سحور بالانتظار

زهراء طالب | روائية وقاصة عراقية

قصة قصيرة

إھداء إلى شھداء الكرادة/ بغداد الذین قضوا في 28 رمضان 2016

كنت أتنقل برشاقة في مطبخي المزدحم بین القدور المصطفة التي احتلت وجه الموقد المشتعل والطاولة الدائریة التي تربعت قلب الفسحة الصغیرة وسط المطبخ. كانت أصوات تقطیع الطعام بذلك السكین الكبیر أشبه بمقطوعات موسیقیة، اتخذت نسقا منتظما أضفت إلى عملي نوعا من المتعة، فلا یجد الملل إلى قلبي سبیلا.

كانت رائحة الطعام زكیة، تختلط بأنفاسي التي أتعبھا صوم یوم طویل، وقد أشرف موعد الإفطار أن یدق نواقیسه المحببة لیعلن انقضاء یوم آخر من أیام الخیر والبركة. كنت أراقب القدر الذي امتلأ بحساء العدس الأصفر الذي لا یمكن أن تخلو المائدة منه أبدا، رحت أحرك تلك الفقاعات المتراقصة فوق سطحه، دفعتني تلك الرائحة للغوص بعیدا في أعماق ذكریاتي عندما كنت طفلة صغیرة حیث أول عھدي بالصیام، اعتادت أسرتي أن تجتمع في بیت جدي المملوء دفئا، كانت سفرة كبیرة تلك التي تفترش الأرض طولا لكثرة عدد جالسیھا الذي ربما كان قد یتجاوز التسعة عشر صائما من الأقرباء والأنساب. لطالما احتل حساء العدس الصدارة في تلك المائدة، كم أعجبني التفنن في تزیین تلك الأطعمة المتنوعة. لم أكن لأنسى تلك الوجوه الخاشعة وھي تستشعر لذة الصیام في آخر لحظاته قبل الإفطار، حیث الأكف مرفوعة للسماء بالدعاء والألسن لھجة بالذكر والآذان مصغیة مترقبة لسماع صوت إطلاق المدفع الذي یلحقه مباشرة صوت الأذان الساحر الذي یعلن حلول عید الصائم بإفطاره، فتتناوش الأیدي حبات التمر الشھیة وكؤوس الماء البارد الذي سرعان ما یطفئ عطش كل ریق.

انتبھت من بحر ذكریاتي على صوت الأذان الخاشع الذي تسرب عبر النافذة في الصالة، بدت المائدة معدة بشكل جید، حیث رتبت أطباق الطعام لیحتل كل منھا موضعه، بینما لمعت الصحون البیضاء بانتظار الصائمین لیشرعوا بفطورھم. ناوشت زوجي حبة تمر قائلة:

إفطار ھنئ یا عزیزي.

سلمت الأنامل یا عزیزتي، ولا أشھى ولا ألذ من طعامك.

كان ذلك الیوم ممیزا حیث وجب علینا الانتھاء من الفطور بسرعة؛ كنا على موعد للخروج إلى إحدى المراكز التجاریة الكبیرة في قلب المدینة، كان التبضع لمستلزمات العید أمرا محببا إلى قلبي، ولربما إلى قلوب النساء قاطبة، لكنه لم یكن كذلك بالنسبة لزوجي الذي لم یكن یشتكي أبدا

لكن ملامح وجھه تؤكد نظریتي بامتیاز!

أسرعت بترتیب مطبخي بینما وضعت طبقا على الطاولة لیكون بانتظارنا حال عودتنا من أجل السحور، ألقیت نظرة أخیرة على المكان الذي فاحت منه رائحة البخور، كنت أحرص على أن تطغى على روائح الطبخ العالقة بین جزیئات الھواء.

كانت الشوارع مزدحمة، وقد راجت بحركة روادھا الذین تنافسوا مع السیارات فلم یبقوا لھا مجالا للحركة مما اضطرنا للترجل والسیر مسافة حتى وصلنا إلى حیث نرید. كان المجمع لا یقل زحمة عن الشارع، وكأن الناس یھربون من ضیق الحصار الذي فرض على مدینتھم التي لم تعرف السلام منذ سنوات طویلة، فانطلقوا بین شوارعھا وأسواقھا یریدون الھروب من واقع ألیم للعیش في آخر یرسمون فیه الفرحة على تلك الوجوه التي تنتظر العید بعد أیام قلیلة.

سیكون عیدا جمیلا یا عزیزتي، سنبحر”

 فیه بعیدا فنكتشف مدنا جمیلة”. سیكون جمیلا ما دمت إلى جانبي یا

 حبیبي.

بدا الجو خانقا وقد تعذرت الحركة بین أروقة المجمع ومحاله، أحسست بضیق في صدري، أصابني الدوار، لاسیما مع ذلك البطن المكور الذي بدا كبیرا حتى صعب حمله مع تلك الركلات الرقیقة التي لا یمكن لأحد غیري أن یشعر بھا. شعرت بشيء من التحسن بعد كأس عصیر البرتقال الطازج.

كنا قد ھممنا بالمغادرة عندما اھتزت جدران المجمع وأرضیته وكأن زلزالا قویا أصابھا، اخترق صفیر جرس الحریق آذاننا، كان صوتا مدویا عقبه انقطاع النور، بدا المكان دامسا بینما تعالت أصوات الصراخ الممزوجة ببكاء الأطفال الذین أصابھم الھلع، لجأ الناس إلى جوالاتھم محاولین تحسس طریقھم للخارج. كنا في الطابق الثالث للمجمع، كان علینا ھبوط سلالمه الطویلة بعدما تعطلت المصاعد الكھربائیة، تدافع الناس على تلك الدرجات كل یرید الإسراع بالھروب من تلك السحب الدخانیة التي أخذت تعلو رؤوسنا، تصاعدت أصوات السعال الممزوجة بالصراخ المتقطع، أضاءت ألسنة النیران المشتعلة المكان، تراءى لي الجحیم بعینه، مئات محشورون في أروقة ضاقت بھم والنیران تقترب منھم وقد اتسع فوھا ترید التھام تلك الأجساد. لم یرق قلبھا لمنظر تلك الأم التي ارتمت بجسدھا فوق أطفالھا ترید درء الحریق عنھم، ولا منظر ذلك العجوز الذي سرعان ما استسلمت قدماه بعدما عجزت عن الحراك مسافة أبعد. لم ترحم النیران ذلك الأب الذي حال عمود خشبي مشتعل بینه وبین زوجته وأطفاله الذین اشتعلوا أمام عینیه وھو عاجز عن إنقاذھم فسقط مغشیا علیه.

أمسكت ید زوجي وأنا أتصبب عرقا بینما كانت أوصالي ترتعش خوفا، وضعت یدي الأخرى على بطني أرید تھدئة جنیني الذي راح یركل بشدة. بدا السلم المزدحم بعیدا، شاھدت رجالا یقفزون من الطابق العلوي لتتلقفھم النیران في الأسفل.

لن یجدي نزولنا إلى الأسفل شیئا، دعینا نجرب الوصول إلى السطح.

ھرعنا مع آخرین نرید الھروب إلى السماء، كان بابا حدیدیا محكم الاغلاق، حاول الرجال كسر ذلك القفل الكبیر الملتف بسلاسل معدنیة عملاقة، باءت محاولاتھم بالفشل بینما تسللت سحب الدخان إلینا، جلست أرضا بعدما خارقت قدماي وقد شعرت بمیاه تتدفق بین فخذي، أشتد ألمي،

كان صراخي متقطعا، أراد جنیني الخروج إلى عالم ظنا منه أنه أفضل من عالمه، لا تفعل یا حبیبي، ابق ھناك حیث الدفء والأمان، جلس زوجي إلى جانبي وقد أمسك یدي وقبلھا وھو یمسح جبیني بیدیه المبتلتین بینما كان جبینه یقطر عرقا، تخافتت الأصوات بعدما خنقت، استسلمت تلك الأجساد النائمة نوما أبدیا للنیران الجائعة التي سرعان ما حولت المجمع بمن فیه إلى حطام أسود قبل أن یتمكن رجال الإطفاء من الوصول إلیه.

تناقلت الأخبار الحدث المھول، عمل إرھابي! ثلاثمئة شھید أو یزیدون، جرحى ومصابون! تناثرت دموع الناس على أمواتھم، ضحایا كثر كان جرمھم الوحید حب العید وحب الحیاة…

لم نرجع إلى بیتنا بینما بقیت مائدة السحور بانتظارنا، ھناك في مطبخي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى