قراءة في نصين للشاعرة تسنيم عبد القادر والشاعر المتوكل طه
فراس حج محمد| فلسطين
(1)
ما زالت نصوص الحرب تشغلني، وأقارن بينها، وأهتم بها. وأحاول أن أتابع كل ما يصدر من نصوصٍ أو كتب مستقلة وثقت لأحداثها أو مقولاتها أو إستراتيجياتها، تلك النصوص والكتب التي ترصد الحالة العامة المشتعلة في غزة، وأرى ما يثيره بعضها من لفتٍ للانتباه كما حدث مع كتاب “أبو عبيدة- قائد سلاح الحرب الإعلامية” لصاحبه سيّد داود المطعني. فقد تم سحبه من معرض الكتاب الدولي في مصر- الدورة 55 (24 يناير – 6 فبراير 2024)، لكن لم يطل به المقام حتى عاد إلى رفوفه، ليحقق انتشاراً لافتاً، وينهي حالة الجدل التي رافقت عرضه الأول، بعد أن اعترض الكيان الغاصب على وجوده، وقاحةً وقلةَ أدبٍ من هذا الكيان غير مسبوقة، ليتدخل في عرض الكتب في معرض الكتاب. لقد جعلت الحرب من هذا الكيان سيئاً في كل شيءٍ، ليتيح لنفسه التدخل بشؤون الآخرين، ماذا يكتبون وماذا يلبسون، وكيف يتصرّفون.
هذه الحالة لم تمنعني من أن أسائل نفسي بين فترة وأخرى، عندما تسودّ الآفاق، ويكثر القتل، ويتكالب العالم علينا: ما جدوى الكتابة والدم ما زال نهرا وما زالت الجثث تتناثر في طرقات غزة لم تجد أحد يكرم مثواها الأخير؟ وما أهمية الكتب وتكاثرها والناس تموت بالمئات أو ينتظرون الموت بالبطش أو بالجوع أو بالبرد؟ هل أعزّي النفس عن كل هذا الشعور بالقهر بالتأسي ومتابعة ما قاله الشعراء والأدباء وما لفظته بطون المطابع؟ هل نحن مجانين إلى هذا الحد؛ لنكتب الشعر ونؤلف الكتب ونعد الألحان في عز الحرب الجهنمية؟ أسئلة ما زالت تدق رأسي وتعذبه، وتحفر فيه مساميرها التي تصيبني أحيانا بالهذيان وشتم كل شيء، حتى النفس وما تفعل. مع كل ذلك أتابع وأقرأ وأكتب وأؤلف الكتب. فلعلني غبيّ بدرجة ممتاز!
ما علينا. هي هكذا الحرب إذاً، كما قلت سابقاً، تجعلك بين منطقين، عاقل جداً، مسلّم ومؤمن، تعد ذلك قدرك في هذه الأرض، وبين حالة من الجنون. ونادرا ما أكون بليدا؛ فأنشغل بالشعر والروايات وأقوال الكتاب.
كنت أتوقع لهذه الحرب أن تطول، لكنها طالت أكثر مما ينبغي! وكم يجب أن تطول إذاً- أيها المغفل أنا- لأقول إنها قد أخذت كفايتها من دمنا؛ أطفالا ونساء ورجالا. يقلقني جدا أن يصف الإعلام الأطفال والنساء والمدنيين- دون المقاتلين- بالأبرياء، وكأن هؤلاء المقاتلين مسموح لنا أن نضحي بهم، وبأنهم غير أبرياء؛ فلا ننحاز لدمهم المسفوح في غزة. على العكس تماماً. إنهم ليسوا أبرياء فقط، بل إنهم أبطالٌ فرضوا على أنفسهم أن يحموا التاريخ من التزوير، وأن يحموا الناس من الموت. فهم أكثر براءة من البراءة ذاتها. إنهم قديسو الحالة الفلسطينية المنهارة، ولا تجد شيئاً يسندها سوى هؤلاء المقاومين.
تتضح هذه الرؤيا أكثر في النصوص المولودة بعد أن أخذت الحرب سياقها الطبيعي المقيم يوميا معنا، كأنها قدر لذيذ نعتاش به، ونتعايش معه، أصبحت النصوص أكثر واقعية وجمالاً، كأن نار الحرب أنضجتها. ومع إنضاجها فإنها عملت على أن تُصفّيَها من شوائب السواد الذي يضبّب الرؤيا، كأن الحرب أخذت سياقها الطبيعي في النصّ أيضاً، وبهذا تصبح الرؤيا أشد وضوحا في النص، كما هي أشد سطوعاً في أرض المعارك المحتدمة، ولكلٍّ قدره عليه أن يصنعه.
من هذه النصوص سأختار نصين، وهما لفلسطينيين؛ الأول للشاعرة تسنيم عبد القادر، والآخر للشاعر المتوكل طه، وعلى الرغم من اختلافهما، جيلاً، وتجربة شعرية، واختلافهما في الأيديولوجيا المحركة لصناعة الفكرة، إلا أنهما التقيا في وضوح الرؤى، وإن اختلفا أيضاً في طريقة التعبير وأدواته، إلا أن المعنى المطروح في “طرقات غزة” جعل النصين متشابهين؛ حالة وفكرة.
ولعل هذه الموازنة بين النصين تقول شيئا واحداً، وهو أن الحرب قادرة على وضع الاختلاف على سراط مستقيم، ليصبحا في مسار واحد، فكريا وجمالياً. علما أن نص الدكتور المتوكل طه في أصل دلالته النفسية هو العمل على تجاوز الحالة النفسية التي توقع المرءَ أحيانا فريسة لليأس من هول ما يرى الإنسان الفلسطيني من مشاهد القتل والدمار، حالة شبيهة مما أعيشه أحياناً وبدأت بالإشارة إليها أعلاه في هذا الحديث.
(2)
نشرت قصيدة الشاعرة تسنيم عبد القادر “كيف غزّة؟” في عدد (شباط 2024)، من مجلة الدرر المقدسية (إسلامية التوجه). تنضح القصيدة بالرؤيا المحملة بالنصر، على الرغم من أن الشاعرة في قصيدتها لم تمرّ عن آلام الحرب مرورا عابراً، ولم تجعلها هامشا صغيرا لملحمة أسطورية، بل كانت واقعية تماماً. في هذه القصيدة المراوغة بين شعر التفعيلة والشعر الكلاسيكي باتخاذها الزاي الممدودة مع الألف أو مع الهاء الساكنة أو التاء المفتوحة الساكنة (هاء عند النطق) قافية لها، منح النص موسيقى خارجية مؤطرة لفكرة النص المرتكزة على ما يحدث من حرب في غزة، ومع أن هذه القافية هي القافية الأساسية المتفقة مع اللازمة الشعرية “كيف غزة؟” إلا أن الشاعرة أيضا لعبت على التنويع في القافية داخل النص نفسه، كأنها تكتب كوبليهات غنائية، كل كوبليه له دلالته الفكرية والسياسية فاقتضى أن يكون له قافية خاصة، ولحن خاص فيه.
أكسبت القافية- بتنوعاتها- النصّ ملمحا مهما؛ وهو أنها لا تظهر قافية إلا وهي تُقرأ قراءة جهرية، فكأنها قصيدة إعلام وإعلان، لا قصيدة قراءة صامتة. وبهذه الحالة تتفق والسؤال، فالسائل يسأل ليصل صوته ويعلن عن مطلبه، والقصيدة تريد هذا، هو سؤال الآخرين عن غزة “كيف غزة؟” أو سؤال الشاعرة أهل غزة أو أي شخص يعرف أخباراً عن غزة- كما يبدو في بداية النص- سؤالاً للتفصيل في الحالة الشعرية المغموسة في رمال بحر غزة، ومن حولها ضجيج المعارك وأزيز الرصاص، وتلخص هذه الحالة وتكثّفها بهذه الجملة “زادها فحش الحروب اليوم عزة”.
الشاعرة في هذه القصيدة ترصد الواقع وتقارن، وتصبح غزة مثالا له كثير من المتناقضات من محيطه، والمحيط هنا محبط جدا، فهو العدو القاتل، والعدو المتخفي في ثياب صديق. ولذا فإنها تنهي القصيدة بهذه الخاتمة المهمة:
ألف تاريخ يزج بنا… على وجع القضيةْ
حدثونا كيف غزّة
بعد أن وافت عروبتنا المنيةْ
في ظني، لقد جاءت هذه الخاتمة محملة بالفكرة مكثفة جدا في ثلاثة أسطر شعرية، حالة غزة التي تكتب التاريخ في لحظة تاريخية موجعة، لكنها لحظة تاريخية ضرورية، فهذه المدينة تكتبه وحدها، بعد أن ماتت العروبة، إنها بجملة واحدة مكثفة قدمت موقفاً سياسيا شعرياً يعبّر عنه كثيرا في التحليلات السياسية.
هذه الكيفية من التعبير متعاضدة مع ضرورة الخَرْجة المغايرة للقافية التي سيطرت على القصيدة في السطور السابقة، فمغايرة الفكرة اقتضى فنيا مغايرة القافية، كما سبق وأشرتُ، لكنها لم تتخلص منها فنيا بتاتا كما هي فكرة الخاتمة التي جعلت غزة بفعلها منفردة، في محيط محبط، جاءت كلمة “غزة” قافية لسطر وسط بين الياء والهاء الساكنة ليكون الاتفاق بين الناحيتين الفكرية والفنية.
(3)
وفي نص الشاعر المتوكل طه الذي نشرته صحيفة القدس الفلسطينية في عددها الصادر يوم الأحد 4/2/2024 بعنوان: “برقية غير مباشرة إلى جندي” يضيف إلى نصوص الحرب بُعدا آخرَ تبئيريا لرؤيا الشعب الفلسطيني الساعي إلى التحرير، ويتخذ حيال هذه الحرب الدائرة في غزة موقفا واضحا، رؤيا شاعر لم يفقد البوصلة، مؤمن بقدرة المقاومة على تحقيق المكاسب السياسية. وليس غريبا عن الشاعر هذا النفس المقاوم فقد شارك فعليا في المقاومة أيام الانتفاضة الأولى، واعتقل، وكتب في المعتقل كتباً وأشعاراً ما زالت حاضرة حتى اليوم في الدراسات، وفي مقررات التعليم، وعلى ألسنة المثقفين وجمهور القرّاء.
يلتقي هذا النص ونص الشاعرة تسنيم عبد القادر في تمجيد غزة، ورؤية النصر على مداخل غزة وعلى شواطئها، فقد أنهاه بقوله: “لغزّة قَدَرٌ واحد: النصر”، لكنه قبل أن يصل إلى هذه الرؤيا الواضحة يؤكد أن “بعض القصص مخيفة. وتُلْجِم الحكواتي!”، كما وصفت تسنيم الحرب بأنها فاحشة، لذلك فالشاعر على بصيرة بأنه ليس خادعا وليس مخدوعاً يعلم الحقيقة، حقيقة الألم الكبير في غزة، لكنه مع كل هذه الحقيقة الملجمة للكاتب والحكواتي، يصرّ على أن يخاطب المحتل عبر جنديه خطابا غير مباشر ليقول له: “لن تدرك معنى الجحيم، حتى ترى أُمَّكَ في النار”، وقد رأى الجنديُّ/ العدوُّ أمه وأخته وأخاه ونفسه وكيانا كاملا يغوص في جحيم غزة، ليس أسيرا فقط، بل مقتولا وجريحاً وتائهاً يتخبّط، فأمّه هاوية فعلاً، استعارة قرآنية باذخة الدلالة على الفكرة النصية عند المتوكل طه.
ولم يخاطب الشاعر الجندي إلا بوصفه واحداً من جوقة “القتلة”، فيعمم برقيته ليصبح الجندي النكرة “إلى جندي” جنودا قتلة معرّفين بأنهم مجموعة الغزاة المعتدين، يبرق لهم بهذه الحقيقة التي لم يفطنوا لها، وإن فطن إليها آحادٌ منهم، لم تسمح لهم “القوة الباغية” المسيطرة بتحقيقها: “أيها القتلة!/ ستخلعون الشوكَ، الذي غرزتموه في أقدامنا، بأسنانكم”. إنه عدل القدر، من زرع الشوك لا بد من أن يحصده، ولأن اليد القوية يدٌ “مغرورة”، فلا بد من أنها “ستفقد أصابعها”، فكان من الطبيعي أن يستخدموا أسنانهم لخلع ما غرزوه من شوك في أقدامنا. إنه عذاب آخر سيعانيه “المغرور” بعد الحرب، معاناة تضاف إلى معاناتهم التي كانت في أرض المعارك بعد أن تكون شوكته قد كُسرت، وتحطّمت هيبته.
هذه الحالة من اشتباك الحالة بين غزة وأعدائها الممزوجة من الألم والألم المضاد، يلاحظها القارئ في مقاطع كثيرة من هذه البرقية، وغير ما سبق أسوق هذه الجمل: “ستلتئم الجراح، وتنبتُ الوردةُ من غصن الحريق…”/ “المُلثّمُ مليء بالمفاجآت! وغداً العيد الكبير…”/ “الحديد يصرخ! والسلاح ينبح… في كل البلاد، ولهذا؛ يبدو الجنونُ، جيداً، الآن”. جمل تصلح أن تكون برقيات عاجلة، محملة بالرسائل الواضحة المفخخة بالتهديد، شبيهة بالتوقيعات القديمة، تلك النصوص القصيرة المكثفة التي كان يعلّق بها “الحاكم” أو “الوالي” باختصار دالّ على ما كان يأتيه من قضايا ورسائل عاجلة، فلا وقت لديه ليشرح؛ إنما خير الكلام ما قلّ ودلّ.
بهذه الطريقة من المزج بين الألمين، وبهذه الصياغة المختصرة ما يشير إلى حالة من الوعي الذي يدركها الشاعر. فالمسألة ليست بهذه البساطة التي قد يظنها الآخرون. حالة تؤكد الفكرة القرآنية “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون”، ويزيد عليها ما زاده القرآن الكريم “وترجون من الله ما لا يرجون” هذا الرجاء الذي سيفصح عنه نهايةَ النص. كما أنه يشير إلى أن الشاعر في عمقه يشعر بالقوة، فهو يوجه برقيات محملة بالتهديد، وليست برقية استجداء، ولهذا اقتضى أن تكون مكثفة وقصيرة، على عكس رسائل الضعفاء التي تسترسل في الشرح وإذلال الذات في كلام فيه إطناب “ولتّ وعجن” من أجل أن يمنح العفو من قاتليه.
وإن التقى الشاعران؛ تسنيم والمتوكل بفكرة النصر، واستحقاقه، رؤيا لا شك في تحققها، فالانتصار يستحق الانتظار كما قرر المتوكل ذلك، إلا أن المتوكل يأخذ المسألة إلى ما بعد “اليوم التالي” للحرب، بلغة السياسة والمحللين العسكريين. ليرى أن غزة ترنيمة تجعلنا “نغنّي؛ غزة… غزة… غزة…”. كأن الرائي فيه يرى أبعد مما يرى قصيرو النظر من المنظرين وراسمي السياسات ومهندسي السيناريوهات. أما تسنيم فتسكت عن هذا السيناريو وعن رسم آفاق المستقبل.
هل يمكن اعتبار الشاعر متقدما في رؤيته هذه على الشاعرة؟
لا أظن ذلك، فالشاعرة تعدّ نفسها- على ما يبدو- جزءا أصيلا من مشهد المقاومة، فرسم آفاق المستقبل ليس من اختصاصها إنما مهمتها محصورة في الراهن الآني، ومعنية بوضع النقاط على الحروف، كما يفعل المتحدثون الرسميون للمقاومة تماماً، نادرا ما يتحدثون عن اليوم التالي للحرب، لأنه محسوم بالنسبة لهم، فغزة للغزيين، والمقاومة ومن وراءها مستمرون حكاما في غزة وجزءا من مشهديتها السياسية واليومية. فالشاعرة تسنيم تؤكد موقفاً سياسياً هي جزء منه، والشاعر المتوكل طه يصنع جمالا شعرياً، ومن ضروراته الرؤيا المستقبلية، ولا تعارض بين المسألتين إطلاقاً.
وكما تجاور النقيضان في قصيدة تسنيم، يتجاور النقيض مع النقيض عند المتوكل كما أشرت أعلاه، بل ينسل من الخوف ومن الكابوس الذي يحياه الناس بفعل هذه الحرب فيرسم الشاعر الحالة المضادة قبل سطرين من إعلاء النشيد والنصر، فيقول: “لكنّ طرقات غزة من أرجوان الوريد. وهالةُ نجمها المُشِعّ من عروق ثوبنا. سنربّي الأشجارَ والجداول على حدودها، اللاتنتهي، ونعشق في طرقاتها النّحلَ والسنابل، ونفيض بالمجرّات والنبض، وننقش على مداخلها جداريةَ المجد”.
في كلا النصين إذاً مجموعة من الرؤى والانحياز العاطفي العقلاني المؤسس على قوة الواقع، بتوظيف مجموعة من المفردات التي تحيل على دقائق المشهد بجوانبه المتعددة: السياسية، والحياة اليومية في ظل الحرب، وحالة المقاومة التي ما انفكت تسنيم إلى الإشارة إليها في كل سطر من القصيدة تقريباً، ويشير إليها كذلك المتوكل طه، لكنه يضيف مشهديته والتقاطته الخاصة بعبارة لافتة كالبرق في قوله: “الملثّم مليء بالمفاجآت”. وللقارئ أن يتخيل هذا المشهد من حالة ترقب أبي عبيدة، الناطق الرسمي للمقاومة في غزة، وما يعنيه للجماهير؛ ليس لنا نحن الفلسطينيين وحسب، بل العالم أجمع، بما فيهم قادة الكيان الغاصب.
حالة يترقب فيها الجميع كلام الملثم المليء بالمفاجآت التي كانت تغمر الفلسطينيين بالفرحة والعزة، وتصيب الآخرين بالدهشة، إن لم تملأ نفوسهم ذعرا وخوفاً وزحفا للتظاهر ضد مهندسي الحرب لدى هؤلاء الغزاة الغاصبين. ربما من أجل هذه “الأيقونية” التي أصبح عليها أبو عبيدة ضج الكيان لمنع كتاب سيد المطعني الوارد ذكره أعلاه، فصار اسمه وصورته مصدريْ إزعاج لهم، هذا الاسم مع تلك الصورة وقد تصدرا غلاف الكتاب. فكأن أبا عبيدة كابوس يلاحقهم، خارج أرض المعركة إلى أرض الشقيقة مصر؛ خشية أن ينتقل تأثيره ومفاجآته إلى أناس جديدة، فتفتح على الطغاة معركة أخرى لم تكن في الحسبان.
(4)
وبعد؛
فإن هذين النصّين- على اختلاف في موقع الشاعرين من المشهد- يعززان قدرة الفلسطيني على أن يرى ما لا بد منه أن يراه، لأنه إن لم يرَ هذه الرؤى لن يستطيع المقاومة، ولن يستطيع العيش، وإن حارب الفلسطيني عناصر قوته، كما يفعل بعض الكتاب قاصري النظر، سيكون أول عامل من عوامل الهزيمة. لا بد من أن يرى الفلسطينيّ المقاومة بحد ذاتها انتصاراً، وعليه أن يشيد بها، فهي التي تجعله حيا لأجيال قادمة وإن مات بعضه، فموت البعض حياة للكثرة الباقية، فقد قالها أحمد شوقي قديما، وستظل صالحة مع كل ظرف مشابه:
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحررت الشعوب على قناها
فكيف على قناها تسترق
هذه الحقيقة التي لم يرد آخرون أن يروها من الكتّاب، إذ يركزون عدستهم على الدمار والموت فقط، ويتعمّدون نفي المقاومة وبطولاتها من المشهد. إنها لم تعد رؤيا ناقصة فقط، بل مشوّهة، وتصبّ في هزيمتنا الذاتية من الداخل، وعلى ذلك يجب أن يراجع هذا الفريق نفسه، وهو يقتل شعبه، بحجة الأدب والواقعية المفرطة في واقعيتها، أو في البحث عن نصوص عليا توازي نص فلان ورؤيا فلان، فليس من العدل الغرق في نصوص محمود درويش الحزينة واستعادتها كل حين، وهي لا تومئ إلا إلى أن الفلسطيني ضعيف ميّت اليوم أو غدا، وشهيد يودعه شهيد. إنها حالة من الجنائزية المرفوضة، ويحاول البعض فرضها بسلطة النقد غير الموضوعية، حالة تفلّت منها وتجاوزها شعراء المقاومة في نصوص هذه الحرب. ومن الأمثلة الدالة على حسن التعامل مع المشهد الكلي للحرب، والنجاة من براثن اليأس القاتل، هذان النصان للشاعرة تسنيم عبد القادر والشاعر المتوكل طه، على الأقل فكرة ورؤيا، وإن لم يخلُ النصان من جماليات الكتابة الشعرية عالية المستوى المتفقة مع اللحظة التاريخية والحدث الكبير دون أن يفقد النصان جماليات الكتابة الأدبية المؤثّرة.