ثوب(2)، منذ كان صغيراً نزقاً، حتى كبر وطال، وبين الزمنين يفرّ عمر من بين الأصابع، وتنكسر أحلام لا حصر لها:

“كبُر الثوبُ وطالْ

صار للأحلام لونٌ آخر

أثقلت كلّ الصناديق

التي أودعها الليل الرؤوس

صارت الأنسام تخجل

إذ تراني – أنا والبحر – رفيقين

يسيران على غيمة شعر

صار للأيام مشي الكبرياء”

(يتبع)…

……

هوامش:

  • ترومان كابوتي (1924ـ1984م): كاتب وممثل وصحفي أمريكي، من أشهر أعماله رواية “بدمٍ بارد”.
  • تمكن مراجعة دراستنا عن القصيدة في ملحق الاتحاد الثقافي 12/ 6/ 2008، وهي بعنوان: “قصيدة العباءة لصالحة غابش: نعي سردي لأحلام الطفولة”. وقد نشرت الدراسة فيما بعد في كتابنا “الشعر الإماراتي” الصادر عن دائرة الثقافة في الشارقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى