المقاهي الشعبية بين الثقافة والتفاهة !
د. أحمد الطبّاخ
استطاع العقل الإبداعي المصري في الأيام الخوالي أن يبدع ويفسح لنفسه مجالا للتباري والتنافس والإبداع والإشعاع حيث جمعت المقاهي صفوة المجتمع الذين كانوا يتجمعون لمناقشة الأوضاع الراهنة والقضايا الثقافية ولم يكن الأمر كما هو الحال اليوم حيث يجلس عليها اليوم العاطلون والسطحيون والذين يلعبون ويضحكون ويتبادلون النرجيلة وقضاء فراغهم دون هدف يبتغونه وإنما يقضون وقتهم في تفاهة وسفاسف الأمور ولم يكن من يجلسون على المقاهي في تلك العهود ممن يحملون أعلى الشهادات وإنما الثقافة تجمعهم وهموم الأمة تهمهم والإبداع يتمحورون حوله فهذا شاعر أصيل وذلك ناقد عتيق وذلكم أديب أريب .
وإذا أنت دققت في أماكن وأسماء تلك المقاهي وجدت العجب العجاب فعليها يجلس الساسة وأرباب الصحافة وعشاق الأدب وكبارهم من أصحاب الأسماء اللامعة الذين لهم باع وذراع وعقول مبدعة ومواهب متعددة يتجاذبون أطراف الحديث ويخوضون أحاديث الأدب والثقافة وكأنهم في جامعة يتسابقون في البحث والتأصيل ويطرحون قضايا المجتمع بشفافية مما أسهم في حركة الثقافة وكان له دور لا يمكن إنكاره في ازدهار الحركة الثقافية وكان في كل محافظة مقهى ثقافي يجمع مثقفي الإقليم والأدباء والشعراء وكأنه سوق عكاظ ومجمع الأدباء وملتقى النقاد فقد كان في دمنهور مقهى يعتبر من معالم عاصمة البحيرة دمنهور ولكنه أصبح في ذمة التاريخ [ مقهي المسيري ] بشارع الأميرة فوقية ( حاليا شارع 23 يوليو )
أسسها الأديب القهوجي / عبد المعطي المسيري في بداية ثلاثينيات القرن الماضي حيث انتقل بها من مجرد مقهي لإحتساء الشاي والقهوة إلي واحدة من أهم مصادر الاشعاع الثقافي والأدبي بالندوات واللقاءات الأدبية التي كانت تُعقد بين جنباتها وتنافس في شهرتها المقاهي الكبيرة في القاهرة والأسكندرية والتي كانت ملتقي لأعلام الأدب والصحافة والسياسة والفن .
كما كانت شاهدة علي كافة الأحداث السياسية ومجرياتها في دمنهور خلال حقبة الثلاثينيات وحتي ستينيات القرن الماضي كما لعبت دورا هاما في الحركة الوطنية ضد الإحتلال البريطاني لمصر وكانت مقرا لجمع التبرعات لمساعدة الجيش المصري أثناء حرب فلسطين الأولي سنة 1948ومنها خرجت المظاهرات ضد الإحتلال البريطاني سنة 1951 وخاصة بعد إلغاء معاهدة سنة 1936 .
والعديد من عمالقة الأدب والشعر والصحافة ورواد القصة فقد زاروها وجلسوا بين جنباتها وإستلهموا من شخصياتها وروادها بعض شخصيات و أفكار قصصهم ورواياتهم وعلي سبيل الذكر فقد زارها الشعراء أحمد محرم شاعر دمنهور صاحب الإلياذة الإسلامية والدواوين الشعرية التي جعلته من كبار شعراء العربية بذلك الشعر الاجتماعي والسياسي والديني وكذلك علي الجارم الذي تخرج من كلية دار العلوم وغيرهم من الأدباء مثل يحيي حقي وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وزكي مبارك ونجيب محفوظ ومحمود أمين العالم وأمين يوسف غراب و محمد عبد الحليم عبدالله وحافظ محمود مؤسس جمعية القلم الأدبية ومؤسس نقابة الصحفيين وإسماعيل الحبروك وخيري شلبي ورجب البنا وياسين الفيل ومحسن الخياط ويوسف القعيد . كما كان من روادها الأستاذ عمر كامل الوكيل والزجال حمدي سالم النعناعي والقمص بولس بولس مؤسس وراعي كنيسة مار جرجس بدمنهور والأستاذ حسن الحناوي والزجال حامد الأطمس والموسوعي / عبد الوهاب المسيري كما زارها الرئيس الراحل / أنور السادات سنة 1957 ، كما شهدت المقهي تأسيس جمعية أدباء دمنهور سنة 1957.
إن الأمر يحتاج إلى دراسة مستفيضة عن تلك الظاهرة العبقرية الإبداعية التي ألهمت وأطلقت العنان لهذا الجيل المبدع الذي لم يأل جهدا في الارتقاء بالحركة الثقافية في تلك الحقبة الفارقة بهؤلاء الأدباء والنقاد العظام على خلاف الوضع اليوم حيث صارت المقاهي بؤرة فساد وانفلات أخلاقي وضياع أوقات من جيل من التافهين الذين أسهم التعليم في تفريغ عقولهم وتغييب وعيهم وتسطيحهم بل تدميرهم حتى تموت الحركة الثقافية ويتم وأدها وليذهب الأدب والشعر إلى الجحيم ويحيا تلك الأجيال من التافهين الذين لا يعرفون عن الثقافة والسياسة إلا حمو بيكا وغيره من أصحاب التفاهة والجهل المستفحل الذي صار له رجاله وإعلامه ومهرجاناته من أصحاب الأموال