أدب

أحلام واقعية

قصة: أحمد البدري
في بلدتنا دائما للأشياء صور أخرى غير تلك التي نراها…..فتلك النفوس المستقرة فى اعيوننا تحمل بداخلها أشياء أخرى..هكذا حدثني صديق لدود.
_لا أعلم ماذا حدث في هذه الليلة إلا قليلا مما تعيه ذاكرتي التي أصبحت هشة بحكم المرض والسن.
كنا أصدقاء ثلاثة يحتوينا خوف من هلات البرق التي أطاحت بأحلامنا جميعاً دون أن يعلن أحدنا للآخرين عما يجوش بنفسه.
لا ننكر أن رماد وركام الأحلام المتصدعة داخلنا اثر الرعد الذى هاجمنا دون حول منا أو قوة ‘قد غطت بقاياها على ملامحنا‘حتى صارت الوجوه مكفهرة والألسن عابثة خاسرة. لاتعرفها يمكن قوله أو الإمساك عليه داخل الأفواه‘والتي صارت بوابات يخرج ويدخل منها الحطام دون قيد أو شرط.‘وسحب الخوف تظلل أرواحنا التائه في مملكة اللاوعى..‘إلاأن ما تبقى من تلك الأحلام التي لاتعدو سوى خربشات متناثرة في عمق الذاكرة.
-1-
أما حلم صديقنا الأكبر سنا والأوفر حظا.. أن يمتلك بعضا من الطين‘ويشيد قصرا مبنيا من الطوب اللبن يرفعه عدة أمتار عن سطح الأرض بالعمارة التركية المحببة إليه‘وان يجنى ثمار المانجو والموالح من حقله الذى سوف يرويه من حبات عرقه ويسمده بقطرات دمه ‘وأن يتزوج بأجمل حوريات القرية كما كان يدعى … ويظل يسعى ليلاً نهاراَ ليحقق ما سعى إليه وحلم به ‘ ولكنه مات قبل أن يسكن قصره … وغدى بعيدا عن أعيوننا إلا إنه ظل يطاردنا بروحه الشريرة . كل مساء يذكرنا بالبرق والرعد ‘ فنهرع جميعا فزعين إلى تلك الأشجار التى تلف من جميع الاتجاهات تلك البركة التى خلفتها الأمطار والسيول على مدار أعوام ليست بالقليلة فنتقافز واحدا تلو الأخر هربا إلى البركة ‘ فكنا نجد صورته تطاردنا من كل اتجاه وبإيحاءاته الغريبة والمستفزة المخيفة …… ننكمش فنصير كتلة واحدة. تلاحمت أجزاؤها جيدا. يغلفنا الخوف المستمر من الروح الشريرة.
استمر بنا الحال أعوام عدة.يطاردنا ونهرب حتى تعوًدنا وتبدل الخوف إلى لعبة شبه يومية
نمارس فيها كل ألوان شقاوة وسخافات الفتيان . وأصبحت البركة فيما بعد مزار سياحي و منتزه للآخرين والعابثين وسميت ببركة الشبح.
-2-
أما حلم صديقنا الأوسط مختلفا قليلا عن الآخرين ‘ فكان كل حلمه أن يمتلك بعضا من الجياد ذات الأصول المعروفة يروضهن فيتريض بهن فى أطراف مملكته ‘ ويجمع الغزلان الشاردة إلى حظيرته .
كلما سرد حلمه واكتست عيونه بريق ‘فتزداد عيونه اتساعا وتخرج منها أشعة متلاحقة مترامية فى كل الاتجاهات وبزوايا مختلفة‘ وإذ بحركات يديه تتوازى وتتقاطع فى سرعة مرة وببطء مرة أخرى متراقصة مع نبرات صوته العذب الهامس أحيانا ‘ وكأنه فى مناجاة عاشقة ولهة.
وكثيرا ما سكن صوته وملامحه حسرة ومرارة المهزوم وانكسار الفارس .
إلا إنه كان يذكر دائما تلك المهرة التى أرهقته طويلا حتى تمكن من الإيقاع بها . انه ظل عاما كاملا يغزل شباكه لترويضها ‘فصنع لها سرجا من الحرير تميزا لها وحتى لا يترك أى علامات على ظهرها .يومها كان حدثا فريدا بالنسبة له ‘فارتدى أفخم ثيابه ‘وذبح الذبائح وأقام الولائم .ظل يرقص حتى الصباح على أنغام المزمار البلدي ‘وهى أيضا أخذت ترقص منتشية تتمايل بخفة ودلال على ما يصل إلى مسامعها من أنغام .
كان يتودد إليها فيجمع مكعبات السكر ويختلي بها بعيدا عن عيون الجياد . يمد كفه إليها فتلثمه مبتلعة مكعبات السكر ‘فيمرر يده على جيدها ويقبلها قبلات متقطعة ‘فتزداد نشوة وشعورا بالتميز ‘فترقص وتتمطى بجسدها المتناسق فى خفة ودلال رادة له الجميل معبرة عن امتنانها‘
ظلت تلازمه ويلازمها لا يفترقا….
يعاود فيحدثنا عن الغزلان وما يعانيه فى اصطيادهن ووعوًرة وقسوة الصحارى….. حتى أصابه لوث وجنون الجياد والغزلان ‘ فاعتزل الجميع وعسكر بين التلال والجبال لايحاكى أحدا ولا يكلم بشرا.
اتخذ من ربوة مجلسا له فيجتمع حوله الجياد والغزلان يخالطهم ويخالطونه..يأمرهم فيطعون ..
يتوسدهم ليلا ‘ يرعاهم نهارا و يتحدث بلغتهم .
أما أخرهم فكان كل حلمه أن يعود إلى حضن أمه ينعم بدفئها لعله يذيب صقيع الليالي السابقة مزيلة عنه اثارخوف وعناء تلك الليالي التى قضاها فى وحدته بين التلال والربوع.
حيث انه اتخذ من الكهوف له منزلا ومن سفوح الجبال مرتعا‘وكانت الصحراء الجرداء له مملكة يمارس كل طقوسه على وجهها متخذا منها ملهى ومدرسة محاولا جاهدا أن يتعلم من والده وبعضا من أقاربه كيفية صناعة سياجا بشريا حول قريته المزروعة فى قلب الصحراء وحيدة بعيدة عن باقي مدن العالم ؛مما يغرى الخارجين عن القانون والفارين على غزوها؛فيرد عنها شلالات وموجات الغزو المستمر والمتقطع أحيانا حسب الأحوال مما اكسبه فنون تحطيم وتكسير تلك الموجات‘والغوص فيها وتعلم بمهارة فائقة فنون الاعتلاء فوق هذه الموجات والعودة إلى حدوده سالما غانما فى كثير من الأوقات .
إلا أنً هذا لم يمنعه أن يشتاق لجلسة بين أنداده ؛ليختلس الابتسامات وبعض النكات من بعض الأصدقاء.
كانت الضحكات التى تخرج مزغردة تبث الكثير من الطمأنينة فى القلوب .يروى لهم عن صناعة وبناء التباب والحصون والتجهيز لصد هجمات البدو المقبلة.يلوم قتل والده بعد كر وفر وكيف يطلق سهامه ونباله المحشوة بالحجارة والأجسام المعدنية الدقيقة ‘يشرح باستفاضة استعداده لإطلاقها وما يلزم ذلك من مهارة وعلم بقواعد التنشين والقنص.كان يقضى ليله بين نار الحطب المشتعلة التى تلهب قلوبهم وأسماعهم بالحماس والإنصات وحلاوة جلسات السمر ‘يستل ناي قديم مصنوع من الغاب يخرجه من بين طيات ملابسه التى لا لون لها ثم يتحسسه بأنامله الرقيقة الناحلة قبل أن تلتهمه شفاهه الغليظة مخرجا أنفاسه الساخنة العميقة حاملة ما بداخله من قلق محولا إياه إلى نغمات عذبة تقتل خوفه ووحدته كلما تناقلت أصابعه فوق الناي من فتحة إلى أخرى بمهارة ورشاقة توحد مع نايه.
ازداد شوقا وحنينا لمشاركة الأصدقاء فى احتساء ورشف كوب من الشاي الساخن يشاركونه ويشاركهم حبه وخوفه وقلقه على قريته والنظر دوما للقادم المتلصص خلف الحصون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى