نزار حالة شعرية وليس شاعراً عابراً.. الأنا في شعر نزار قباني

أحمد برقاوي | شاعر وأديب فلسطيني

“لم تولد في مدرسة المتنبي، فما أجدك تعنى بشيء من الرثاء والمديح والحكمة، وما أجدك تعنى بالبيت الواحد من القصيدة يضرب مثلاً، وما أجدك بعد هذا تعنى بالأساليب التي ألفها شعراؤنا وأدباؤنا، وإنما أنت (شيء جديد ) في عالمنا و(مخلوق غريب).” بهذه الكلمات العميقة وصف  منير العجلاني تلميذه  نزار قباني في كلية الحقوق عام 1944،وذلك في المقدمة التي كتبها لديوان (قالت لي السمراء ).بلغ نزار يومها عامه الثاني و العشرين.

فكرتان تصدران عن هذا القول :فكرة متعلقة بروح ذلك الزمان ،التي لم يجد فيها شخص كمنير العجلاني ،وهو من هو، حرجاً في كتابة مقدمة لشاعر شاب يقول في ديوانه قالت لي السمراء :

سَمْرَاءُ.. صبِّي نهدَكِ الأسمرَ في دُنْيَا فَمِي

نَهْدَاكِ نَبعَا لذَّةٍ حمراءَ تُشعِلُ لي دمي

مُتمردانِ على السماء، على القميص المُنْعَمِ

صَنَمانِ عاجيَّانِ… قد ماجا ببحرٍ مُضْرَمٍ

صَنَمانِ.. إنِّي أَعْبُدُ الأصنامَ رَغْمَ تَأثُّمي

فُكِّي الغِلالةَ.. واحْسِري عن نَهْدِكِ المُتضَرمِ

لا تكبتي النارَ الحبيسةَ، وارتعاشَ الأعظُمِ

نارُ الهوى، في حَلْمَتيكِ، أكُولةٌ كجهنَمِ

خَمْريَّتانِ.. احْمَرَّتا بلظى الدمِ المُتَهَجِّمِ..

مَحْرُوقَتَانِ.. بشهوةٍ تبكي، وصَبْرٍ مُلْجَم

فمنير العجلاني الأرستقراطي الدمشقي الوقور ، الأستاذ في كلية الحقوق ذلك الزمان ، و النائب و الوزير بعقله المتحرر و التنويري لم يكترث بالتبعات المترتبة على كتابة مقدمة لشاعر هو الآخر دمشقي  لم يتجاوز بعد سن المراهقة ،يقدم شعراً متمرداً عن المرأة في صورة لم يألفها الشعر العربي الحديث .ولم يكن ذلك الأمر نوعاً من التواضع ،بل موقفاً من الحب ومن الحياة في مدينة تنهض ،بوصفها عاصمة الدولة الوليدة ،بعملية بناء الدولة الديمقراطية التي تسمح لنزار و للعجلاني أن يصدما المجتمع المحافظ بديوان : قالت لي السمراء ،بوصفه بياناً شعرياً جديداً .

   أما الفكرة الثانية فهي أن هذه الكلمات التي كتبها العجلاني  تضع يدها على حقيقة نزار ، بوصفه شاعراً مبدعاً لم يكن شبيهاً لأحد من الشعراء السابقين عليه،فهذا الشاعر الجسور يقيم قطيعة مع أغراض الشعر القديم وأساليبه التقليدية،فوصف نزار بالمخلوق الغريب تأكيد على فرادة الشاعر . 

 

ونحن بدورنا نسأل :مالذي تركه نقاد نزار والباحثون في شعره لأقول عنه ما أقول؟ها أنا أدخل عالماً- يفترض أن أسراره كلها قد كشفت، وكنوزه كلها قد عرضت.‏

غير أن الأمر ليس على هذا النحو أبداً، فما زال نزار عالماً ثراً، بل ونصاً يسمح بمئة قراءة وقراءة. وهذه شيمة من شيم النص العظيم.‏

أعيد قراءة نزار انطلاقاً من كتابي «الأنا» وتأسيساً على مقولاته. ذلك أني لمعتقد جازماًإنه صورة من صور تعينات الأنا المبدع الذي تحدثت عنه- أنه الأنا اللاسوي بالمعنى الايجابي للكلمة. ولهذا فإن حب الجهور لشعر نزار حب خاص جداً، حب يعبر عن الإعجاب بالأنا النبيل مشفوعاً بأمنية التواصل والاتحاد معه.‏

من هو نزار قباني: دعوني أقل لكم إنه لا انفصال أبداً في نزار بين أنا الشاعر وأنا – الإنسان فهما واحد ،وأنا في الرحلة معه صدقته حين قال:‏

من عاداتي‏

أن أمارس عشقي حتى الجنون‏

وأقترف الشعر حتى الجنون‏

فإن الكتابة عندي امرأة‏

وأن القصيدة عندي امرأة‏

فلا تدهشي أن تركت كتابي‏

لأقرأ في كتاب العيون‏

فأما أن أكون شبيهاً بشعري‏

أو لا أكون‏

والحق أن «الأنا» يتردد على لسان الشاعر عشرات المرات: إن في صورت المباشرة الواضحة أو في صورته المضمرة.‏

 

فما هذا الأنا في تعيناته؟إنه وهو يستخدم الضمير أنا فإنما ليؤكد حضوره العاصف المتميز. أنا لست غيري… أنا..أنا.‏

 

من سلالات العصافير أنا‏

لا من سلالات الشجر‏

وشراييني امتداد لشرايين القمر‏

إنني أختزن كالأسماء في عيني‏

ألوان الصواري‏

ومواقيت السفر‏

أنا لا أشبه إلا صورتي‏

فلماذا شبهوني بعُمر‏

 

من سلالات العصافير لا من سلالات الشجر. إن تحديد الأنا هنا تحديد بالحرية، بالطيران، بالتجوال في الفضاء، العصفور المهاجر دائماً المغرد دائماً، العصفور الذي إذا ما وضعته في قفص مات. العصفور الذي يبني عشه متى شاء وأين شاء.‏

 

تزوجتك أيتها الحرية… لا من سلالات الشجر، فالشجرة رغم جمالها ثابتة في المكان.‏

 

إنه – نزار- أنا ضد السكون، ضد الأسوار، إنه عالم متميز لا يشبهه أحد ولا يشبه أحد. غير أن الناس – وهم مولعون بالتشبيه شبهوه بعمر بن أبي ربيعة.‏

 

إن الأنا المتميز يأنف أن يكون مثل أحد، لأنه لا يرضى إلا أن يكون أصلاًَ.‏

 

أنا لست أشبه غيري من الشعراء‏

ولست أجيد الوقوف على باب أي خليفة‏

لأغسل لحيته بالرحيق‏

وأدهن أقدامه بالعسل‏

….‏

أنا لست أشبه إلا أنا‏

فلست الفرزدق‏

لست جريراً‏

ولست الشريف الرضي‏

أنا لست أشبه إلا أنا

مرة أخرى من هو هذا الأنا الذي لا يشبه أحداً؟‏

أنا المتشكك في كل نص ٍ‏

فلست أصدق إلا كتابي‏

أنا المتنقل بين اكتئابي‏

وبين اكتئابي..‏

أنا الفوضوي‏

أنا العبثي‏

أنا العدمي‏

أنا المتململ من لون جلدي‏

ونبرة صوتي‏

ووزن ثيابي‏

….‏

أنا الرجل العصبي المزاج‏

أنا رجل لا مكان له في جميع الخرائط‏

فلا أتذكر أين ولدت‏

ولا أتذكر أين أموت‏

ولا أتذكر أين سأبعث حياً‏

……‏

أنا ملك النرجسية حينا‏

وحيناً سفير الجنون‏

أنا بطريرك الفضيحة.. والسمعة السيئة‏

أنا راسبوتين‏

أنا شهريار‏

المتأمل في هذا التعريف الواضح والعميق الذي يقدمه الشاعر لأنا يدرك من فوره، أي أنا متمرد هذا. فالأنا المتميز هو أنا متمرد على كل نظام متعال دينياً كان أم أرضياً.‏

«ومني سيطلع ورد الخراب» من أجمل ما قيل في العربية ورد الخراب، إنه الهدم والتحطيم والتفكيك لولادة الجديد. ورد الخراب هو الجديد.‏

الأنا عقل حر التجوال لا يصدق إلا ما يصدقه عن اختيار ،وأصدق نص لديه نصه الذي يبدع.‏

أنا معتد بفوضويته لأنه ضد النظام بعبثيته، لأنه ضد الأوامر، بعدميتها لأنه ضد الثبات.‏

الأنا في جدة دائماً إلى الحد الذي يكره فيه لونه وصوته وثيابه.‏

الأنا وهذه حاله يرفض أي سلطة تحد من حريته، أجل ضد أي سلطة آمرة مهما كانت:‏

يا أصدقائي الرائعين‏

إنني الجرح الذي يرفض دوماً‏

سلطة السكين‏

كل سلطة هي سكين من السلطة السياسية إلى السلطة القيمية إلى السلطة الدينية إلى السلطة الأبوية. يكتب نزار بكل وضوح قائلاً:‏

 

لا أسمح لك ِ‏

أن تمارسي سلطانك عليّ‏

باسم الحب‏

أو باسم الأمومة‏

أو تحت أي شعار عاطفي آخر‏

فأنا منذ أن خلقني الله‏

في حرب دائمة مع السلطة‏

إذا كان نزار يرفض حتى سلطة الحب، سلطة المرأة حبيبة كانت أم أماً، وهو الجاعل من الحب – كما سنرى- قضيته الأرأس، فأولى به أن يرفض ما دون ذلك قيمية من أي سلطة أخرى:‏

أحاول منذ البدايات‏

إلا أكون شبيهاً بأي أحد‏

رفضت الكلام المعلب دوماً‏

رفضت عبادة أي وثن‏

كل وثن هو سلطة، سواء كان وثناً من حجر أو من ورق أو من لحم ودم. ومن هنا نفهم وقوفه ضد كل السلط السياسية- كما سنرى.‏

هذه الثورة على أي نظام متعالٍ على الشاعر هي التي تؤكد أناه الحر، ولهذا فهو متمرد جداً، والأنا المتمرد حال من حالات الأنا الحر:‏

أفتح صندوق أبي‏

أمزق الوصية‏

أبيع في المزاد ما ورثته‏

مجموعة المسابح العاجية‏

طربوشه التركي، والجوارب الصوفية‏

وعلبة النشوق، والسماور العتيق، والشمسية‏

أسحب سيفي غاضباً‏

وأقطع الرؤوس، والمفاصل المرخية‏

وأهدم الشرق على أصحابه‏

تكية، تكية..‏

«الوصية»..‏

إن قتل الأب – رمز السلطة البطريركية هو رمز لقتل كل إرث يسجن الأنا، ومن هنا نفهم معنى المفردات الدالة على العالم القديم التي يجسدها نزار في الوصية، المسبحة، الطربوش، الجوارب الصوفية، النشوق، السماور، الشمسية، التمرد على العالم القديم، والمتمرد يجد نفسه في صدام مع العالم الذي يعشيه.‏

يقول نزار في «لا غالب إلا الحب»:‏

كل المبدعين الكبار كانوا في حالة صدام مع العالم‏

من كافكا‏

إلى فان كوخ‏

إلى صموئيل بيكت‏

إلى سيلفادور دالي‏

إلى عروة بن الورد‏

والذين لا يصطدمون بشيء‏

لا يبدعون شيئاً‏

والمبدع يصطدم مع العالم لأن كل عالم بالنسبة إليه هو واقع، فيما هو ينتصر للممكن. لما يجب أن يكون، ينتصر للمشروع، ينتصر للأمل، ينتصر للسيرورة الإنسانية، ولأن الحرية لا تقف عند حدود، فإن الصدام مع الحدود، مع المحدود قدر المبدع شاعراً كان أم فيلسوفاً.‏

هناك عالمان تمرد عليهما نزار.. عالم الوعي وعالم اللغة.‏

في عالم الوعي يدخل نزار مسلحاً بالمرأة ضد الوعي الذكوري بالعالم، داخلاً الحرب مع مئات السنين من وعي المرأة بذاتها المستورد من وعي الرجل بها.‏

في قصيدة متمردة جداً بعنوان «تكتبين الشعر.. والواقع.. أنا» وهي من ديوان «هكذا أكتب تاريخ النساء» يعلن نزار بياناً جديداً حول المرأة.‏

وباطلة دعاوى كل الرجال الذين يتوهمون‏

 

أنهم صنعوا المرأة من أحد أضلاعهم‏

المرأة لا تخرج من ضلع الرجل أبداً‏

هو الذي يخرج من حوضها‏

ها هو نزار يحطم أقوى حصن من حصون الوعي الذكوري بالمرأة يدمره، يدمر أيديولوجيا إنزال المرأة من عرشها العظيم.‏

 

إن الرجل وهو يشعر بالدونية تجاه هذه التي ترمز للخصب وللحياة، تجاه آلهة الخصب والحب والجمال أراد أن يجعلها ما دونه فاخترع أسطورة الضلع التوراتية البشعة، وسادت لدى الذكر ولدى الأنثى معاً. فيعلن نزار:‏

باطلة هذه الدعوى‏

إنك امرأة مكتفية بذاتها‏

زيتك منك..‏

وقمحك منك‏

ونارك منك‏

وصيفك وشتاؤك‏

وبرقك وردعك‏

ومطرك وثلجك‏

وموجك وزبدك.. كلها منك‏

إنها مكتفية بذاتها، عالم قائم بذاته، مستقل لا يحتاج إلى منفخة الرجل.. المرأة هي التي تكتب الشعر والرجل هو الذي يوقعه…‏

المرأة هي التي تنجب الأطفال‏

والرجل هو الذي يوقع في مستشفى الولادة‏

بأنه أصبح أباً‏

نزار يعيد الوعي إلى أصله رافضاً تشوهه على يد الذكر، يهاجم الشرق الذي يصنع تاج الشرف الرفيع من دماء النساء، يهاجم الشرق الذي يحاصر المرأة ويبايع الرجال أنبياء ويطمر النساء في التراب «في يوميات امرأة لا مبالية».‏

وفي الأوراق السرية لعاشق قرمطي يعلن نزار حكاية الانقلاب الذي قام به.. تحريض المرأة على مقاومة أوامر الخليفة، وإطلاق النار على السجان وتحطيم الأبواب.. يعلن أنه هو الذي هرّب السلاح إليها:‏

 

أنا الذي ذبحت شهريار في سريره‏

أنا الذي أنهيت عصر الوأد‏

والزواج بالمتعة‏

والإقطاع‏

والإرهاب‏

أما التمرد على اللغة فليس يعني التمرد على قواعدها ونحوها بل التمرد على القديم من صورها، وإبداع العلاقات الجديدة بين الألفاظ. والحق أن الشاعر هو أكبر مجدد لغوي إذ تصبح مفرداته وصوره وتراكيب كلامه لغة شائعة. ونزار سجلها لأنه متمرد أو قل متمرد لأنه شجاع، تأملوا هذه الصور:‏

 

قدماك في الخف المقصب‏

جدولان من الحنين‏

في البدء كان النهد والسفح هو استثناء‏

وصدرك بعض من عويل زوابعي‏

أنا نهداي في صدري.. كعصفورين‏

قد ماتا من الحر‏

كان في صدرك ديكان جميلان‏

يصيحان كثيراً‏

وينامان قليلاً‏

كان في صدرك حقلان من القطن‏

كان نهداك خروفين صغيرين‏

حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية‏

على ذراعي ولا تستوضحي السببا‏

عيناك كنهري أحزان‏

نهري موسيقا حملاني‏

لوراء وراء الأزمان‏

والدمع الأسود فوقهما‏

يتساقط أنغام بيان‏

وغيرها وغيرها من الصور غير المألوفة في العربية.‏

وقائل يقول: إن الصور الجديدة التي أوردتها صور النهد، فما سر تعلق نزار بالنهد:‏

دعونا نستمع إلى نزار:‏

أخطأت يا صديقتي بفهمي‏

فما أعاني عقدة‏

ولا أنا أوديب في غرائزي‏

لكن كل امرأة أحببتها‏

أردت أن تكون لي‏

حبيبتي وأمي‏

من كل قلبي أشتهي‏

لو تصبحين أمي.‏

 

والحق أن الرجل طفل دائم أمام الحبيبة، وليست المسألة مرض نكوصي إلى مرحلة فمية كما شرح أحد الشارحين. فعلاقة الرجل بالرحم علاقة جد معقدة، إنها علاقة عودة إلى الأصل. ولهذا فقضية نزار الشاعر هي قضية المرأة في كل تعيناتها.‏

حتى دمشق ،أم المدن ، لم يرها نزار إلا بوصفها المرأة الحبيبة:

فرشت فوق ثراك الطاهـر الهدبـا

فيا دمشـق… لماذا نبـدأ العتبـا؟

حبيبتي أنـت… فاستلقي كأغنيـةٍ

على ذراعي، ولا تستوضحي السببا

أنت النساء جميعاً.. ما من امـرأةٍ

أحببت بعدك.. إلا خلتها كـذبا

أنا قبيلـة عشـاقٍ بكامـلـها

ومن دموعي سقيت البحر والسحبا

فكـل صفصافـةٍ حولتها امـرأةً

و كـل مئذنـةٍ رصـعتها ذهـبا

 

وبعد :من الصعب أن تجد قصيدة من قصائد نزار خالية من الأنا الصريح أو أنا المضمر.فحضور الأنا في شعر نزار وعي بالتفرد ، واعتداد بذات تدرك قيمة وجودها في هذا العالم، دون أن يكترث بتقويم أحد لأناه .

ما كان شعري لعبةً عبثيةً

أو نزهةً قمريةً

إني أقول الشعر ـ سيدتي ـ

لأعرف من أنا ….

يا سادتي :

عفواً إذا أقلقتكم

أنا لست مضطراً لأعلن توبتي

هذا أنا …

هذا أنا …

هذا أنا …

أجل هو ذَا نزار ، هو ذَا نزار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى