تاريخ

مظاهر الحضارة الإسلامية في العصر العباسي(3)

محمد أسامة|الولايات المتحدة

العلوم اللغوية والأدبية

عُني علماء المسلمين في تلك الحقبة باللغة العربية وعلومها عناية فائقة، ولأسباب عدة، من بينها اهتمامهم بالقرآن وضرورة شرح وفهم معانية، وكذلك اهتمامهم بعموم التراث العربي شعراً ونثرًا، فضلا عن مقاومة شيوع اللحن على ألسنة المستعربين، والذي زاد حدَّةً في العصر العباسي مع اختلاط العرب بالعجم.
وكانت البصرة هي منبع الدراسات اللغوية والأدبية وذلك لقربها من مواطن البادية وقوة اتصالها بها، فكانت نقطة الوصل بين البدو والحضر، فكثرت فيها الدراسات اللغوية والأدبية، وظهر فيها عدد من علماء اللغة الذين اعتنوا بوضع ضوابطها وقواعدها. وقد تعدَّدت مجالات العلماء في هذا المجال فمنهم من غلب عليه النحو فاشتغل به واختصَّ بالدراسات اللغوية، ومنهم من غلب عليه الشعر فاشتغل بروايته واختصَّ بالدراسات الأدبية، وهناك من جمع بين الأمرين.
وقد نشط علم النحو نشاطا واسعا، فوضعت قوانين اللغة العربية وقواعدها وأسسها وأصولها، ومن أشهر علماء اللغة العربية الذين اشتغلوا بالنحو: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170ه/786م) وهو الذي قام بوضع العلامات المعروفة لحركات الضم والفتح والكسر، وهو صاحب أوُّل معجم في اللغة العربية والمعروف بكتاب العين، كما كان الخليل أول من قام بتأسيس علم العروض الشعري الذي ينظم أوزان الشعر وتفعيلات أبياته معتمدا على ما انتهى إليه من أشعار القدماء فصنفت أشعارهم على طريقته بستة عشر وزنا وأسماها بحورا، وله بذلك الفضل في بقاء الشعر العربي حتى اليوم فلولاه ذلك العلم لاندثر الشعر العربي وذهب.
وقد انقسم النحو العربي إلى مدرستين رئيستين، وهما المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية، فمن أبرز أعلام المدرسة البصرية: سيبويه وأبو عبيدة معمر بن المثنى والأخفش (ت215ه/830م) وأبو العباس المبرد وابن دريد (321ه/933م) ، ومن أبرز أعلام المدرسة الكوفية في اللغة الكسائي والفراء وابن الأعرابي وثعلبونفطويه.
وكان العصر العباسي إيذانا بظهور ما عرف بالمعاجم اللغوية، وكان أوَّل مُعجم مرتب كُتِب له الظهور هو “كتاب العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي حيث قام بترتيب مفرداته على أساس صوتي وفق مخارج الحروف، وقد زاد عليه بعد ذلك عدد من العلماء الذين أتوا بعده، ومن أشهر المعاجم اللغوية “كتاب جمهرة اللغة” لابن دريد و”تهذيب اللغة” لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري و”المحيط” للصاحب بن عباد وكتابا “المجمل” و”مقاييس اللغة” لابن فارس، فكان أوَّلهما مختصر والآخر مفصَّل ، بالإضافة إلى كتاب “الصِّحاح” لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، وقد لخَّصه محمد بن أبي بكر الرَّازي أحد علماء القرن الثامن الهجري في كتاب أسماه “مختار الصحاح”، وكتاب “الجامع في اللغة” لأبي عبد الله القزاز (ت413ه).
ونشطت كذلك رواية الشعر القديم واختص به عدد الرواة وعلماء اللغة الذين غلبت عليهم رواية الشعر وأغلبهم من علماء الكوفة والبصرة، ومن أشهرهم: أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأبو زيد القرشي وأبو عبيدة المثنى وأبو وزيد الأنصاري وعبد الملك الأصمعي ومحمد بن سلام الجمحي وأبو سعيد السكري والمفضل الضبي وأبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وابن السكيت
ولم يكن الشعر وحده هو ما اعتنى الرواة بنقله، فقد اهتموا أيضا بنقل كافة التراث الأدبي القديم من الخطب والأمثال والحكم والقصص القديمة كما فعل المفضل الضبي في كتابه “أمثال العرب”، وأبو علي القالي في كتابه “الأمالي” كما نقل الطبري في تاريخه العديد من الخطب والرسائل التي انتهت إليه، ومن أشهر الكتب في هذا المجال كتاب “مجمع الأمثال” لأبي الفضل الميداني أحد أدباء القرن السادس الهجري حيث جمع في كتابه ما انتهى إليه من أمثال العرب وكلامهم في الجاهلية والإسلام وأضاف إليها بعض أقوال العجم.
وتطورت كذلك علوم البلاغة حيث اعتني عدد من العماء بشرحها، وقسموها إلى ثلاثة فروع وهي: المعاني والبيان والبديع، وتبحروا في وصف وشرح أساليب البلاغة وسواها من أساليب التراكيب والمعاني والبديع، وظهر مع هذا علم جديد وهو علم النقد، وأول من مضى فيه محمد بن سلام الجمحي في كتابه “طبقات فحول الشعراء”، وفعله مثله ابن قتيبة الدينوري في صورة أتمِّ إتقانًا بكتابه “الشعر والشعراء”.
ومن الكتب الأدبية التي حملت الكثير من المسائل البلاغية والنقدية واللغوية كتاب “الكامل في اللغة” للمبرِّد، ولعبد الله بن المعتز كتاب “البديع”، ومن بين الكتب “قواعد الشعر” لأبي العباس ثعلب و”أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز” لعبد القادر الجرجاني و”سر الصناعة” و”الخصائص” لابن جني.
وقد عًنِي جمهور هؤلاء العلماء بمقاومة اللحن الذي شاع على ألسنة المستعربين والموالي وأصاب كذلك من خالطهم من العرب فضعفت سلائقهم، وقد شاع اللحن في الحضر حتى نشأت العامية، أما البادية فبفضل انعزالها ظلَّت السليقة العربية الفصحى سليمة صحيحة، وكان علماء اللغة من المدن يرتحلون إلى البادية حتى يأخذوا من أهلها العربية الصحيحة من منابعها الصافية، وكانوا يراجعون مفردات العربية التي يجمعونها ويوثِّقونها من أهل البادية، ومع أسف لم يتمكَّن هؤلاء العلماء من إيقاف سيل اللحن رغم جهودهم الجبارة، إذ شاع اللحن في العامة، وصارت لغتهم العامية، أما علية القوم من الخلفاء والحكام والقادة والأعيان والأعلام من الشعراء والكتاب فقد ظلت لغتهم هي الفصحى نحو قرن ونصف من بدء الدولة العباسية، حتى استعجم المسلمون واستولى الترك على الخلافة ومن بعدهم بنو بويه ثم الأتراك السلاجقة، ففشت العامية حتى بين الخلفاء والعلماء، وأما البادية فقد بقيت على سليقتها الصافية حتى دخل فيهم هذا العي أواخر العصر العباسي.
ولكن علماء اللغة إن كانوا قد فشلوا في إيقاف سيل اللحن والحفاظ على السليقة، فقد نجحوا على الأقل في الحفاظ على اللغة العربية لغة رسمية في الخطب والكتابات، ثمرة لجهودهم في الحفاظ على قواعدها وقوانيها وأصولها.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى