فكر

الأنثروبولوجيا الثقافية ومحنة الثقافة

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
   ارتبطت الثقافة كمفهوم جديد عبر السيرورة التاريخية بكلمة الحضارة Civilization، فقد قدّم عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي ومؤسس (علم الانثروبولوجيا الثقافية Cultural anthropology) السير (إدوارد بيرنت تايلور Edward Burnett Tylor) (1832 ـ 1917) تعريف للثقافة بأنها: (ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان باعتباره عضوا في المجتمع). فالثقافة بهذا المعنى تعبير عن شمولية الحياة الإنسانية وتداخل مجالاتها الواسعة، من هنا يمكننا القول أن المثقف يستطيع أن يؤثِّر في مجتمعه تأثيراً كبيراً ويساهم في تطوره من خلال فهمه للواقع ورؤاه الشمولية، والتي غالباً ما يتصف ذلك الفهم وتلك الرؤية بحد معقول من المصداقية والرضى والقبول نظراً لاستخدام المثقف لأدوات هامة وفعّالة لبناء معرفته الدقيقة عن الواقع، تلك المعرفة من المؤكد أنها ذات صبغة علمية، وستكون المعرفة أكثر عقلانية وواقعية إن كان هذا المثقف واعياً بعمق شديد بثقافته، ومدركاً لنكساتها وقصورها، دارساً لشتى العلوم حتى يتمكن من بناء رؤية نسقية متوازنة، بعيداً عن المثالية الزائدة أو الخلط غير المبرر، وعن الرؤية الضيقة محدودة المدى والقاصرة. ففي بحثنا عن الثقافة وأهميتها نجد أنّ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قد صاغ تعريفاً فردياً لـــ (التنوير)، لقد صاغ الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط Immanuel Kant) (1724-1804) م من القرن الثامن عشر تعريفًا فردياً لـ (عصر التنوير) أو (عصر المنطق) الذي انبثق عن (حركة النهضة الإنسانية) والذي بدأه العالم الإنكليزي (اسحق نيوتن Isaac Newton) (1642 – 1727) م مشابهًا لمفهوم بيلدونغ Bildung : الذي يشير إلى التقاليد الألمانية المتعلقة بالتثقيف الذاتي وهو أيضاً التنويرأي انبثاق الإنسان من عدم نضجه الذاتي، يوصف هذا النضج على أنه تناغم بين عقل الفرد وقلبه في توحيد بين النفس والهوية داخل إطار المجتمع الأكثر اتساعاً، كما يتضح من التراث الأدبي للرواية التكوينية. حيث أنَّ الفلسفة ارتبطت بالتعليم بطريقة تشير إلى عملية من النضج الشخصي والثقافي.
    من هنا وجب أن نعير اهتمامنا الكبير بالشخص المثقف ونمنحه المكانة التي يستحقها، أخدين بعين الاعتبار أن الاختلاف هو اعتراف بالآخر، فربما كان اختلاف الطروحات والأفكار والمفاهيم نوعاً محدداً من الشطط الذي عاشه عالمنا العربي في فترات مختلفة من الزمن، تلك الطروحات التي غالبا ما كان مصدرها، تنوع المشارب الفكرية والثقافية والتربوية،فقد نهل الكثير من المثقفين والمفكرين العرب من الثقافة والفلسفة الغربية الكثير. ففي عام 1795م. دعا الفيلسوف والدبلوماسي واللغوي الألماني (فريدريك فلهيلم فون همبولت Wilhelm von Humboldt) (1767ـ 1835) مؤسس جامعة هامبولت في ألمانيا، دعا إلى علم الإنسان الذي يجمع اهتمامات الفيلسوف إيمانويل كانط والفيلسوف والشاعر والكاتب واللاهوتي الألماني) وهان جوتفريد هردر(Johann Gottfried Herder،(1744 ـ 1803) خلال العصر الرومانسي، طور العلماء في ألمانيا، وخاصة أولئك المهتمين بالحركات القومية – مثل النضال القومي لإنشاء (ألمانيا) من مختلف الإمارات المتوزعة، والنضال القومي للأقليات العرقية ضد الإمبراطورية النمساوية المجرية – مفهوم الثقافة على أنها (نظرة عالمية) Weltanschauung وفقاً لمدرسة الفكر القومي هذه، فإنَّ لكل مجموعة عرقية نظرة خاصة ومميزة للعالم لا تتناسب مع وجهات النظر العالمية للمجموعات العرقية الأخرى. على الرغم من أنَّ هذا النهج للثقافة ومدلولها أكثر شمولاً من الآراء السابقة، إلا أنه لا يزال يسمح بالتمييز بين الثقافات (المتحضرة) و (القبلية) أو (البدائية).
     في عام 1860، جادل عالم الأنثروبولوجيا الألماني (أدولف باستيان Adolf Bastian ) (1826-1905) عن (الوحدة النفسية للبشرية The psychological unity of humanity). واقترح أن المقارنة والمقاربة العلمية لجميع المجتمعات البشرية من شأنها أن تكشف أن وجهات النظر العالمية الخاصة والمتميزة تتكوَّن من نفس العناصر الرئيسية. وفقاً لاستبيان، تشترك جميع المجتمعات البشرية في مجموعة من (أفكار عنصرية) أو (أفكار أولية)، والثقافات المختلفة، أو (الأفكار والآراء الشعبية) المختلفة، هي تعديلات محلية للأفكار الأولية أو الأفكار العنصرية. وأدولف باستيان هو من مهَّدَ هذا الرأي وفتح الطريق للفهم الحديث للثقافة. وهذا ما دفع عالم الأنثروبولوجيا الألماني (فرانز أوري بواس Franz Boas) (1858-1942) م التدرب على هذا التقليد، وأحضره معه عندما غادر ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفتح نقاشاً ساخناً وجدلاً واسعاً حول عدم النضج ، وهذا لا يأتي من عدم الفهم التام والحقيقي، والنقض الكبير في مجال التفكير والشجاعة والإقدام بشكلٍ مستقل فحسب ،بل في مجابهة هذا الخوف الفكري وعدم التردد في مواجهته، فقد حثّ الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط Immanuel Kant) قطعة منفصلة، (تجرأ على أن تكون حكيماً)، هذه الفكرة جادل فيها فرانز أوري بواس رداً على كانط، حيث جادل العلماء الألمان في هذا الصدد مثل الكاتب والشاعر والفيلسوف واللاهوتي (يوهان جوتفريد هيردرJohann Gottfried Herder) (1744-1803) حيث أكّد بأن الإبداع البشري متنوع وغير متوقع ولا يقل أهمية وضرورة عن العقلانية الإنسانية .
    لو عدنا إلى الثقافة العربية فنجد أنها تنطلق من تراثنا العربي والإسلامي، لكن الطرح المحافظ كان طرحاً منغلقاً في حدوده ومحيطه، وفي مقابل الطرح المحافظ نجد أنّ هناك طرحاً متخذاً من الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى والأمريكي بالدرجة الثانية كون مرجعية الثقافة الغربية تتباين في تفاصيلها الدقيقة، وهذا التيار غالباً ما يحدث نوعا من القطيعة الأبستيمولوجية مع تراثنا الإسلامي ومع ثقافتنا العربية المحلية، هذين التيارين هما الأبرز في وطننا العربي، وقد نذهب بعيداً ونحِّمل تأخرنا وتخلفنا لرواد هذين التيارين من مفكرين وفلاسفة وكبار المثقفين ، ولكن هل من العدل أن نتهمهم بأنهم سبب تأخرنا وتخلفنا؟ أم أنَّ الوضع يتعدّى إلى القول بأنَّ كل فرد من أفراد مجتمعنا هو المسؤول عن تخلفنا؟
    في هذا السياق لا يسعنا إلا الحديث عن العديد من الأسباب وراء تراجعنا وتأخرنا. وهذا يعود إلى سببين أساسيين: الأول وجود نخبة مثقفة مميزة لا تقوم بدورها المناط بها على مستوى التأطير والتوجيه الصحيح والبناء الثقافي والمعرفي. أما السبب الأساسي الثاني هو تخلّف وتدني النخب السياسية ومستوى معرفتها وثقافتها، بحيث تجد أشخاص لهم نفود قوي وسلطة، وليس لديهم علم ولا ثقتفة ولا معرفة بالحياة (الرويبضة)، بل لم يجتهدوا ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن قضايا ومواضيع تؤهلهم للقيام بمهامهم الملقاة على عاتقهم على أكمل وجه، لذلك من الضروري جداً، أن يكون كل شخص واعياً ومدركاً لقدراته ولإمكاناته الذاتية ويفهم بما يقوم به وما ينبغي أن يقوم به، بحيث تكون المسافة بين ما نحن عليه الآن وما نأمل أن نصل إليه خلال مدة قصيرة، نكون حينئذ قد قطعنا أشواطاً ومسافات في التميز الشخصي، لذلك فكل فرد من أفراد مجتمعنا يعيش فينا مسؤول بطريقةٍ أو بأخرى في ما نعانيه من تأخّر وتخلّف على مختلف المستويات والأصعدة، ولابدَّ أن يكون اختيارنا للنخب السياسية التي ستحكم البلد اختياراً دقيقاً وجادا حتى نحصل على نتائج مقبولة على مستوى التسيير الذاتي والإدارة التي تملك إرادة التنفيذ، فالذي لا يستطيع إدارة شؤونه الذاتية بكفاءة عالية، فلن يستطيع إدارة شؤون الدولة وشؤون العامة بكفاءة، لذلك فمن الواجب على الفاعلين كأشخاص لهم دور كبير داخل حقل السياسة والاقتصاد والثقافة والمعرفة والاجتماع، ألا نشجع التفاهة بكل مسوغات مهما كانت أغراضنا وأهدافنا منها، لأننا سنجني نتيجةً سلبيةً، ولن نستطيع تحقيق لا التميز الشخصي ولا الجماعي. وتعم الفوضى. فقد قارن الشاعر والناقد والمصلح التربوي الإنكليزي (ماثيو أرنولد Matthew Arnold) (1822-1888) الثقافة بــ(الفوضى)  على غرار الفلاسفة الكبار أمثال الفيلسوف وعالم الرياضيات الإنكليزي (توماس هوبز Thomas Hobbes) ) 1588 – 1679) والفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau) (1712ـ 1778)، قارنوا (الثقافة) بـ (حالة الطبيعة). وفقاً للفيلسوف الإنكليزي (توماس هوبز Hobbes (Thomas (1588 ـ1679)، وجان جاك روسو، فإنّ الأمريكيين الأصليين الذين تم غزوهم من قبل الأوروبيين البروتستانت منذ القرن السادس عشر فصاعداً كانوا يعيشون في حالة طبيعية جداً. حيث تم التعبير عن تلك المعارضة من خلال التناقض الحاد بين (المتحضِّر) و (غير المتحضِّر). وفقًا لطريقة ونمط التفكير هذه، يمكن للشخص أن يصنف بعض الدول والأمم على أنَّها أكثر تحضراً من غيرها من دول العالم، وأن يصنّف البعض على أنّهم أكثر ثقافةً ومعرفةً وقدرةً على التفكير من غيرهم. وهذا يتناقض مع نظرية الفيلسوف البريطاني (هربرت سبنسر( Herbert Spencer (1820 ـ 1903) م عن الداروينية الاجتماعية ونظرية عالم الأنثروبولوجيا والمنظر الاجتماعي الأمريكي (لويس هنري مورغان Lewis H. Morgan) (1818 – 1881) للتطور الثقافي. مثلما جادل عدد من النقاد بأن التمييز بين الثقافات الإنسانية العالية والمنخفضة هو في الحقيقة تعبير عن الصراع المتناوب بين النخب الأوروبية وغير النخب، فقد جادل بعض النقاد بأن التمييز بين الشعوب المتحضرة وغير المتحضرة هو في الحقيقة تعبير عن الصراع بين الأوروبيين أنفسهم .وصراع القوى الاستعمارية ورعاياها.
    في هذا الإطار يمكننا التعبير عن قضية غاية في الأهمية وهي أن تلتقي فئة قليلة من المثقفين العرب سعياً وراء خطاب ثقافي ومعرفي عربي جديد، وأن تختلف الآراء والمفاهيم والرؤى أو تتوافق وتتمازج، وتتقارب الأفكار أو تتباعد بين المثقفين أنفسهم. فذلك كلّه من طبائع الأمور والقضايا العامة في المجتمعات التي تنجدل فيها الحياة الثقافية وتتفاعل وتتحرك دون حاجة إلى دعوة يطلقها المسؤولون ويلبيها المثقفون. في حقيقة الأمر نجد أنّ عدد كبير من المثقفين قد قدموا للدولة سلسلة من المطالبات راغبين في تحقيقها ، من أهمها المطالبة بإلغاء القوانين العرفية وإطلاق الحريات العامة بما فيها حرية الفكر وحرية الرأي، أو المطالبة بتغيير الخطاب الديني الجامد وتحديثه، والعمل على انفتاحه على الآخر المعاصر. وعدم توظيف الدين لخدمة السياسية أو السياسة في الدين. ليس هذا فحسب بل الحض على التمسك بالهوية العربية الأصيلة العميقة الجذور في التاريخ الإجتماعي والسياسي والثقافي والمعرفي العربي. ورفض جميع الدغوات الهادفة إلى التقوقع والانعزال . إنّ الاعتماد على الدولة ومؤسساتها وإداراتها في تحقيق تلك الأهداف يعني بشكلٍ واضح وصريح إعفاء المثقفين أنفسهم من أي مسؤولية ، تاركين السلطات الحاكمة تتخذ ما تراه مناسب لمصالحها فهي في هذه الحالة التي تملك حق الإباحة والتحريم، والمنح والمنع.وهذا هو في حقيقة الأمر أس البلاء ومصدر التراجع والتخلف منذ اللحظة الأولى التي ارتبط فيها المثقف بالنظام السياسي الحاكم وأصبح مسنناً فى آلاته، وأداة من أدواته التي يستخدمها لتحقيق مصالح النخبة السياسية الحاكمة. هذه الحالة تم توصيفها بدقة منذ القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر حيث تم التمييز بين الثقافة والمثقفين، والتمييز الدقيق بين ثقافة عليا، وثقافة دنيا. ومثقفين يسمون بأنفسهم ويشرئبون إلى الأعلى، ومثقفين دنيئين وضيعين يقبلون بالعبودية والتبعية للأقوى . فقد رأى الفيلسوف (جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau) أنَّ صقل الثقافة العالية وتقدمها وتطورها تطورات فاسدة ، وغير طبيعية . تغيِّب الطبيعة الرئيسية للناس وتشوهها وتمسخها . هؤلاء النقاد يرون الموسيقى الشعبية تعبير صادق عن الحب الإنساني وعن أسلوب الحياة الطبيعة بينما يرون في الموسيقى الكلاسيكية سطحية وفقيرة المعنى والحس والمدلول وهي موسيقا منحلَّة. وبالمثل، غالباً ما تم تصوير هذه الرؤية للشعوب التي سكنت الأرض ولها جذور عميقة فيها وهي الشعوب الأصلية على أنها (متوحشون نبلاء) يعيشون حياة طبيعية أصيلة يوجد فيها أي تعقيد ولا تشوبها شائبة، وغير مشوشة بفعل الأنظمة الرأسمالية الطبقية الحاكمة والمسيطرة في الغرب.
    في عام 1870 طبق عالم الأنثروبولوجيا السير (إدوارد بيرنت تايلور Edward Burnett Tylor) (1832-1917) هذه الأفكار عن الثقافة العليا مقابل الثقافة الدنيا لاقتراح نظرية لتطور الدين. وفقًا لهذه النظرية، يتطور الدين بكل حمولاته من أشكال أكثر تعدداً للآلهة إلى أشكال أكثر توحيداً وعبادة إله واحد فقط. في هذه العملية الهامة، أعاد إدوارد تايلور تعريف الثقافة كمجموعة متنوعة من الأنشطة المميزة لجميع المجتمعات الإنسانية. وهذا الرأي مهد الطريق للفهم الحديث للثقافة.
    الدولة في هذا السياق قد ترعى الثقافة من بعيد، ولكنها لا تنتجها أو تساهم في تشكيلها، والأجهزة الحكومية بكل ما تملك من مقدرات وطاقات قد تتولى تمويل نشاط ثقافي ما، أو تقديم التسهيلات له لا أكثر، ولكنها لا تشرف عليه بشكلٍ مباشر ولا تتحكم فى إبداعاته ونشاطاته. والمؤسسات الرسمية التابعة للدولة وشبه الرسمية التابعة لمنظمات المجتمع المدني قد تتطوع ببناء قاعات محاضرة أو المركز الثقافي أو المسرح أو دار الأوبرا، وتقدم له المنح والتبرعات اللازمة، ولكنها لا تخضعه لسيطرة ولا تفرض عليه تشريعاتها وقوانينها ولوائحها بشكلٍ مباشر، ولا تحدد طبيعة العمل الإبداعي والفني الذى يقدم فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى