الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين

الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين

تأليف: هنرييتا يوستن | هولندا

عرض: سعيد الجريري | باحث زائر في معهد هيغنز للتاريخ الهولندي

في عصر التطورات التكنولوجية المتسارعة مثل الرقمنة والروبوتية، والانفجار الرقمي يتشكل عالم من احتمالات غير مسبوقة، ما يفجر تساؤلات جدلية، ويحفز على حوار عام حول احتمالات العالم الجديد ومفاجآته في ظل الهيمنة التكنولوجية. فرقمنة المجتمع تؤثر على الجميع، بحيث يصبح من المنطقي التساؤل عن نوع المجتمع المراد تشكيله، وطبيعة التواصل العام المباشر، بالنظر إلى أن للثورة الرقمية تأثيراً هائلاً، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على حياة المجتمع، سواء في المجال الخاص أو في الأماكن العامة. فشكل الاتصال الجديد يبقي الأشخاص ملتصقين بهواتفهم الذكية، وبالتالي لا يحدد كيفية تواصل الناس مع بعضهم بعضاً في المجال الخاص فقط، ولكن يحدد أيضًا ما إذا كانت اللقاءات ممكنة في الفضاء العمومي وكيف تتشكل. ما يجعل الديمقراطية كمنجز إنساني تمر في الوقت نفسه بأزمة، ويفسح المجال أكثر فأكثر للشعبوية.

في هذا السياق يكتسب كتاب “الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين” للباحثة الهولندية هنرييتا يوستن في الفلسفة والممارسة المهنية في كلية تكنولوجيا المعلومات والتصميم بجامعة لاهاي للعلوم التطبيقية، أهميته، من خلال مساءلة منهجية ذات شقين: تكنولوجي واجتماعي، يسلطان الضوء على الجانب الآخر من عالمنا الرقمي.

يتألف الكتاب من أربعة فصول، مسبوقة بتقديم السيد بيتر باول فيربيك أستاذ فلسفة الشعوب والتكنولوجيا، رئيس لجنة اليونسكو العالمية لأخلاقيات المعرفة العلمية والتكنولوجيا  (COMEST)، ثم مقدمة المؤلفة التي عرضت فيها أفكار المنظرة السياسية الألمانية الأمريكية حنة أرندت (1906-1975) حول الفضاء العمومي مصدراً للإلهام، والقضايا المتصلة باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ومساهمة المواطنين باعتبارها شرطاً للحرية، في مجتمع يتسم بالمرونة، فضلاً عن كيفية تنشيط الفضاء العمومي في عالم مليء بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، ودور مصممي هذه التكنولوجيا في المجتمع.

ويتضمن الفصل الأول مباحث تفصيلية عن: الفضاء العمومي على المحك – الفضاء العمومي في نظر أرندت – فيربيك والتأثير الديمقراطي الذي لا مفر منه – تشكيل التكنولوجيا – مسؤولية مصممي تكنولوجيا المعلومات والاتصال – تأثير التحول الرقمي على الفضاء العمومي.  ويعرض الفصل الثاني الأجواء الافتراضية العامة من حيث الوجود – مناقشة المواطنين القضايا العامة عبر الانترنت – وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء العمومي – الحاجة إلى تحديث حنة أرندت – ماذا الآن؟ ويركز الفصل الثالث على مصممي تكنولوجيا المعلومات والاتصال – أرندت والحياة النشطة – النظر إلى الممارسات المهنية المعاصرة من منظور أرندت – العمل في الممارسة المهنية اليومية – أخلاقيات العمل الجديدة. أما الفصل الرابع فمكرَّس لإنشاء الفضاء العمومي وتعزيزه – أرندت حول الفضاء الخصوصي والعمومي – فكرة أرندت عن الفضاء العمومي – مبادرة وطنية محلية من خلال تكنولوجيا المعلومات والاتصال – مبادئ تصميم لتنشيط الفضاء العمومي.

يعد مصطلح “الفضاء العمومي” عاملاً أساسيًا في فكر حنة أرندت، وتعني به تلك المساحة المشتركة التي يتمكن فيها الناس من التحدث والتعامل بحرية. لكن كيف تبدو هذه المساحة الآن؟ بالرغم من أن يوستن تؤمن بمفهوم الفضاء العمومي، إلا أنها تشعر بالقلق إزاء إمكانية وجوده في العصر الرقمي، فتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) لها تأثير غير مسبوق على حياتنا اليومية. لقد اعتدنا على البيئات التي يتم توجيهها إلى تفضيلاتنا وسجلات البحث، ونتيجة لذلك فإننا نفقد العالم المشترك ببطء ولكن بثبات، فليس ثمة “أي فضاء عمومي، وليس لدينا أي فكرة عن كيفية بث حياة جديدة في هذا الفضاء”.

تقول يوستن “تناشدنا حنه أرندت أن نضمن في هذا العالم متسعًا للجيل الجديد للتوصل إلى إجاباتهم الخاصة. لأن هذا غير واضح، فالتاريخ يدلنا على أن الناس قادرون على تطوير أنظمة شمولية … لقد قمت بترجمة أفكار أرندت إلى القرن الحادي والعشرين، آملة أن أقدم أدوات لمحترفي تكنولوجيا المعلومات تمكّنهم من المساهمة في تشكيل مجتمع حر وإنساني في آن معاً.

وترى يوستن أن الحوار العام في القرن الحادي والعشرين أصبح أكثر صعوبة. فلقد بات الناس معتادين أكثر فأكثر على التعامل عبر الإنترنت، وبالتالي فهم يفقدون نظرتهم للعالم المشترك تدريجيًا، فالتقنيات تعمل على تشكيل الفضاء العمومي الحديث، بما في ذلك الوسائط الاجتماعية واستطلاعات الرأي عبر الإنترنت وتطبيقات الأحياء أو الشوارع كدليل، وتبتلع الهواتف الذكية المجتمع كله، ويتعرض الفضاء العمومي – وهو الملاذ الحر للتشاور الديمقراطي تقليدياً – لضغوط منذ أوائل القرن، وهذا لا يخلو من المخاطر، فالناس يخاطرون بحريتهم وقدرة مجتمعهم على الصمود. فهل يكفي للأسرة، مثلاً، في الفضاء الاجتماعي، أن يكون لها سقف فوق رؤوس أفرادها، يكفي لتناول الطعام والشراب؟ وهل يكون النظر إليهم ككائنات بيولوجية يجب أن تعيش، وليس أشخاصاً يجب عليهم أن يعيشوا معًا. فمفهوم مثل “التواصل الاجتماعي” يشير إلى هذا الاختلاف بشكل ملطّف. وعلى الرغم من إجراء العديد من المناقشات السياسية، إلا أنها لا تشكل دائماً مساحة عامة فيها مجال للتنوع، والبناء الجماعي لفهم العالم؛ فهو”اجتماعي” لأنه يدعو الناس للتعامل مع الفضاء العام كغرفة معيشة خاصة بهم.

وتبحث المؤلفة في كتابها عن كثب في كيفية تشكيل التقنيات الرقمية المجتمع بشكل متزايد، وكيفية تعريض الفضاء العمومي للخطر بطرق جديدة مختلفة عن أي وقت مضى. إنها تفعل ذلك ليس فقط عن طريق شرح أفكار حنة أرندت بطريقة يسهل الوصول إليها وإحضارها إلى الحياة، ولكن أيضًا من خلال البحث في عدد من التقنيات التي تؤدي دورًا في هذا الفضاء، وكذا صورة الديمقراطية التي تجسدها التطبيقات المتاحة ونوع التفاعل الذي تخلقه، المساحة الاجتماعية التي تشكلها.

وعلى طرف موازٍ تطور المؤلفة طرائق جديدة للجمهور لتشكيل الفضاء الجديد في القرن الحالي. وبدلاً من البكائيات على فقدان شيء ما، تبحث يوستن في الأشكال الجديدة التي يمكن أن تأخذها المساحة العامة في العصر الرقمي، وفي ماهية الدور الذي يمكن أن يؤديه المحترفون في ذلك.

ولعل يوستن، بهذه الطريقة، تطور، ضمنياً، تفسيرًا جديدًا للسياسة والديمقراطية، يقتضي تحمل مسؤولية الدور الجديد بطرائق جديدة، فما حدث من تطورات هو أمثلة معاصرة على المخاوف التي كانت لدى حنه أرندت بالفعل منذ أكثر من نصف قرن، بشأن استمرار فقدان الفضاءات العامة.

وتبدي يوستن قلقها إزاء موضوع بحثها من كون تكنولوجيا المعلومات والاتصال تحدد، باضطراد، شكل مجتمعنا، وما هي المعلومات التي نحصل عليها من خلال محركات البحث؟ وإلى أي مدى يستطيع المواطنون ذوو المعرفة التقنية المتدنية أن يجدوا طريقهم إلى مجتمعنا؟ فمحترفو المعلومات يقدمون، من خلال عملهم، إجابات عن هذه الأسئلة، وهناك وعي متزايد بأن هذا التأثير ينطوي على مسؤولية عامة أيضاً. ولعل أسئلة كهذه تمثل قضايا عامة؛ فهي تهم الجميع، ولا يمكن لمصممي التكنولوجيا أن يقرروا من تلقاء أنفسهم ما هو مرغوب فيه بالنسبة للمجتمع، بغض النظر عن مدى نواياهم الحسنة. فهذه القضايا تنتمي إلى الفضاء العمومي، والإجابة عن هذه الأسئلة إنما هي مسؤولية مشتركة من قبل كل من متخصصي المعلومات والحكومات والمجتمع.

ومع أنّ هناك اتجاهاً إيجابياً في هولندا للجمعية الملكية الهولندية لمحترفي المعلومات (KNVI) – التي تعد مركزًا قويًا في شبكة عالمية من محترفي المعلومات الذين يمكنهم تقديم المعرفة والمؤهلات في المجال الواسع والمتنوع لمحترفي المعلومات – يتمثل في إيلاء المزيد من الاهتمام بإشراك المواطنين في تصميم التكنولوجيا، فإنه خلال Smart Humanity 2019  مثلاً كانت هناك عدة جلسات ركزت على مسألة كيفية إدراج المواطنين في عملية صنع القرار، إلا أن ذلك ليس كافياً، ولا يمكّننا من الذهاب بعيداً بما فيه الكفاية، كما ترى يوستن، فالسؤال الجوهري – إلى جانب أسئلة أخرى – هو كيف يمكننا تشكيل مجتمع حر في ظل التكنولوجيا؟

ونتساءل مع يوستن: أي نوع من العالم هذا؟ ويتسرب إلينا ما يخيفها أحياناً، على سبيل المثال “إذا قرأت أن هناك في الصين كاميرات على معابر المشاة؛ لرصد من يمر عندما تكون الإشارة حمراء. والشركات الفنية مثل جوجل أصبحت قوية بشكل متزايد. إنها تدمج بعض القيم والقواعد في أنظمتها التي تؤثر على أفكارنا، دون معرفة الاتجاه الذي يوجهه هذا التأثير، إذ يتم تسجيل كل شيء عنك. حتى البلديات تعرف المزيد والمزيد عنك”.
وتتساءل: ماذا تفعل البلديات في هولندا مع بياناتنا؟ من الأمثلة على ذلك في هذا الصدد “الحي الذكي” المخطط له في هيلموند. بصفتك مقيماً، ستتلقى خصمًا على الإيجار مقابل الحصول على بياناتك الشخصية. ومع ذلك، يتم أيضًا تسجيل المسار الذي تسير فيه إلى المنزل وجودة الهواء والضوضاء في شارعك. يمكن للشركات استخدام هذا لاختبار منتجاتها ويمكن للبلدية استخدام البيانات لتصميم المساحات العامة بكفاءة. الهدف هو أن نتائج البيانات تعود مباشرة إلى الأشخاص الذين ينتجون تلك البيانات.

لكن يوستن، إذ ترى أن لمحترفي المعلومات مسؤولية معينة في الحفاظ على الفضاء العمومي أو تعزيزه، لا تقدم حلولًا جاهزة، وإنما تقدم مبادئ تصميم وأمثلة عديدة لتحفيزها من خلال تقديم وجهات نظر مختلفة. إن المواطنين يحتاجون إلى مزيد من المشاركة في الرقمنة البعيدة المدى للمجتمع. تقول يوستين:”يجب أن نتحدث جميعًا عما إذا كانت التطورات الحالية مرغوبة؛ لأنه متى ما تُرك كل شيء للخبراء، فإن مجتمعنا الحر والمرن سيكون في خطر مؤكد، من حيث أنه لا يمكننا إيقاف التطورات التكنولوجية، لكن لدينا دائمًا حرية الاختيار. لذا سيتعين علينا، كأشخاص، التحدث مباشرة وجهاً لوجه، عن نوع العالم الذي نريد أن نخلقه، وسيتعين علينا تحديد تلك الخيارات بأنفسنا”.

“الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين” كتاب متعمق وعملي مدارُهُ المحترفون الذين يؤثرون، من خلال عملهم، بشكل مباشر أو غير مباشر في تصميم المجتمع باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لكنه لا يقتصر بالتأكيد على هؤلاء فقط، فهو يقدم مدخلاً يسهل الوصول إلى عدد من مفاهيم حنة أرندت، ومحاولة جعلها ذات صلة وشيجة بالقضايا العامة الراهنة المتعلقة بالرقمنة والأتمتة. وهو في الوقت نفسه مقاربة منهجية من أجل حرية الإنسان المعاصر، فالتقنيات وتطوراتها، قبل أي شيء، إنما وجدت لتطوير الإنسان ومجتمعه، وينبغي استخدامها بما لا يتعارض مع تعزيز القيم الاجتماعية – الإنسانية الكبرى، فنحن في النهاية أناس، كما تلح يوستن، ولسنا آلات وتطبيقات وبيانات رقمية. لذا فحرية المجتمع الإنساني على محك حقيقي، ما يستوجب التأمل في تفكير هنرييتا يوستن في العواقب الاجتماعية للتكنولوجيا بناءً على أفكار حنة أرندت، كما فعلت في كتاب آخر لها عن نيتشه والسعي نحو الأفضل في عالم مهني ديناميكي.

…..

الكتاب: الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين: حنّه أرندت مُرشداً للمحترفين

المؤلف: هنرييتا يوستن

، 2019ISVW Uitgever الناشر:

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات: 144

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى