كور عمامة التلال (2)

بقلم وعدسة: زياد جيوسي | فلسطين

     رغم الفترة الزمنية التي مرت على جولتي في بلدة كور الا انها لم تخبُ بتفاصيلها وتراثها وقصورها التي تشكو من الوحدة والشيخوخة من الروح والذاكرة، ولعل انشغالي بمقالاتي التي نشرت عن بلدة سلواد لبؤة الجبال وانشغالي بكتاب جديد سأحيله للنشر أخر قليلا بوح الذاكرة والأمكنة عن كور، لكنها بقيت وكما كانت منذ الطفولة رغبة لم تفارقني ابدا حتى تحققت، فالتجوال في ربوع الوطن والتوثيق بالكلمة والمقال والعدسة رسالة امارسها بجهد شخصي منذ ستة عشر عاما، يرافقني فيها بعض ممن يسكنهم الوطن كمرافقين للجولات حينا ومضيفين ومرشدين دوما، فواصلت جولتي في بلدة كور مع صديقي ومرافق جولتي صديقي الأستاذ سامح سمحة ومضيفنا الرائع الأستاذ فريد عصمت الجيوسي، فخرجنا الى خارج قصر الشيخ يوسف واكد والذي تحدثت عن تفاصيله وذاكرته التاريخية وهموم الوحدة والاهمال الحالية في الحلقة الأولى، لنواجه زاوية القصر التي تهدمت وقد تم بناء جدار استنادي حولها وبعض الشباك المعدنية فوقها وبجوارها من قبل برنامج الأمم المتحدة الانمائي وبتمويل من البنك الألماني الإنمائي/ جمهورية ألمانيا الإتحادية، لنتجه بعدها لمشاهدة القصر من المنطقة الخلفية حيث امتداد على طول مائة متر، وفي اسفل الواجهة الخلفية توجد أربعة بوابات منها ثلاثة مستطيلة الشكل وأعلاها سقف حجري على عرضها من قطعة واحدة، وبوابة قوسية الأعلى على النمط التقليدي للبناء وست فتحات صغيرة كطاقات ربما كانت تستخدم للدفاع عن القصر على ارتفاع الطابق الأول إضافة للتهوية، بينما النوافذ فقط في الطابق الثاني وهذه البوابات في اسفل الجدار متصلة بساحة القصر، ويظهر أنها كانت مبنية من ناحية أمنية تسمح بمغادرة القصر حين حصول أي طارئ على البوابة الأمامية، وظهر القصر مطل على مساحة من الأرض بها شجرة واحدة ومحاطة بالردم ويظهر ان هناك من يستغلها لزراعة بسيطة، ولكن يمكن استغلال هذه المساحة لحديقة جميلة لو وجدت جهات تشرف على هذه القصور وهذا القصر وترميمه.

   كور بلدة ضاربة بالقدم ولا يعود تاريخها فقط الى تأسيس مشيخة الجيوسي وتحولها لمركز قيادة مشرف على قرى الصعبيات ومركز لملتزمي الضرائب لصالح الدولة العثمانية، فهذه المنطقة والتي يسميها البعض “محور الصعبيات” والبعض يطلق عليها إسم “محور الكفريات” لوجود مجموعة من البلدات التي تعود للفترة الكنعانية قبل الآف الأعوام ويبدأ اسمها بكلمة “كَفر” بفتح الكاف وليس الضم وهي كلمة آرامية كنعانية تعني القرية، ومنها كَـفر عبوش وكَفر جمال وكَفر زيباد وكَفر صور، اضافة لوجود آثار رومانية وبيزنطية في كور والبلدات المحيطة من طولكرم حتى عزون، ومن هنا دار أكثر من حديث عن أصل تسمية كور بهذا الاسم، ومعظم من تحدثوا عن ذلك أشاروا الى المعنى العام والمنتشر (كور الحداد) وهو آلة النفخ التي يستخدمها الحدادون بصناعة الأدوات المعدنية، حيث أشار أكثر من شخص أن كور اشتهرت بصناعة السيوف والأسلحة المعدنية.

   لكن موقع كور على ارتفاع حوالي 400م عن سطح البحر وموقعها المتميز اعطاها ميزة الظهور من مسافات بعيدة، فحين صعدت إلى سطح قباب قصر الشيخ عبد الله الابن الأكبر للشيخ يوسف الواكد رأيت كم أن بلدة كور بموقع مطل وكاشف للمناطق المحيطة حتى البحر المتوسط، وكونها كانت مسكونة قبل المشيخة من عشيرتين رحلتا عنها بعد تأسيس المشيخة، وكون بيوتها من الحجر الأبيض وهو لون حجارة المنطقة، ولعدم وجود أي مصدر تاريخي موثوق لتسمية كور نسبة لآلة النفخ لدى الحدادين، إضافة أن مهنة الحدادة كانت منتشرة في فلسطين وليس في كور وحدها إن وجدت بها، فلا يمكن منح هذه الاسم بتقديري الشخصي فقط لكور، وكون كلمة كور في المعاجم العربية القديمة مثل لسان العرب والقاموس المحيط وغيرها من المعاجم العربية تعني الكثير من المعاني، نجد أن المعنى الأقرب هو من “شد العمامة على الرأس” فكور ستظهر للرائي من المسافات البعيدة كما عمامة بيضاء مشدودة على الرأس فهي مشاهدة لكل البلدات المحيطة وتميزت بحجارة البناء البيضاء قبل المشيخة وبعدها حين بنيت القصور الضخمة، وورد في لسان العرب أن هذا الاسم”العمامة” ورد كصفة في حديث للرسول عليه السلام، ووردت بنفس المعنى بالقرآن الكريم في سورة التكوير “وإذا الشمس كورت” أي جمعت جمعا.

   من قصر الشيخ يوسف الكايد اتجهنا الى جواره الى قصر الشيخ محـمد من أبناء الشيخ يوسف الواكد، وهذا القصر أطللت عليه من سطح الطابق الأول لقصر الشيخ يوسف واكد، وهالني وأنا أنظر اليه أن يصبح خرابة ومعظمه آيل للسقوط، فاتجهنا اليه ودخلت للساحة الخربة بين ما تبقى من جدران وأنا اشعر بكم هائل من الألم يجتاحني، فهل يترك هذا التاريخ وتترك هذه المباني التراثية الضخمة والمتميزة شكلا وتاريخا وموضوعا لعاديات الزمان وعوامل أخرى لعبت دورها بهذا الحجم الكبير من التلف والخراب؟

  قصر الشيخ محـمد كما كل قصور كور التاريخية مكون من ساحة بها ابار الماء والقصر يلتف من حول الساحة مع بوابة كبيرة وضخمة وجدار يحجب الساحة والدور الأول من القصر، لكن البوابة والجدار أصبحا أثرا بعد عين، ولم يتبق الا المبنى على يمين القصر ويظهر انه استمر فترة من الزمان حيث جرى اغلاق واجهته المكونة من قوس كبير وفتح بوابة عادية فيه للدخول، وأعتقد أنه هجر بعدها فلا أثر يشير للحياة فيه والنباتات التي تلعب دورها في تخريب هذه المباني التاريخية تنمو بين حجارة القصر وعلى سقفه وقبابه، وتم بناء بيت صغير عادي بجواره مع بعض أشجار الزيتون بجوار ساحة القصر، وعلى يسار المبنى الذي أشرت اليه ساحة القصر وهي تعاني من الخراب والحجارة المتساقطة وتنمو بها النباتات البرية بكثافة اضافة لوجود الكثير من الأشياء المرمية بساحاته مما يزيد من كآبة المشهد ويثير الحزن والألم في الروح، والقصر كما نمط قصور كور يتكون من العديد من الأقواس الحجرية المرتفعة ويتم الدخول لساحة صغيرة تحت القوس حيث اماكن السكن والاستخدام ببوابات قوسية صغيرة، تدخل الى طابقين والأول له بوابة قوسية كبيرة ومنه يتم الصعود للقسم العلوي حيث المنامة ونافذة تطل على الخلف من ارتفاع يسمح بالتهوية ولا يسمح لأحد برؤية ما بالداخل، والملاحظ أن قصور كور والتي كان يضمها سور يحيط بها جميعا، متباعدة بمسافات عن بعضها بسبب الطبيعة المحافظة جدا لأهل كور وتشددهم بالمحافظة في العلاقات الإجتماعية وفيما يتعلق بالمرأة.

   وما بين قوسين من أقواس القصر الضخمة والمرتفعة كان هناك قسم جار عليه الزمان أيضا وواضح ان قوسه جرى اغلاقه وفتح مكانه نافذة مستطيلة وباب مستطيل، وأعلى المبنى قد تساقطت حجارته، وعلى أعلى بعض البوابات وحول بعض النوافذ ما زالت بقايا النقوش والزخرفيات الحجرية المتميزة والرموز التي تشير لمكانة صاحب القصر موجودة، تحيطها أطر منقوشة من الحجر بشكل جميل، لكنها بدأت بالتساقط والضياع بكل ما تحمله من تراث جميل ومتميز، وجميع أنحاء القصر بنيت على نظام العقود المتصالبة والأحواش المتجاورة داخل القصر، حتى تسمح للخصوصية لسكان القصر أن تكون موجودة وكذلك طبيعة الاستخدامات المختلفة.

 وكان الدخول لهذه الأمكنة مغامرة مع وضعها المؤلم والمؤسف واحتمالية سقوط بعض من حجارتها مع الحالة المزرية التي وصلت اليها، لكن كان لا بد أن أوثق بعضها بعدستي من الداخل فقد اعتدت المغامرة في جولاتي في ربوع الوطن والأمكنة التراثية التي في غالبيتها تعرضت للاهمال وما زالت في العديد من البلدات مهملة إلا من رحم ربي من بعض قرى الكراسي التي جرى ترميمها، مثل قلعة كفر اللبد التي جرى ترميمها وأصبحت قبلة سياحية بعد أن زرتها ووثقتها وكتبت ونشرت عنها حين كانت في حالة خراب كبير، ومثل قصر عبد الهادي في عرابة جنين وقصور وبيوتات دير استيا وقلعة سمحان في محافظة رام الله والبيرة، فألا تستحق كور ذات التراث العريق والقصور التي لم تشهدها قرى الكراسي الأخرى الترميم والاهتمام من الجهات المختصة، وخاصة وقف الكسارات والمقالع الحجرية التي لا تكف عن تفجر الألغام فتهتز لها بيوت وقصور كور والتي سأتحدث عنها لاحقا بالتفصيل، وأن تتحول الوعود الهوائية بالترميم والمشاريع إلى واقع ملموس على الأرض يعيد لكور ألقها كونها بعض مهم من ذاكرة الوطن، وترميمها سيجعلها قبلة للزوار والسائحين.

   في جيوس بلدتي وفي وكني الجميل وأمام حديقتي وشجرات التين والبرتقال والليمون أجلس على الشرفة في هذا الصباح قبل أن تشتد درجات الحرارة، أحتسي قهوتي واتمتع بنسمات عابرة وأستعيد ذكرى زيارتي لبلدة كور وما سيكون من حديث في الحلقة الثالثة، وأستمع لشدو فيروز: “على باب منوقف تنودع الأحباب نغمرهن وتولع ايدينا بالعذاب، وبواب بواب شي غرب شي صحاب، شي مسكر وناطر تيرجعوا الغياب، آه البواب.. في باب غرقان بريحة الياسمين، في باب مشتاق في باب حزين، في باب مهجور أهلو منسيين، هالأرض كلها بيوت، يا رب خليها مزيني ببواب و لا يحزن و لا بيت ولا يتسكر باب”.

   فأهمس: صباحكم أجمل، صباح حلم آمل أن يتحقق في كور، صباح أجمل يا وطن..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى