سياسة

محطات الصراع العربى الصهيونى بالشرق الأوسط

د. فيصل رضوان | الولايات المتحدة الأمريكية

لكي نفهم الحرب بين إسرائيل وحماس، علينا أن نفهم كيف وصلنا إلى هذه المحطة المعقدة من الصراع بعد هجوم طوفان الأقصى المباغت على إسرائيل، والهجوم الإسرائيلي على غزة رداً على ذلك، والذى شكل تصعيداً آخر في صراع طويل أدى إلى مقتل الآلاف من الأبرياء.

بدأت الجولة الأخيرة من العنف بين الطرفين بعد أن شنت حركة حماس الهجوم الأكثر دموية على إسرائيل على الإطلاق في السابع من أكتوبر الماضى، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص، وأسر ما يقرب من 200 شخص ما بين مستوطن وعسكري فى حيز الغلاف المحيط لقطاع غزة. وعلى أثر الهجوم، ردت إسرائيل بهجوم جوى وبرى وبحرى مكثف وتنفيذ “حصار كامل” على غزة..لقد دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية العديد من المناطق المدنية وأغلب البنية التحتية والمرافق حيوية ويتزايد عدد القتلى والجرحى في غزة إلى الآلاف وسط أزمة إنسانية متصاعدة.

إن الموت والدمار هما الحصيلة المؤلمة لعقود من القتال المتجذر في تاريخ دموى معقد. ولفهم طبيعة العنف الحالي، علينا أن نفهم كيف وصلنا إلى هذه المرحلة. فى هذا المقال نشرح التواريخ الرئيسية التي أدت إلى نقطة التحول الحرجة هذه فى الصراع الصهيونى على أرض فلسطين.

وعد بلفور (1917)

شهد القرن التاسع عشر فترة توسع استعماري كبير حيث تنافست الإمبراطوريات الأوروبية للسيطرة على أجزاء كبيرة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط. في وقت مبكر من أربعينيات القرن التاسع عشر، رأى البريطانيون في فلسطين فرصة لحيازة مجال نفوذ في الشرق الأوسط، لمنافسة الفرنسيين والروس. ولكن لم يكن الأمر كذلك حتى الحرب العالمية الأولى، حيث قام العداء بين بريطانيا والدولة العثمانية التى حكمت فلسطين، وتولدت فى اروقة الساسة الإنجليز تصنيع هذا الكيان، وتزايد الدعم الرسمى لقيام دولة لليهود في المنطقة.

وكان وعد بلفور عام 1917، حيث دعت الحكومة البريطانية من جانب واحد إلى إنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين، على الرغم من أن الشعب اليهودي كان يشكل أقل من 15% من السكان هناك في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من أن الإعلان نفسه تعهد بأنه “لن يتم فعل أي شيء من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين”، إلا أنه لم يحدد ما هي تلك الطوائف، وما هي الحقوق المحددة التي تتمتع بها، أو كيف سيتم حمايتها. ولم تأخذ أفكارهم حول كيفية إستخدام أراضيهم بعين الاعتبار. وأيدت قوى الحلفاء في الحرب هذا الإعلان، وبعد الحرب، منحت عصبة الأمم المنشأة حديثًا بريطانيا تفويضًا مؤقتًا لحكم فلسطين حتى يتم إنشاء الدولة اليهودية. بعد ذلك، اعتمد البريطانيون سياسات الهجرة التي شجعت أكثر من 100 ألف يهودي على النزوح إلى فلسطين خلال العقدين التاليين لوعد بلفور.

لقد ثبت تعرض اليهود للإضطهاد في أوروبا لعدة قرون، ولكن في أوائل القرن العشرين، وصلت معاداة السامية إلى ذروتها في جميع أنحاء القارة الاوربية ، وخاصة في ألمانيا. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت معاداة اليهود أداة للشعبوية المتطرفة والسياسة الرسمية للنازيين. ومع هيمنة الحزب النازي على الحكومة الألمانية، أُصدرت مئات المراسيم والقوانين التي استهدفت اليهود باعتبارهم “أعداء الدولة” وتصعيد الاعتداء على الحقوق اليهودية.

في البداية، منع النازيون اليهود من العمل في الكثير من الصناعات والخدمات المدنية. ثم منعوهم من الزواج من أشخاص من “دم ألماني أو من أصول ألمانية”، ومنعوهم من الحصول على الجنسية وصادروا ممتلكات اليهود وضيقوا عليهم بهدف طردهم من البلاد – وبحلول عام 1938 غادر حوالى ربع اليهود ألمانيا.

وفي ذلك العام، قبل بدء الحرب العالمية الثانية رسميًا، ضمت ألمانيا النمسا ووضعت 185 ألف يهودي آخرين تحت الحكم النازي. وعلى الرغم من أن العديد منهم أرادوا الفرار، إلا أن القليل من الدول وافقت علي ضيافتهم. واجتمع ممثلون عن 32 دولة في مدينة إيفيان الفرنسية لمناقشة توطين اليهود فى مكان ما. والغريب حقا أنه حتى مع إعلان التعاطف مع اللاجئين اليهود، رفضت معظم هذه الدول استقبالهم، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا.

وبينما كان اللاجئون اليهود غير مرحب بهم ، فقد نشأت الصهيونية – من مجموعة ناشطين فى أوروبا تطورت من “حركة سياسة” إلى مشروع متطرف يسعى إلى بناء وطن دائم للشعب اليهودي على أرض فلسطين – وشجعوا الهجرة اليها، بل وحرضوا علي ذلك بكل وسيلة ممكنة. ولسنوات تالية، دعا الصهاينة البارزون فى أوروبا إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تحت شعارات أهمية القيم الدينية والتاريخية للشعب اليهودي. وأثبتت الفكرة نجاحها، حيث زاد عدد السكان اليهود في فلسطين الخاضعة للحكم البريطاني بأكثر من 160 ألف نسمة خلال عام واحد بين 1932 و1935.

وقد أدى تدفق اللاجئين اليهود إلى الضغط الهائل على الإحتلال البريطاني، وعلى الفلسطينيين سكان الأرض ، مما أدى إلى مواجهات عنيفة بين القوات الفلسطينية وبريطانيا وحلفائها من الميليشيات اليهودية المهاجرة. ودعمت المؤسسة الصهيونية العالمية الجماعات الارهابية من الصهاينة التعديليين الجدد (Zionist-Revisionists) الذين ذهبوا إلى أبعد من غيرهم فى التطرف حيث دعوا إلى إقامة دولة يهودية على أكبر قدر من الارض المنهوبة والتوسع الإقليمي من خلال إستخدام القوة. وقد زرعت هذه الفرق الأرهابية بذور الفوضى فى فلسطين مما دفع بريطانيا إلى البحث عن مخرج نهائي من هذه الورطة.

قيام إسرائيل و”النكبة” (1948)

بعد الحرب العالمية الثانية، وافقت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة للسكان اليهود في المنطقة والأخرى للسكان العرب، على أن تخضع مدينة القدس لحكم كيان دولي خاص. لكن عرب فلسطين والدول العربية اعترضوا على الخطة. وبعد إنسحاب القوات البريطانية من الملعب، أعلن الصهاينة إستقلال دولتهم التى أطلقوا عليها “إسرائيل” في 14 مايو 1948. وكان ذلك بداية لإعلان الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، في عام 1948، التي خاضتها مصر والعراق والأردن ولبنان وسوريا. إعترفت الولايات المتحدة على الفور بهذا الكيان الجديد، إلا أنها لم تتدخل في الصراع عسكرياً. إنتصرت إسرائيل في الحرب ومعها 77% من أراضي الإنتداب الفلسطيني السابقة، بما في ذلك الأراضي التي كانت الأمم المتحدة تنوي تخصيصها للسكان العرب. خلال هذه الحرب الأولى ضد الكيان، أُجبر أكثر من 700 ألف فلسطيني على الفرار، وقُتل ما يقرب من 15 ألفًا فيما يشير إليه الفلسطينيون باسم “النكبة”. وقد حذر البعض من أن الهجوم الصهيونى الحالي على غزة، والذي تم فيه إخبار أكثر من مليون فلسطيني إن يهجروا أراضيهم قد يرقى إلى مستوى “النكبة الثانية”.

الخمسينيات: قضية لافون وأزمة السويس

وفي عام 1954، سعت إسرائيل إلى تنفيذ عملية سرية ضد مصر فيما يعرف بـ “قضية لافون”، التي سميت على اسم وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وفيها تم زرع قنابل داخل أهداف يملكها مدنيون مصريون وأمريكيون وبريطانيون بهدف تفجيرها بعد إغلاق المنشآت وإلقاء اللوم على الشعب الساخط ، بما في ذلك الإخوان المسلمين. وقام عملاء إسرائيليون بتجنيد يهود مصريين لتنفيذ الخطة. كان هدف العملية إثارة الفتنة لإقناع بريطانيا بإبقاء قواتها في مصر، في الوقت الذي كان فيه التفاوض يجرى على خروج بريطانيا من شؤون ادارة قناة السويس. وقد خشيت إسرائيل من أن يؤدي رحيل بريطانيا إلى تشجيع مصر عسكريا في المنطقة، مما يهدد هذا الكيان الجديد. ولكن بعد تفجير القنابل، تم القبض على نشطاء صهاينة. ومات إثنان منتحرين في السجن، وأعدمت مصر إثنين آخرين. وواجه آخرون أحكاما بالسجن لفترات طويلة.

ودفعت معاملة مصر الصارمة لملف المخربين الصهاينة إلى أن تشن اسرائيل هجوم انتقامي على غزة، التي كانت تديرها مصر آنذاك. واتخذت مصر خطوات لتسليح نفسها بشكل أفضل. وبعد أن رفض الولايات المتحدة وبريطانيا طلب مصر للحصول على المساعدة العسكرية، لجأت مصر إلى الاتحاد السوفييتي الذي قدم لها تلك المساعدة. وقد أثار ذلك غضب الولايات المتحدة وبريطانيا، فقاما بسحب تمويل مشروع سد أسوان عام 1956، والذي كان أكبر مشروع سد في العالم على طول نهر النيل. وردت مصر بتأميم قناة السويس، الأمر الذي جعل من الصعب على الدول الغربية الوصول إلى طرق التجارة ومستعمراتها فى الشرق الأقصى، مما أدى إلى ما يعرف باسم “أزمة السويس” أو “العدوان الثلاثي”. حيث قامت إسرائيل، ومن ثم بريطانيا وفرنسا، بغزو مصر وغزة من أجل استعادة السيطرة على قناة السويس والإطاحة بالرئيس المصري جمال عبد الناصر. ولكن بعد ضغوط من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، انسحبت تلك القوات، وظل عبد الناصر في السلطة. لم تكن هناك معاهدة سلام بعد هذا العدوان، ولكن ظلت التوترات بين مصر وإسرائيل عالية، مما مهد الطريق لحلقة اخرى من الصراع المسلح.

حرب الأيام الستة (1967)

لقد أعادت حرب عام 1967، المعروفة أيضًا باسم حرب الأيام الستة، تشكيل خريطة الشرق الأوسط وجعلت من إسرائيل قوة عسكرية مهيمنة في المنطقة. بدأ الصراع بعد أن أغلقت مصر مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية وسط خلافات حول حقوق المياه. وكانت جهات فاعلة أخرى فى حيز هذا التوتر، أهمها الدعم السوري للميليشيات الفلسطينية في القيام لعمليات داخل إسرائيل.

أدى صراع يونيو 1967 إلى هزيمة كبيرة للعرب، واحتلال اسرائيل لمساحات واسعة من الأراضي الجديدة، بما في ذلك غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وأجزاء من القدس الشرقية والجولان. حيث قامت بشن ضربة استباقية على مصر، وتدمير جزء كبير من القوات الجوية قبل أن تغادر الأرض، مما منح إسرائيل التفوق الجوي. كسبت إسرائيل “حب” الولايات المتحدة التى كانت تشعر بالقلق إزاء النفوذ السوفييتي في المنطقة، وخاصة في مصر، اثناء تصاعد وتيرة الحرب البارده بين قطبي القوى آنذاك. لكن إسرائيل وضعت حداً لهذه المشكلة ــ وجعلت من نفسها حليفاً جذاباً للولايات المتحدة التى ترغب في سحق الشيوعية، ولكنها كانت منشغلة بحرب فيتنام ولم يكن لديها النطاق اللازم للتدخل عسكرياً في الشرق الأوسط. وكانت نهاية حرب الأيام الستة بلا شك بداية للعلاقة “الحميمية” التى نراها بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

اعتمدت الأمم المتحدة قرارًا في نهاية الحرب، يُعرف باسم قرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي دعا الدول العربية إلى الإعتراف بحق إسرائيل في “العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، خالية من التهديدات أو أعمال القوة”، فضلاً عن دعوة إسرائيل إلى الانسحاب الكامل من “الأراضي المحتلة” في فى هذه الحرب. وقبلت إسرائيل ومصر والأردن القرار، وشكل الأساس لمحادثات السلام في العقود التالية، على الرغم من أن مبادئ هذا القرار لم تنفذ بالكامل مطلقا. ولم يقبل المسلحون الفلسطينيون الإتفاق وتحول نشاطهم إلى عمليات مقاومة ضد المحتل لطالما سميت بالأرهاب ضد اسرائيل.

حرب السادس من اكتوبر (حرب يوم الغفران) (1973)

شنت مصر وسوريا هجومًا مفاجئًا متزامنًا على إسرائيل في 6 أكتوبر 1973، بهدف إجبار البلاد على الجلوس إلى طاولة المفاوضات للتنازل عن شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان. إحتلت إسرائيل مرتفعات الجولان السورية، الواقعة على الحدود الشرقية لإسرائيل مع سوريا، وشبه جزيرة سيناء المصرية، الواقعة على طول الحدود الجنوبية لإسرائيل، منذ حرب الأيام الستة يونيو 1967..وكانت الحرب بمثابة صدمة كبيرة لإسرائيل التي ، قبل بضع سنوات فقط من هزيمة جيرانها العرب بسهولة، وجدت نفسها غير مستعدة تماماً . وقد عقد الكثيرون فى إسرائيل أوجه تشابه بين حرب يوم الغفران وهجوم طوفان الأقصى فى السابع من اكتوبر..وبعد استنفاد إحتياطي الذخائر ، لجأت اسرائيل إلى الولايات المتحدة طلباً للمساعدة. وعلى الرغم من ترددها في البداية في المشاركة، أرسل الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون إلى إسرائيل إمدادات ومعدات حربية متطورة. وتم وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة بعد بضعة أسابيع. وتوصلت مصر وإسرائيل، بمساعدة الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر، عام 1978، إلى إطار للسلام الدائم في اتفاقية كامب ديفيد، وافقت فيها إسرائيل على الانسحاب من سيناء وفتحت مصر قناة السويس أمام الملاحة الإسرائيلية.

حرب لبنان الأولى (1982)

في الثمانينيات، تكونت منظمة التحرير الفلسطينية من تحالف للمقاومة الفلسطينية داخل لبنان، موطن العديد من المنفيين الفلسطينيين، وشكلت قاعدة لهم بين الستينيات وأوائل الثمانينيات، تبادلوا إطلاق النار مع القوات الإسرائيلية على طول الحدود اللبنانية بين الحين والآخر.. وفي عام 1982، نظمت جماعة أبو نضال التي إتخذت من العراق مقراً لها – وهي فرع متشدد من منظمة التحرير الفلسطينية – محاولة اغتيال فاشلة لسفير إسرائيل في بريطانيا، الذي كان صهيونيا متحمساً. واستغلت القوات الإسرائيلية هذا الحدث فى شن هجوم وحشى سعت فيه للقضاء على جميع الجماعات الفلسطينية في لبنان. وبتكلفة بشرية فادحة، غزت إسرائيل جنوب لبنان، وفرضت حصاراً مطولاً على العاصمة اللبنانية بيروت، مما أدى إلى سقوط الالاف من الضحايا بين المدنيين وذبح الالاف من اللاجئين فى مخيمي صبرا وشاتيلا، وإحداث دمار واسع النطاق. وانتهت الحرب رسميًا باتفاق عام 1983، والذي سُمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالإنتقال إلى تونس. لكن لبنان بقي غير مستقر. انسحبت إسرائيل تدريجياً من لبنان بدءاً من عام 1985 وأنشأت منطقة أمنية في جنوب لبنان احتلتها لسنوات. وأصبحت تلك المنطقة في نهاية المطاف نقطة ساخنة لنشاط لحزب الله، الجماعة الشيعية المسلحة المدعومة من إيران والتي تعارض إسرائيل.

الإنتفاضة الأولى (1987-1993)

بلغت الإحباطات الفلسطينية نقطة الغليان في أعقاب الحرب في لبنان وتزايد بناء المستوطنات الإسرائيلية وزيادة القمع من قبل قوات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة. نظم الفلسطينيون إنتفاضة ضد القمع الإسرائيلي، وانخرطوا في احتجاجات جماهيرية سلمية تحولت في كثير من الأحيان إلى إشتباكات عنيفة مع قوات الأمن الإسرائيلية. استمرت الانتفاضة حتى أوائل التسعينيات، حيث قُتل حوالي 2000 شخص. وبدعم من الولايات المتحدة ودول أخرى، بدأ التفاوض على نهاية سلمية للصراع. في عام 1991، إجتمع ممثلون عن الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي وإسرائيل ومصر وسوريا ولبنان والأردن، بالإضافة إلى وفود فلسطينية من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، لأول مرة في مدريد لإجراء مفاوضات خلقت الإطار لعملية السلام. وبلغ ذلك المجهود ذروته في نهاية المطاف في اتفاقية أوسلو، الموقعة في عام 1993، والتي سمحت للفلسطينيين بالحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة وأنشأت السلطة الفلسطينية كحكومة لتلك المناطق. ووافقت إسرائيل على سحب قواتها من تلك المناطق، وفي المقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل وحق مواطنيها في العيش بسلام..وكان من المفترض أن تمهد اتفاقيات أوسلو الطريق لحل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني في غضون خمس سنوات. لكن هذا الحل لم يتحقق قط.

الانتفاضة الثانية (2000-2003)

قضت الإنتفاضة الثانية على جهود وآمال السلام طوال فترة التسعينيات. حيث بدأ الأمر بزيارة زعيم حزب الليكود الإسرائيلي اليميني المتطرف أرييل شارون إلى المسجد الأقصى في القدس – واعتبر الفلسطينيون زيارته بمثابة إستفزاز لأنه كان برفقة الشرطة الإسرائيلية. وبدأ الفلسطينيون في الإحتجاج السلمى في البداية، بينما ردت إسرائيل على الإحتجاجات بإطلاق الرصاص المطاطي ثم الذخيرة الحية على المتظاهرين، وأرسلت الدبابات والمروحيات إلى المناطق الفلسطينية. وفي غضون شهر، تحولت الإحتجاجات إلى مقاومة عنيفة، وتصاعدت إلى تفجيرات إنتحارية داخل تجمعات اسرائيلية. ورداً على ذلك، عادت إسرائيل لإحتلال غزة والضفة الغربية، منهية الوضع الراهن بعد اتفاقية أوسلو، وأقامت حاجزاً أمنياً معززاً. وتم إعلان وقف إطلاق النار في عام 2003، بعد وقوع خسائر كبيرة في الأرواح لحوالى 4300 شخص، معظمهم من الفلسطينيين، وتسببت هذه الانتفاضة في خسائر اقتصادية تقدر بالمليارات. وقد فشلت المحاولات المتعددة لصنع السلام ـ تقرير ميتشل، وخطة تينيت، وخريطة الطريق إلى السلام ـ في اكتساب المزيد من الاهتمام خلال هذه الفترة.

انسحاب إسرائيل مؤقتًا من غزة (2005)

أصبح شارون رئيساً للوزراء في عام 2001، وفي عام 2005، أعلنت حكومته عن “خطة فك الارتباط” الإسرائيلية في غزة، والتي تضمنت الإنسحاب الكامل للمستوطنين والقوات العسكرية من غزة لصالح السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس وتم إخراج ما يقرب من 8500 مستوطن إسرائيلي من منازلهم بالقوة، كان بعضهم قد عاش هناك لعقود. كما قامت اسرائيل بهدم أربع مستوطنات في الضفة الغربية. في الأساس، كانت الفكرة هي أن إزالة الجنود والمستوطنين من المعادلة من شأنه أن يخفف من تصعيد الوضع ويسمح بإجراء محادثات سلام حقيقية. لكن هذا لن يحدث أبداً.

سيطرة حماس على غزة (2006)

كجزء من إتفاقية أوسلو، كان من المفترض أن تخضع الأراضي الفلسطينية المحتلة – غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية – للحكم جزئيًا من قبل السلطة
الفلسطينية، التي تتمتع بسلطة على الشؤون المدنية والأمن الداخلي والنظام العام. وطوال فترة وجودها حتى عام 2006، كانت السلطة الفلسطينية خاضعة لسيطرة “حزب فتح” العلماني، الذي يعترف بدولة إسرائيل ويسعى إلى التفاوض معها بعد نبذ المقاومة المسلحة في التسعينيات. لكن ذلك تغير في إنتخابات عام 2006 عندما فازت حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي وأحقيتها فى تشكيل الحكومة.

وبسبب تاريخ حماس المقاوم للاحتلال وعدم إعترافها بالكيان الصهيونى أصلاً، رفض المجتمع الدولي الإعتراف بالحكومة التي تقودها حماس. ومضت الولايات المتحدة في تنظيم خطط إنقلاب ضد حكومة حماس، ووعدت بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة 86 مليون دولار لقوات قائد فتح محمد دحلان مقابل ذلك. وبعد فشل الطرفين في التوصل إلى إتفاق دائم لتقاسم السلطة، إندلعت حرب أهلية قصيرة بين الجناحين العسكريين لحماس وفتح، فضلاً عن الميليشيات المتحالفة معهما. إنتهت المعركة بهزيمة قوات فتح، وسيطرت حماس على غزة بينما إحتفظت فتح بالسيطرة على الضفة الغربية. وفرضت إسرائيل حصارا على غزة بعد ذلك مباشرة.

ردت حماس بعد شهور باختطاف جلعاد شاليط، وهو جندي في الجيش الإسرائيلي، وأخذته إلى غزة. وردًا على ذلك، شن الجيش الإسرائيلي غارات جوية على غزة، ولم يتمكن إطلاق سراحه إلا في عام 2011 من خلال تبادل أكثر من 1000 أسير فلسطيني.

الحروب في غزة (2008-2014)

على الرغم من موافقة الكيان على وقف إطلاق النار مع حماس فقد شن جنوده غارة على غزة لقتل نشطاء حماس في نوفمبر 2008. وأدى ذلك إلى زيادة التوترات وقرار إسرائيل إطلاق عملية “الرصاص المصبوب”، شملت هجوم أسابيع القصف الجوى والغزو البري خلفت ما لا يقل عن 1000 قتيل فلسطيني و12 إسرائيلي. كما تسبب في أضرار جسيمة للمساكن والبنية التحتية في غزة. ووجدت تحقيقات مسؤولون بالأمم المتحدة ، فيما بعد، أن الجيش الإسرائيلي إرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في هذه العملية، بما في ذلك استخدام الفسفور الأبيض في المناطق المأهولة بالسكان واستهداف المدنيين عمداً. كما ادانت الأمم المتحدة أيضاً المسلحين الفلسطينيين بجرائم حرب وإطلاق صواريخ على المدنيين.

واندلع العنف مرة أخرى في عام 2012، جراء رشقات من صواريخ حماس على إسرائيل. وردت إسرائيل بغارات جوية استمرت ثمانية أيام وقتلت قائد الجناح العسكري لحماس، وسقوط نحو 180 شخصا معظمهم من المدنيين. وجدت الأمم المتحدة مرة أخرى أن كلا الجانبين قد إرتكب جرائم حرب. وساعدت مصر الاطراف في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إلا أنه لم يدم طويلاً.

وفي عام 2014، رداً على ذلك، شنت إسرائيل غارات جوية وعمليات برية وحصاراً بحرياً على غزة بدعوى اختطاف حماس لثلاثة شبان يهود فى الضفة العربية . وكان هدف إسرائيل المعلن مقاتلي حماس والبنية التحتية التابعة لهم، إلا أن الآلاف من الفلسطينيين قد قتلوا ، فى حرب دموية إستمرت سبعة أسابيع. أطلقت فيها حماس صواريخها ولكن اعترضت القبة الحديدية معظمها..تم وقف إطلاق النار بوساطة مصرية، لكنه بعد أن عانت غزة أضرار جسيمة في البنية التحتية ونقص في الضروريات الأساسية، وعدم وجود أمل فى نهاية للحصار الإسرائيلي للقطاع. وقُتل ما لا يقل عن 2200 شخص، غالبيتهم العظمى من المدنيين.

تصعيد كبير في القدس الشرقية وغزة (2021)

اندلعت أعمال عنف كبيرة أواخر عام 2021، طردت اسرائيل العائلات الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية – موطن الأماكن المقدسة ذات الأهمية لليهود والمسيحيين والمسلمين – وفرضت الشرطة الإسرائيلية قيودًا حول جميع أنحاء المنطقة. -بما فيها منع المصلين من دخول المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك..وعلى أثر ذلك اشتبك محتجون فلسطينيون مع الشرطة الإسرائيلية في القدس الشرقية، مما سبب اشتعال فتيل العنف بشكل واسع. وأطلقت حماس صواريخها، وردت إسرائيل بغارات جوية على غزة. ومرة أخرى، أعلنت إسرائيل أنها تريد فقط استهداف حماس وبنيتها التحتية، لكن هجومها أدى إلى سقوط أكثر من 200 ضحية بين المدنيين.. استمر القتال لمدة 11 يومًا، انتهى بوقف إطلاق النار الذي توسطت فيه مصر وقطر. لكن الإحباطات الفلسطينية ظلت دون معالجة، واستمر اندلاع أعمال العنف بين الإسرائيليين والمسلحين الفلسطينيين يحدث بشكل متزايد.

حرب جديدة ومحاولات التطبيع (2023)

كانت إسرائيل هى المحور الأساسي لخطة الولايات المتحدة المعلنة في إنشاء “شرق أوسط جديد— متكامل ومزدهر وآمن” في ذات الوقت الذي فرغت فيه تقريباً من حروبها الطويلة في العراق وأفغانستان — محاولة التركيز بدقة مع أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك روسيا والصين.

وعلى الرغم من إهمال الحق الفلسطيني لسنوات، فقد نجحت إدارة ترامب فى دعم اتفاقات “لتطبيع” بين إسرائيل والعديد من جيرانها مثل الإمارات المتحدة والبحرين والمغرب. كما سعت إدارة بايدن إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية حتى يتمكنوا من تشكيل جبهة موحدة ضد إيران، الخصم المشترك الذي يدعم حماس ماليًا.

ولكن يبدو أن الهجوم المباغت الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر ، ورد الفعل الوحشي من جانب إسرائيل ضد قطاع غزة، كان سيكون سبباً في عرقلة التقدم نحو الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وهذه الحرب الدائرة حالياً هي الأكثر دموية حتى الآن. وفى نظر العموم من المراقبين للصراع، يبدو واضحا من البداية أن كلاً من إسرائيل وحماس قد ارتكبتا بالفعل جرائم حرب ضد المدنيين. إلا أن اسرائيل ، التي تستعرض قوتها في مواجهة فشلها في إحباط هجوم طوفان الأقصى، مصممة على القضاء على حماس إلى الأبد، وقد أثبتت استعدادها للتضحية بالآلاف من أرواح المدنيين في سبيل تحقيق هذه الغاية.

المذابح اليومية لأهل غزة منذ السابع من اكتوبر ولدت غضب واحتجاجات حاشدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الدول العربية المجاورة، كلها تجمع على وجوب رد الحق الفلسطينى، وترى أن الولايات المتحدة متواطئة في الفظائع التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. ولا زالت مخاوف شديدة من أن تتسع الحرب لتشمل لبنان مع تصاعد العنف مع حزب الله على طول الحدود الشمالية لإسرائيل. لكنه يظل من الصعب رؤية مخرج لهذا الصراع الآن. وربما الجميع بالمنطقة يراهن على إرادة الولايات المتحدة فى ممارسة نفوذها القوى على إسرائيل لوقف العنف ومنع الصراع من التصعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى