مقال

تحت مظلة الأمير

خالد رمضان| كاتب مصري

       كم من كريم عظيم باتت رفاته تحت حبات الثرى، أخنى عليها الدهر، وجثمت عليها الأعوام الطوال، وذكره حي باق بين الورى، تداعب أنفاسه نسمات صبح صافية هبّت على أوراق الشجر الندية، تهفو بين أغصانها، تلامس أزهارها، تتمايل بين خمائلها وسيقانها، لا تقوى على رصدها العيون، ولا تحيطها أذهان أو عقول، وكأنها النسور المحلقة إلى عنان السماء، تملك الكون بأجنحتها القوية، لاصيّاد فيأسرها، ولا قناص فيكسرها، بل تظل هائمة تحت مظلة السماء؛ مكانها الرقي والارتقاء.
من هؤلاء النبغاء الأفذاذ العظماء أمير الشعر والشعراء أحمد بك شوقي، ذلك الرجل الذي ناداه الشعر فلبّى نداه، فتجاوبت مع أصدائه الحوت في القاع والنوق في الفلاة، فكانت الكلمات على شفاه بلسما عذبا، حلو مبتغاه.
يجيب الشعر والشعر يجيبه، ويذيب القلب، والقلب أسيره.
ذلك هو الأمير وحُقت له الإمارة والسفارة والولاية؛ فقد جابت كلماته الٱفاق، فعزف على قلوبنا أروع الألحان، ورسم ببيانه على صفحات مشاعرنا أجمل ما يبدعه فنان.
من أين هبط علينا هذا الرجل بكل ما يحمله من إبداع خلاب، وتصوير جذاب؟
أقذفته علينا ملائك السماء؟
أم أهدته لنا قرائح البلقاء؟
لقد شهد حي الحنفي بالقاهرة ميلاد ذلك العبقري الملهم، لأب كردي، وأم تركية؛ ليجمع بين أضلعه شتى الثقافات بمختلف اللغات على تفنن الحاجات، فتفتق لسانه بالعربية والتركية والفرنسية ليقبس من نور اللغات الثلاث، وينهل من معينها جميعا.
أتى لنا من بلاد الشانزليزيه بفن شعري لم يعرفه العرب – رغم اختضانهم للغة منذ نشأتها – وهو فن الشعر المسرحي، فقال وأطال وأبدع ودافع عن شخصيات مصرية عريقة مثل علي بك الكبير، والملكة كليوباترا، حتى أظهرهم في صور الأبطال المحبين لبلادهم وشعوبهم في صورة نبيلة جميلة.
كان الأمير طوفانا من البيان والخيال قلما أن تجد له نظيرا، ولكن لا كمال إلا لرب العالمين؛ فقد كان شوقي يكتب الشعر ولا يلقيه؛ وذلك لفرط حيائه عند مواجهة الجمهور.
انفجرت قريحة الرجل بقصائد عاشت بيننا عيشة الأحياء نحدثها وتحدثنا وكأنها تعبر عن مكنونات صدورنا، وسرائر أنفسنا محملة بفيض من المشاعر التي تأبى الفناء أو الانتهاء، ولا تعرف إلا الدوام والبقاء.
ورغم حداثة شوقي ومدنيته وحياته الراقية الرغدة التي عاشها بين القصور الفارهة، وما أقله من سيارات وطائرات، وما أظله من عروش مزدانة، وجدران مرسومة، وأواني فاخرة مذهبة لامعة، إلا أن لسانه انسال ببلاغة القدماء، وفصاحة العرب النجباء، وكأنه كان يعيش بين ظهرانيهم، أو انشقت عنه الأرض فخرج إلينا من سوق عكاظ، أو انفلت من أصحاب المعلقات الجاهليين.
ورغم كل ذلك لم ينسل شوقي عن عصره، ولم يتبرأ من تلك الحداثة المفرطة فصور في أشعاره الطائرات والسفن والبوارج، فقال في وصف الطائرة:
أعقاب في سماء الجو لاح
أم سحاب فر من هوج الرياح
وحين تحدث عن الوطن وهو في منفاه تحدث عنه بحرقة القلب الملتهب فقال:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
فصارت كلماته هذه علامة خالدة على حب الأوطان وتغلغلها في سويداء القلوب.
وحين هام وجدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضت قريحته بقصائد لم يسبقه إليها أحد سوى شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم كأمثال كعب بن زهير بن أبي سلمى، وحسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، ومن تلك القصائد همزيته التي يقول فيها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
بدا محياك الذي نسماته
حق وغرته هدى وحياء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
فجميع عهدك ذمة ووفاء
فما أروعها من كلمات خالدة باقية أبد الٱباد. ولم يكتف الأمير بهذه الأبيات، وإنما فاض وأفاض مما أفاض الله تعالى به عليه فأنشد ميميته التي عارض بها الإمام البوصيري، ومعنى المعارضة أن ينشد شاعر قصيدة على وزن قصيدة أخرى، وفي نفس الموضوع، ولكن مع اختلاف كلماتها، فقال:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
وهو هنا نهج نهج القدامى في مطلع القصيدة ببداية غزلية، ثم أكمل فقال:
سرت بشائر بالهادي وموكبه في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
أتيت والناس فوضى لا تلم بهم
إلا على صنم قد هام في صنم
إلى أن ختمها بقوله:
يارب أحسنت بدء النبيين به
فتتم الفضل وامنح حسن مختتم
ومن عجيب الأمر أن شوقي كان يرجو من وراء قصائده هذه شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك قوله:
لي في مديحك يا رسول عرائس
تيمن فيك وشاقهن جلاء
هن الحسان فإن قبلت تكرما
فمهورهن شفاعة حسناء
وحقا جاءه يوما وهو في مرض موته خادمه يخبره بأن شيخ الجامع الأزهر هنا يريد زيارته، فتماسك الرجل وقام من سريره حتى ٱتاه، فهرول إليه الشيخ وقال:
لم قمت من فراشك أيها الأمير؟
فقال شوقي:
العلماء يؤتى إليهم.
فأخبره الشيخ بالبشرى وهي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، وأنه حمله رسالة بأن يذهب لشوقي ويخبره بأن رسول الله يبشره بالجنة.
ومن ساعتها والشيخ محمد متولي الشعراوي كان إذا ذكر شوقي لا يقول رحمه الله، وإنما كان يقول: رضي الله عنه.
رحم الله أمير الشعراء الذي حزن على موت حافظ قبله أشد الحزن، وحينما سألوه:
لم كل هذا الحزن؟
قال:
كنت أحب أن أموت قبله كي يوجد من يرثيني أحر الرثاء، ولكن أنا الٱن لا أجد مثل حافظ.
ثم رثاه بقصيدة جميلة يقول فيها:
يا حافظ الفصحى وحارث مجدها
وإمام من نجلت من البلغاء.
رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي بك فقلما أن يجود الزمان بمثله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى