في مسيرة الشّيخ عدّون التّربويّة قواعد في بناء الفرد والـمجتمع

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

من العلماء الـمعلّمين الذين أدينُ لهم بالفضل الكبير في اكتساب مهارت وقواعد في العمل الرّصين لبناء الذّات وخدمة المجتمع. أستاذي وشيخي سعيد بن بالحاج شريفي (الشّيخ عدّون بن بالحاج) (توفّي يوم الأحد” 19 من رمضان 1425ه/ 02 من نوفمبر 2004م) رحمه الله الله.

كان لي شرف التّتلمذ عليه في معهد الحياة بالقرارة (ولاية غرداية، الجزائر)، ومنّ الله عليّ بنعمة الالتحاق بالمعهد نفسه  مدرّسًا معه.. كما جمعني به رحاب جمعيّة التّراث وإدارة معهد الحياة، وأسفارٌ واجتماعات عديدة في مناسبات كثيرة.. في هذه المحطّات استلهمت منه كثيرًا من الخلال والخصال والقيم، منها: التّضحيّة والإخلاص والصّدق والوفاء والتّواضع وحبّ الخير ومحبّة النّاس، خاصّة تلاميذه.. وصفه زملاؤه ورفقاؤه في الجهاد الإصلاحي بأنّه إخلاص يمشي على رجلين.

أسهم بشكل أساسي ورئيس في تأسيس معهد الشّباب (معهد الحياة)، هو منشئ جمعيّة الشّباب التّابعة لأنشطة طلبة معهد الحياة، كان المشرف على كتابات  طلبة معهد الشّباب وتوجيهها وتصحيحها، كان مدير معهد الحياة، ورئيس جمعيّة الحياة، ورئيس جمعيّة التّراث، ورئيس جمعيّة قدماء تلاميذ معهد الحياة، وشيخ حلقة عزّابة القرارة، ورئيس مجلس عمّي سعيد، موفتّش المدارس القرآنيّة لمنطقة وادي مزاب وما هو متّصل وتابع لها..

كان العضد الأيمن للإمام الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض – رحمه الله – في جهاده الإصلاحي والتّربوي والاجتماعي والوطني، كان له الفضل الكبير في تسجيل خطب الشّيخ بيّوض، (كان الشّيخ بيّوض يرتجل خطبه والشّيخ عدّون يدوّن ببراعة وبسرعة فائقة ما ينطق به الشّيخ الإمام). من هذه الخطب عرفنا كثيرًا من أعمال الحركة الإصلاحيّة في وادي مزاب، وكانت من مصادر أستاذنا المرحوم الشّيخ محمد علي الدّبوز في كتابة تاريخ الحركة الإصلاحيّة في وادي مزاب.. كان كثير المراسلة مع شخصيّات عديدة،، ورسائله هي وثائق  مهمّة في التّاريخ والإصلاح والاجتماع والتّربيّة والتّعليم.. يعدّ من الكتّاب المتميّزين في الصّحافة اليقظانيّة، عددتُ له حوالي مائة وخمسين مقالة (150) فيها.

مسيرة شيخنا عدّون مليئة بالأعمال الكبيرة، مضغوطة بالمسؤوليات العديدة، متنوّعة في أنشطتها، متعدّدة في علاقاتها مع الشّخصيّات والأحداث والوقائع والواقعات.. كلّ ذلك أعطى لها طابعًا خاصًّا، وسجّل لها ميزة مهمّة.. تتمثّل في أنّها مجال لأخذ قواعد العمل منها،  لـمن يسبر غورها، ويغوص إلى عمقها، ويطلب وينشد اللّآلئ منها، كما قال حافظ إبراهيم:

يَــغوصُ  الـبَحْرَ  مَنْ  طَلبَ  اللّآلي

 

فَــيــحْظَى   بِالسِّيادةِ   والــنّوالِ

أنا شخصيًّا تعلّمت من سيرة شيخنا ومسرته  كثيرًا من قواعد العمل التي تبني الحياة على أسس صحيحة، منها: الدّأب من دون كلل ولا ملل في العمل،  تنظيم الوقت بدقّة، الـمداومة على المطالعة والقراءة، الصّبر في ميدان النّشاط والحركة، والعمل من دون النّظر إلى النّتيجة، فالله هو الكفيل بها.. من منطلق: ” عليّ أن أعمل  وليس مطلوبًا منّي النّجاحُ”، أي يجب أن نغرس في نفوسنا حبّ العمل، ونتقدّم له من دون النّظر إلى العائقات ومسافة الطّريق الــموصلة إلى الهدف، وينبغي أن نعطي الثّقة في أنفسنا..؛ حتّى لا نقدّم بين يدي العمل أسباب العجز والكسل  والفشل وسوء التّدبير والتّقدير..

من هذه الأعمال والأنشطة تعلّمنا الكثير منه وهو معنا حيّ يرزق، وبعد ما فارقنا إلى ربّه راضيا مرضيا عنه بإذن الله، فكانت سيرته لنا نعم الـمعين للنّهل والاستسقاء، وأخذ ما ينفعنا في أعمالنا التّربويّة والاجتماعيّة والثّقافيّة..

 من أقواله الخالدة التي توّج بها حياته وتركها قاعدة توجيهيّة وإرشاديّة وتحسيسيّة بالواجب الذي هو في عنق كلّ فرد، وأمانة على كاهله.. بعد تجارب مع الجهاد والنّضال والمقارعة والنّزال مع هموم الحياة، وقضايا النّاس،      والدّأب في السّير بالمجتمع في طريق  التّطور والازدهار؛ باتّخاذ كلّ الأسباب في شقّ بحر الحياة المتلاطم والواسع وما تفرزه  المفاجآت من المستجدّات؛ لأنّ الحياة تسير بوتيرة سريعة، وتتغيّر في كلّ لحظة، كما  قال فيلسوف يوناني ” إنّك لن تستطيع أن تضع رجلك في النّهر مرّتين “؛ إشارة إلى أنّ ما يـمرّ من الزّمن لن يعود، وما تمارسه في لحظة لا تنتظره ممارسته مرّة أخرى، أي إنّ طبيعة العمل لا تتكرّر، فلابدّ من إيجاد منهجيّة أو سبيل أو طريقة لمقابلة ما تأتي به اللّحظة الآتية، من دون الرّكون كليّة إلى ممارسة ما كان في اللّحظة السّابقة. فالخطوة اللّاحقة  تتطلّب أسلوبًا مناسبًا للتّطوّر والتّجدّد اللّذين تتميّز  وتصطبغ بهما لحياة.

هذه المقولة التي نُقلتْ عن معلّمنا الشّيخ عدّون هي :” لقد وجدنا حلولا لزماننا فأوجدوا حلولاً لزمانكم”. مناسبة هذه  النّصيحة جاءت تعليقًا من أستاذ الشّباب ومشجّع المبادرات شيخنا عدّون بن بالحاج – رحمه الله – بعد عرض الدّكتور محمد بن موسى بابا عمّي مشروعه الجديد عليه، المتمثّل في إنشاء مدرسة علميّة في إطار التّعليم الخاصّ ، الذي يعتمد على جهود الأهالي، وينجز بطرق عصريّة متطوّرة متجدّدة، تراعي المتغيّرات في مجال التّكوين والإعداد والتّربيّة والبناء..

بعد أن انتهى محمد بابا عمّي من عرضه وشرحه.. انبسط معلّمنا الشّيخ عدّون لما سمع وشاهد، وانشرح قلبه.. فدعا بالخير لصاحب المشروع الحضاري الكبير، وشجّعه بقوله أو بما معناه: امضِ وسر فالله معك لقد وجدنا حلولا لزماننا فأوجدوا حللاً لزمانكم.. وكان ممّن شجّعه أيضًا في هذه  الـمبادرة الـرّائعة أستاذنا المرحوم  الشّيخ حمّو بن عمر فخّار.

كيف لا يفرح شيخُنا عدّون  لهذه المبادرة المباركة الكبيرة، وهو معدن التّطوير والتّجدبد، وهو صاحب المبادرات الكثيرة في الميدان، وهو يعمل ويتحرّك وينشط ويحمل لواء الإصلاح بشعار التّجديد؟ كيف لا يُسَرُّ وقد وجد من يخفّف عنه همًّا كبيرًا كان يؤرّقه: كيف يكون التّعليم في المستقبل؟  من يتحمّل مسؤولية  التّطوير فيه؛ بما يناسب أهداف المجتمع وما يتناسب مع المتغيّرات والمستجدّات، مع المحافظة على الإصالة؟ كيف لا يعجب والمبادرة تتكرّر أمامه بعد عقود من تجربته المباركة والشّجاعة والجريئة والرّصينة، التي أثمرت تأسيس معهد الشّباب (معهد الحياة)، الذي أدّى أدوارًا  مهمّة في تكوين الرّجال وتنوير المجتمع، ونشر الثّقافة الأصيلة.. وما يزال يقوم بهذه الأدوار..

 أنا أتصوّر أنّ معلّمنا الشّيخ عدّون كان يُحضِر أمامه هذا الماضي وجهوده المتواصلة الدّؤوبة.. حتّى ظفر بإقناع أستاذه الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض بتأسيس معهد الشّباب؛ ليستجيب لطموح الشّباب، ويلبّي رغبتهم في الحصول على مؤسّسة تقدّم تعليمًا عصريًّا: مضمونًا وشكلاً.. فوجد في مبادرة محمد بابا عمّي هذه الصّورة الرّائعة المناسبة لتطوير التّعليم  في الحاضر والإسهام في الإعداد القويّ لرجال المستقبل، والبناء الصّحيح  للفرد   والمجتمع، والتّكوين السّليم.. كما وجدها هو في بداية العقد الثّالث من القرن العشرين.. ومحمد بابا عمّي اقترحها في بداية القرن الواحد والعشرين..وفي سنوات قليلة قبل وفاة شيخه رحمه الله..

كيف لا يُسرُّ معلّمنا وقدوتنا الشّيخ عدّون لمشروع محمد بابا عمّي وهو الذي أفنى حياته في التّربيّة والتّعليم، بمختلف المسؤوليّات والأنماط والأدوار.. إذ رأى في مساره الكثير من المشاكل والعقبات والتّحدّيات..  التي تتطلّب عناصر وأدوات ووسائل.. تتجدّد بحسب الواقع المعيش، وبحسب ما تنشده الرّؤية المستقبليّة، التي توفّر قسطًا كبيرًا من التّواصل والمواصلة والاستمراريّة وقوّة التّحمّل لأعباء التّعليم: بشرًا وعقولا ومناهج ووسائل و..      فجاءت مبادرة المدرسة العلميّة لتفتح الآفاق لكلّ ذلك.

كيف لا يفرح معلّمنا لمبادرة تأسيس مدرسة خاصّة، وهو المعروف بمرافقة الشّباب في طموحهم ومساعدتهم على تنفيذ مشروعاتهم، والصّبر على تزايد طلباتهم في المشاركة في خدمة المجتمع وتطويره..ونشاطنا نحن طلبة  الجامعة في السّبعينيّات من القرن العشرين في القرارة مظهر من مظاهر هذا الاحتضان والتّشجيع والدّفع إلى العمل والمشاركة في الـمجتمع.

  هذا السّلوك من شيخنا هو نتاج ما يملكه من قلب شاب، أعانه على فهم حقيقة المبادرات، وإدراك موقع الشّباب في العمل الاجتماعي، وهو حصيلة معرفته أهميّة الأخذ بأيدي الشّباب: تشجيعًا وتربية وتوجيهًا وإعطاء الثّقة في إمكاناتهم، ومنحهم الفرص للاجتهاد وتقديم جهود.. يلخّص لنا شخصيّة معلّمنا الشّيخ عدون في هذا السّياق أو الإطار الأستاذ محمد الهادي الحسني بما كتبه مقالًا، نشره  في جريدة الشّروق، وهو يقدّمه للجمهور وقد بلغ مائة سنة من عمره (100) الشّيخ عدّون بلغ  العشرين خمس مرّات.

منهجه الذي كان يعتمد على التّجدّد والتّطوّر.. كان يستند  بل يؤمن أنّ الأيّام تمرّ والأحوال تتغيّر  والأوضاع تتبدّل، والأفكار تتجدّد، وحاجات النّاس تزداد، وعددهم يتكاثر وأسالبيب المعيشة تتطوّر… لذا يكون التّعديل ضرورة حياة..

إذا أردنا أن نوجز شخصيّة معلّمنا ومربّينا الشّيخ عدّون في نطاق فتح المجال للشّباب كي يبدع وللعامل كي يقدّم  ما يستطيع، نسجّلها في هذه القواعد المحكمة في العمل البنائي الذي يعتمده كلّ موجّه ومشرف ومكوّن، وهي مستقاة من مسيرة شيخنا في الميدان: 

1- التّطوّر والتّجدّد ضروريان وواجبان في الحياة؛ لضمان البقاء، والاستمرار في العطاء.

2- نجاح  الفرد في الحياة مرهون بالوفاء لعصره في مستجدّاته ومتغيّراته وأساليبه ووسائله..  مع المحافظة على المبادئ والأصول والثّوابت..

3- جاح المربّي والموجّه مرتبط بالمحبّة التي يسديها لمن يقوم على توجيههم، وباحتضان المواهب وتوجيه الطّاقات وتشجيع المبادرات..

4- في تعامل الشّيخ عدّون مع أبنائه وتلاميذه تتمثّل حقيقة الأبوّة الحانيّة والأستاذيّة الحميمة.

5- في سلوك الشّيخ عدّون نقرأ حقيقة الرّجل الذي يقدّر جهود العاملين، والأب الذي يرعى طموح الشّباب ، ويتفهّم أفكار النّاشئة،.. فقد كان ضدّ  كلّ ما يئد الطّموح، وكلّ ما يجهض المبادرات، ويقتل المواهب، ويقضي على الأمل..

هذه قواعد مهمّة نحتاجها في  التّعامل مع النّاشئة والشّباب في زمن تَغَيُّر الموازين وتقلّب الأحوال وتطوّر الحياة.

رحم الله شيخنا وتقبّل منه أعماله الصّالحة، ووفّقنا للبرّ به والإحسان إليه، والعمل بقواعد بناء الفرد والمجتمع التي تركها لنا..

                                         الجزائر يوم الثّلاثاء:  19   من   رمضان  1441ه

                                                                12  من    مايو     2020م               

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى