فكر

عولمة القيم والأخلاق والمعرفة الفكرية والثقافية

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين

لا تقتصر العولمة على نشر وتعميم القيم الاقتصادية والتجارية وما تنتجه المصانع من منتجات يحتاجها البشر. بل يمكن أن تؤثِّر على القيم الاجتماعية والفكرية والثقافية والقيم الأخلاقية بشكلٍ عام ،ومنها القيم الدينية بشكلٍ خاص ، والتي جميعها تكوِّن جوهر ونسغ المجتمع .وفي حقيقة الأمر تؤدي جملة تلك القيم إلى سلوك فردي واجتماعي يعتبر الأساس والأرضية الصلبة التي تقوم عليها أنماط السلوك الاجتماعي الإنساني، وهو ما يمثِّل الحياة الثقافية بكاملها ، باعتبار أن الثقافة والفكر والمعرفة طريقة هامة وضرورية لرؤية العالم .
من هنا يمكننا أن نعتبر أنَّ العولمة وما تتضمن من مكونات خاصة بها، يكون تأثيرها كبيراً وهاماً على الهوية. وهي أحد أهم وأكبر الموضوعات التي اهتم بها الباحثون منذ منتصف القرن العشرين الماضي نظراً لحداثة مفهوم العولمة نسبياً، وكذا التأثيرات الكبيرة والعميقة التي تتركها هذه الظاهرة بمختلف مكوناتها وتجلياتها على الهوية، وهو ما جعل عدد من المجتمعات المتوزِّعة في مختلف أرجاء العالم تتجاوب مع منظومة العولمة بطرقٍ وأساليب مختلفة ومتنوعة. حيث رأى فيها البعض عاملاً سلبياً ومؤثراً بشكلٍ واضح على الهوية عن طريق تذويب الملامح الثقافية والفكرية والمعرفية والدينية لهذه المجتمعات ، ووضعها ضمن قوالب وفق نظام غربي محض ، هذا من جهة . من جهةٍ أخرى يرى البعض الآخر أنَّ العولمة تعتبر عاملاً هاماً ساهمت في التطوّر والتقدم بعيداً عن العادات والتقاليد البالية التي لا معنى من بقائها في وقتنا الراهن، الذي يتسم بالتحديات الكبيرة التي تشمل جميع مناحي الحياة الاقتصادية والتجارية منها والسياسية والمعلوماتية والتقنية ، مع العلم أنَّ المعلوماتية تتعدى في حدِّ ذاتها سابقاتها، لما يطبع زمن العولمة الذي يقوده زعماء وأباطرة المعلومات من محاولات لتغيير المعالم الثقافيةِ والمعرفيةِ والفكريةِ المميّزة للعديد من المجتمعاتِ الإنسانية.
وهذا يعني أنَّ البعد الثقافي والفكري والمعرفي للعولمة يعتبر من أخطر أبعادها واستحقاقاتها، فهي تهتم بنشر قيم ومعايير ومبادئ ثقافةٍ واحدة وإحلالها محل العديد من الثقافات الأخرى السائدة ، مما يدلّ دلالةً كبيرةً على تلاشي واندثار القيم والوعي والثقافات القومية ، وإحلال القيم الثقافية للدول الأكثر تطوراً وتقدماً محلّها، وخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، الأمر الذي قد ينعكس بشكل سلبي كبير على الهوية الثقافية والفكرية والمعرفية للشباب العربي.
فالعولمة التي تعنى بنشر وتعميم نموذج الحضارة الغربية – خاصة الحضارة الأمريكية – وأنماطها وأنواعها السياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية على جميع أنحاء العالم ، يمكن اعتبار الجانب الثقافي والمعرفي والفكري أهم أثر من آثارها، ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى ظهور تيار العولمة واستطالاته وامتداداته الذي يريد جعل العالم قريةً صغيرةً ، الأمر الذي أحدَث تواصلاً وتبادلاً للثقافات بين شعوب الدول، وقد شكَّل هذا الاتصال والتبادل تهديداً للهوية الثقافية والفكرية والمعرفية وما يرتبط بها من أخلاق وقيم ومبادئ يشكِّل الدين، واللغة أساساً جوهرياً لها.
الجدير بالذكر أنّ ثورة الاتصالات قد لعبت دوراً هاماً وأساسياً في إحداث هذا التأثير الثقافي الهام ، فبدلاً من الحدود الثقافيةِ والفكريةِ والمعرفيةِ الوطنية والقومية تطرح إيديولوجيا العولمة حدوداً أخرى مغايرة ، غير متعيّنة عملياً على أرض الواقع . ترسمها الشبكة العنكبوتية وأدواتها ووسائل التواصل الاجتماعي ، والقنوات الفضائية هائلة العدد بفرض السيطرة على الأذواق العامة والفكر والمعرفة والثقافة والسلوك العام ، فإنَّ حتمية استمرار العالم في التواصل والارتباط بطريقةٍ متزايدةٍ خلال العقود الخمسة القادمة، والإقبال الشديد على المعلومة سيتزايد بشكلٍ غير مسبوق ، وستصـبح المعلومة في متناول من يطلبها دون أيِّ عائق حتى في أبعد بقعةٍ على وجه الكرةِ الأرضيةِ . الجدير بالذكر أنّ المجتمع العالمي هذا سيستمر في التشكّل والتكوين وتجاوز الحدود الوطنية ، والإثنية ، واللغوية، والقومية . والإنسانية جمعاء . ستبقى على وعيٍّ تام وقوي بالارتباط الاقتصـادي ، والتجاري ، والاجتماعي ، والسياسي، والبيئي ، بين الأمم والشعوب على حساب أمم وشعوب أخرى.
إنَّ ما نطالعه اليوم من قيم ثقافية ومعرفية وفكرية واجتماعية ، ومن صناعةٍ إعلامية مبرمجة وأخلاقيّات إعلامية (الميديا) بكل استطالاتها ، إنما هو قادم في تكوينه وماهيته من اجتماعيّ وثقافيّ ومعرفي وفكري يتمثّل في مجتمعات الغرب الأوروبي ـ الأمريكي . إضافةً إلى أنّه يُفصح بجلاء عن رؤى وتطلعات طبقةٍ اجتماعيّة معيّنة في تلك المجتمعات، هي البرجوازيّة بكل تطلعاتها ومراميها، لكنّ تلك البرجوازية نجحت في أن تعمّم تلك القيم وتنشرها بشكل مدروس على طبقات المجتمع كافة ، وفي أن تمكِّنها وتثبتها بقوةٍ لتصبح مهيمنة بشكلٍ واسع. ولأنّ طبقة البرجوازية كانت مدفوعةً بطموحاتٍ كبيرةٍ ، فقد نقلت الكثير من تلك القيم والثقافات والمعارف الفكرية إلى خارج حدود مجتمعاتها في الغرب.
تطرح العولمة دائماً شعارها ونظامها وأهدافها للعالم كشعاراتٍ كبيرةٍ وساميةٍ مثل صون الحرّيات ، وحماية الحرّية الفردية والجماعية ، والحريات الأساسية في شتى أنحاء العالم .متجاوزةً الأديان والانتماءلات الطائفية والمذهبية والأعراق والاتجاهات السياسية ، إضافةً إلى نشر واسع لقيم الديمقراطية الليبرالية التي تعمل على تحقيق وضمان التعددية السياسية التي بدورها تسمح للجميع دون تمييز المشاركة العملية الفعّالة في السلطة بشكلٍ إيجابي . كما تعمل على إدارة عجلة الحكم في الدولة المعاصرة وتسعى إلى إحقاق حق التعليم وحق السكن ، وحق حرية المعتقد والتديّن ، وحق العمل ، وحق الانتخاب ، والاستطباب والعلاج . وحماية سائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية الفردية والجماعية ، وغيرها من الحقوق والقيم التي لا تستقيم الحياة الحرّة الكريمة إلاّ بها. بخاصةٍ نقل العلوم والمعارف والتقنيات العلمية والتكنولوجيا إلى مختلف دول العالم، فلكل إنسان الحق الكامل في الاستفادة من العلوم المتطوّرة والمتقدمة والتقنيات والتكنولوجيا المتطورة ، وتكنولوجيا الذكاء الصناعي التي عرفها العصر.
لقد أبدت العديد من الشعوب امتعاضها من العولمة وما تدعي نشره .لأنَّها لا تتعامل بالتساوي مع شعوب ودول العالم ، وأنَّ هناك تناقض حاد في المجال العملي على عكس ما يتم نشره نظرياً . وهذا يؤدي إلى توتّر دائم وتأزّم مستمر يؤدي إلى الانفصام الحضاري الاجتماعي والإنساني ، كما يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي والثقافي والمعرفي والفكري. كما يؤدي إلى انتشار الفساد والفاسدين والمفسدين في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وحتى العسكري ، وهذا بمجمله يسبِّب فقدان الثقة المتبادلة بين البشر، ونماء خوف وقلق الجميع من الجميع، لأنَّ الجميع يصبح على نقيضٍ من الجميع الآخر ، ويقف ضدَّه . وهو الذي ينطبق على العديد من دول وشعوب العالم الحديث والمعاصر. ومما لا شك فيه أنَّ الثقافة القوية ، والمعرفة الفكرية المتينة تكمن في وسائلها ووسائطها ومكوناتها ومضامينها تغير المواقف وتشكل رأياً عاماً جديداً لم يكن موجوداً قبل ذلك ، وفي كثير من الأحيان تقوم على تزوير الحقائق وقلبها وتغيير مسارها ، وينتج عن ذلك تغييرات جذرية وعميقة في البنى الاجتماعية وقيمها الأخلاقية السامية والتمرد عليها ورفضها بعنفٍ شديد ، وتبنّي ثقافة الاستهلاك للأشياء والأفكار والمفاهيم والآراء والقيم .
نتيجة للخلط الكبير الحاصل يرى علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسة ، أنَّ الحفاظ على الهوية الثقافية الفكرية والمعرفية والحضارية أصبح التحدّي الأكبر المطروح علينا في عصر الفضاء وثورة المعلومات ، وفي ظل القنوات الفضائية التي عمّت العالم والتي تكتظ بالأقمار الصناعية التي تبث عشرات المئات من القنوات التلفزيونية الفضائية والشبكات العنكبوتية (الانترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي من جميع أنحاء العالم بما تتضمنه من تأثيرات كبيرة ومختلفة تشكِّل الفكرَ والوجدان للشباب والفتيان على حد السواء، فالشعور بالخطر الداهم يستلزم العمل الجاد والبحث المستمرعن الهوية الثقافية والمعرفية والحضارية والإنسانية والانتماء الحقيقي حتى لا نتعرض للنزاع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى