في ذكرى نجيب محفوظ .. زعبلاوي والبحث عن اليقين
أسامة عبد الكريم عبد الرازق | القاهرة
تحل هذه الأيام الذكرى الرابعة عشرة لرحيل عميد الرواية العربية نجيب محفوظ (1911-2006) الذي ولد وعاش بالقاهرة التي اتخذها مسرحا لرواياته وقصصه القصيرة حتي وصل إلي العالمية متمثلة في أهم جائزة ينالها أديب عن أعماله وهي جائزة نوبل. مرت روايات نجيب محفوظ بعدة مراحل بدأها بالمرحلة التاريخية وكان قد خطط لكتابة تاريخ مصر الفرعوني في شكل روائي ولكنه ما لبث أن توقف وبدأ شكلا جديدا للرواية وهو ما يسمي بالرواية الواقعية كما كتبها من قبل بلزاك وتشارلز ديكنز. وقدم في هذه المرحلة أشهر رواياته مثل زقاق المدق وخان الخليلي وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية وعندما خط آخر سطر من السكرية شعر محفوظ أنه قدم كل ما عنده من فن في هذا الشكل الروائي وتوقف عن الكتابة لمدة سبع سنوات كاملة قبل أن يعود إليها مرة أخري في شكل جديد يحمل الطابع الفلسفي والبحث عن هدف الحياة وطرح قضايا الوجود الإنساني وغاياته فكان بين أيدينا: اللص والكلاب والشحاذ والطريق والسمان والخريف وأولاد حارتنا وعشرات من القصص القصيرة منها قصة قصيرة تحمل عنوان “زعبلاوي” وهي موضوع مقال اليوم.
الراوي الذي لا نعرف له اسما محددا يبحث عن زعبلاوي، عرفه من أغنية كان يغنيها في طفولته مع ندمائه في الحارة، تقول كلماتها: “الدنيا مالها يا زعبلاوي ؟ شقلبوا حالها وخلوها ماوي.” وسأل أباه: من يكون زعبلاوي؟ فقال أبوه: ولي صادق من أولياء الله وشيال الهموم والمتاعب. تذكر الراوي ذلك عندما ألم به داء لا دواء له فذهب إلي صديق قديم لأبيه كان يعمل قاضيا شرعيا ويدعي الشيخ قمر كان يعيش في إحدي حارات القاهرة القديمة ولكنه الآن يعيش في جاردن سيتي وهناك وجد امرأة حسناء يفوح منها رائحة العطر تخرج من بيت الشيخ قمر ووجده هو نفسه يرتدي الملابس العصرية. عندما سأله الراوي عن زعبلاوي، قال له إنه بالكاد يذكره وأنه يعيش في ربع البرجاوي بالأزهر.
يذهب إلي المكان المنشود ويسأل العابرين وأصحاب المتاجر عن زعبلاوي ولدهشته كان هناك طائفة لم تسمع عنه من قبل قط، وطائفة أخري تتذكر الأيام الماضية الجميلة التي قضوها مع زعبلاوي، وقابل بعض الساخرين والمستهزئين بزعبلاوي وأتهموه بأنه نصاب. ونصحه قليلون بأن يذهب للطبيب بحثا عن دواء لدائه فقال لهم إنه فعل ذلك دون جدوي. وبعد أن يئس من البحث قرر الذهاب لشيخ الحارة ليسأله، فقال له شيخ الحارة إن زعبلاوي موجود بالفعل ولكن من الصعب العثور عليه فقد يدخل عليهم أثناء حديثهم وقد تمر الأيام والشهور ولا يظهر له أثر. ورسم له شيخ الحارة خريطة للمكان بأدق التفاصيل قد تساعده في الوصول لهدفه المنشود. طرق الراوي مجهول الاسم كل مكان وسأل كل شخص ونصحه البعض بالذهاب إلي شارع أم الغلام حيث يوجد محل الخطاط حسنين فقد يكون لديه علم بزعبلاوي، فذهب إلي هناك ولفت انتباهه وجود الكثير من اللوحات المخطوطة تتوسطها لوحة مكتوب عليها لفظ الجلالة، قال له الخطاط أنه من الصعب مقابلة زعبلاوي فهو ليس له ميعاد محدد للظهور فقد يظهر فجأة وقد ينقطع عن الظهور فجأة وذكر له أيضا فضل زعبلاوي عليه لأنه ألهمه أفكار الكثير من لوحاته. غادر الراوي وسأل مرة أخري فقيل له إن هناك ملحن موسيقي يعرف زعبلاوي فقابله ولكن لم يجد جديدا لدي الموسيقي وقال له هو الآخر أن زعبلاوي كان صديقا قديما له وأوحي له ببعض الألحان التي أبدعها في الماضي ولكنه نصحه بالذهاب لشخص يدعي ونس الدمنهوري يقضي معظم وقته في إحدي الحانات بفندق كبير فقد يجد لديه إجابة عن مكان زعبلاوي. عندما ذهب الراوي لونس الدمنهوري وهم بسؤاله عن زعبلاوي، قال له ونس: اجلس أولا واسكر ثانيا ثم نتحدث.
وعندما اعترض الراوي متعللا بأنه لا يشرب قال له: هذا شأنك وهذا شرطي. فجلس وشرب وبعد الكأس الثاني نسي سبب قدومه وبعد الكأس الرابع راح في سبات عميق ورأي في نومه أجمل حلم في حياته كان في مكان تظلله الأشجار وتملؤه موسيقي هادئة متناغمة وشعر بسلام وطمأنينة لم يشعر بها قط في حياته وعندما أفاق وجد شعره مبللا بالماء.
فسأل ونس الدمنهوري عن هذا الماء فقال له أن صديقه زعبلاوي جاء أثناء نومه وحاول إيقاظه وعندما لم يفلح سكب علي رأسه بعض الماء وذهب. فقال الراوي بهلع: زعبلاوي !! أين هو؟ ما جئت إلا لألقاه.
وخرج ينادي باسم زعبلاوي في كل مكان دون جدوي ولكنه شعر بالراحة فقد تأكد من وجود زعبلاوي. عاد الراوي في اليوم التالي ولكنه لم يجده وتنتهي القصة وهو ما زال يبحث عن زعبلاوي حيث ينهي نجيب محفوظ القصة بهذه العبارة: “ولكنني كنت أضيق أحيانا بطول الانتظار فيساورني اليأس وأحاول إقناع نفسي بصرف النظر نهائيا عن التفكير فيه.
كم من متعبين في هذه الحياة لايعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات فلم أعذب النفس به علي هذا النحو؟ ولكن ما إن تلح علٌي الآلام حتي أعود إلي التفكير فيه وأنا أتساءل، متي أفوز باللقاء ؟ ولم يثنني عن موقفي انقطاع أخبار ونس عني وما قيل عن سفره إلي الخارج للإقامة، فالحق أنني اقتنعت تماما بأن علي أن أجد زعبلاوي. نعم، عليَّ أن أجد زعبلاوي.”
في رواية الطريق لنجيب محفوظ يبحث سيد سيد الرحيمي عن أبيه ليحقق له السلام ولم يكن لديه أي معلومات عنه غير صورة قديمة أعطتها له أمه ليبدأ رحلة البحث عن المجهول أو المطلق. وفي قصة زعبلاوي يبدأ الراوي بحثه عنه عند أحد رجال الدين فهذا أول ما يخطر للباحث عن الحقيقة والمطلق. وكان هذا الرجل من أصدقاء والده ولكنه يجد لديه امرأة حسناء تفوح منها رائحة العطر ويلبس الأزياء الحديثة ويقول عن زعبلاوي أنه بالكاد يتذكره “كان هذا في الزمان الأول وما أكاد أذكره اليوم.” فلم يعد المطلق من اهتمامات رجل الدين ولن تجد عند إجابات عن الأسئلة الوجودية. وبعد يأسه من الدين ذهب إلي حي الأزهر العتيق ليقابل شيخ الحارة وعندما تعجب من أنه أيضا لا يعرف مكان زعبلاوي، قال له شيخ الحارة: حتي أنا لا أعرف مكانه. شئ يحير (العقل).
ولكن العقل / شيخ الحارة يقول له: “علي كل حال هو حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا علي غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثا عنه دون جدوى.” ولما لم يجد البحث عند الدين والعقل لجأ الراوي إلي الفن متمثلا في خطاط وموسيقي حيث ألهمهما زعبلاوي الكثير من فنهما وكان الفن هو من قربه خطوة عندما أرشده إلي ونس الدمنهوري الذي يعطي أبعادا صوفية من حيث رمزية الخمر عند الصوفيين.يبدأ هذا البعد الصوفي بمقابلة الشيخ جاد الموسيقي حين قال له: إن العذاب في البحث عن زعبلاوي هو نوع من العلاج. ثم يغني (أدر ذكر من أهوي ولو بملامي، فإن أحاديث الحبيب مدامي) ثم يستمر بمشهد الحانة. لم يتحقق اللقاء بزعبلاوي وانتهت القصة كما بدأت ولكن التغير الوحيد الذي حدث للراوي أنه أصبح أكثر يقينا بوجود زعبلاوي ولكن اللقاء لم يتحقق كما أراد له، فهل يواصل البحث عن زعبلاوي لينقذه من آلامه النفسية والروحية أم يكف عن البحث ؟