أدب

قراءة نقدية في رواية (عيد ميلاد مي) للأديب المصري أحمد طايل

أ.د. وسام علي الخالدي | العراق
رواية “عيد ميلاد ميت” لأحمد طايل ليست مجرد عمل سردي عابر، بل هي نسيج متين من الحكايات والمشاعر، كتبت بنَفَسٍ حنون وحنين جارح. إن هذا النص لا يُقرأ بعينٍ ناقدة فحسب، بل يُتلَقّى بالقلب، يُشرب كما يُشربُ الماء العذب في نهارات الحنين، وتُشمّ رائحته كما تُشمّ أرض الدلتا بعد المطر.
العنوان ذاته يحملُ رعشة الغرابة وسحر التضاد، فهو تركيبٌ صادم تتجاور فيه الحياة والموت، احتفال يتقاطع مع الغياب، ميلاد يمتزج بالفقد، مما يهيّئ القارئ لعبور عوالم مليئة بالمفارقات الوجودية، حيث الأموات أحياء، والأحياء موتى بلا أثر. هذا التوتر بين الثنائيات يسري في كل مفاصل الرواية، يجعلها ليست فقط تأريخًا لأحداث، بل تأملاً عميقًا في جوهر الإنسان ومعنى بقائه.
إن الكاتب أحمد طايل لا يسرد فقط، بل يعيد تشكيل ملامح الحياة المصرية ببصيرة نافذة، لا سيما في تجليات الريف، ذلك المكان الذي لا يقدمه كمجرد فضاء جغرافي، بل كمخزن دلالي ومَعين للذاكرة الجمعية، حيث الأزقة ليست ممرات، بل قصائد مكتوبة على التراب، وحيث الفلاحون ليسوا شخوصًا هامشية بل أنبياء قيم في زمن اغتراب. كل شخصية في الرواية تحمل جذورًا ضاربة في الأرض، كأنها خرجت من رحمها لا من خيال الكاتب، تنطق بما بقي من حكمة الجدات، وترتجف أمام ما يحمله الزمن الجديد من رياح التحول والانكسار.
وفي نسيج اللغة، يمارس الكاتب رهافةً فنية قلّ نظيرها، تتقاطع فيها بساطة التعبير مع عمقه، ويمنح فيها كل جملة رواءً خاصًا، يجعلها قادرة على اختزان المعنى والذاكرة معًا. اللغة هنا ليست مجرد أداة نقل، بل شريكة في التكوين، تمضي كنبض القرية وجرس المساجد وصرير النوافذ في ليالي الشتاء. ليست لغة شعرية مفتعلة، بل هي شعر الحياة حين يُصفّى من شوائب الزيف.
إن الرواية تقودنا في تيهٍ زمني، يتشابك فيه الماضي بالحاضر، والأمل بالحسرة. ننتقل من سكينة الفجر في قرية مصرية بسيطة إلى صقيع المدن الباردة، ومن دفء اللمسة إلى رعشة الفقد، ومن حكايات الجدود إلى نكبات التحولات السياسية التي اجتاحت الروح المصرية، خصوصًا بعد 2011، حيث يسجل الكاتب بأناة وحساسية تبدل القيم، وتفتت النسيج الاجتماعي، وانكماش الإنسان أمام عواصف العصر.
لكن طايل، بذكائه البالغ، لا ينزلق إلى خطاب النواح، بل يمنح شخصياته فسحة للحياة والمقاومة والتشبث بجذورهم. فثمة وصايا تتناقلها الأجيال، وقيَم تورّث كما يُورّث الفدان والساقية، وهناك دائمًا جدٌّ أو أبٌ أو شيخ حكيم يقف كجدار صد في وجه موجات العدم.

إن الشخصيات ليست مفصولة عن المكان أو الزمان، بل منسوجة منهما. فمحروس ومحفوظ ومحمد العيسوي ليسوا أبطالًا بالمفهوم الكلاسيكي، بل مرايا للروح الجمعية، يحملون في عروقهم ذاكرة الوطن، وتعب الحياة، ولذة الانتماء. هم ليسوا مثاليين، لكنهم يحملون بذرة الخير التي تصارع التآكل، وقدرتهم على البقاء ليست إلا قدرتنا نحن على الاحتفاظ بالإنسان فينا وسط الطوفان.
وفي قلب هذا السرد، يقف الموت لا كخاتمة، بل كبداية للتأمل. فـ”عيد ميلاد ميت” ليس رثاءً، بل محاولة لاختراع المعنى من رماد الغياب. والرواية برمتها تبدو وكأنها وقفة طويلة أمام المرآة، لنرى وجوهنا الحقيقية، تلك التي نكاد ننساها وسط صخب الحداثة وتيه العولمة.
إن الرواية في جوهرها وثيقة محبة للأرض، للإنسان البسيط، للذاكرة الشعبية، للمروءة الصامتة، وللزمن الذي لن يعود. وبهذا، فهي ليست مجرد نص أدبي، بل نشيد طويل في حب الحياة، بكل ألمها ودهشتها، بكل ضحكتها المكتومة، ودمعتها الساكنة.
وبين ثنايا هذا النشيد، تسري حسرة خفية، ونداء داخلي لمن تبقى لديهم شيء من الحنين، كأن الكاتب يريد أن يقول لنا: “توقفوا لحظة، تذكّروا من كنتم، وكيف كنتم، وكيف صار العيد في غياب من نحبّ، كيف يموت العيد حين يموت من يضيئه في القلب”. فالعنوان ليس مجازًا لغويًا بقدر ما هو توصيف وجودي لحالة الفقد التي تطال المعنى نفسه، حين يغيب الأحبة وتتآكل القيم، حين يُطفأ النور في عيون من كنا نظنهم خالدين.
وتتجلّى براعة الكاتب في أنه لم يجعل من الحزن نهرًا يغرقنا، بل مسارًا نبحر فيه نحو الذات. لم يكتب من أجل أن يُبكينا فقط، بل من أجل أن يُربّت على أرواحنا ويهمس في أعماقنا أن في كل موت ميلادًا، وفي كل وداع نبتةً للبقاء، وفي كل انكسار فرصة جديدة لإعادة البناء، ولو من رماد.
“عيد ميلاد ميت” ليست رواية شخصيات فقط، بل رواية مشاعر ومصائر. كل حدث فيها مشبعٌ بالرمز، وكل حوار معجون بالحكمة. لا شيء يُقال عبثًا، ولا شيء يُترك للصدفة. السرد هنا أشبه بمحراث يخترق تربة الوجدان، يبعثر فيها الحصى، ويهيّئها لغرسٍ جديد. ليس النص صرخة فقط، بل صلاة أيضاً، فيها الحنين، وفيها الرجاء، وفيها يقين بسيط بأن الحبّ وحده يخلّد الإنسان، لا السلطة، ولا المال، ولا الألقاب.
وهكذا، يخرج القارئ من الرواية كما لو أنه عبر رحلة في الزمن والضمير، يشعر أنه عاد إلى قريته الأولى، أو زار بيت جدته، أو استمع لحكاية قديمة كان يخشاها وينتظرها في آن. الرواية توقظ ما خدرته الأيام، وتذكّرنا بأن الإنسان لا يكون كاملاً إلا إذا حمل ذاكرته معه، وأن أعيادنا الحقيقية لا تقاس بعدد الحضور، بل بما يبقى من أثر الغائبين.
إن أحمد طايل، في هذه الرواية، لا يكتب قصةً فحسب، بل يكتب سيرة وطن صغير بحجم قرية، وعظيم بحجم مصر، سيرة روحٍ تُقاوم، وترفض أن تموت، ولو في عيد ميلادها الأخير.
وهكذا، وجدتني أمام روايةٍ لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُحسّ مرارًا، وتُستعاد كأنها ذكرى عزيزة، رواية تنبض بالحياة في حضرة الموت، وتبثّ الدفء في عروق اللغة والحكاية. أحمد طايل لم يكتب “عيد ميلاد ميت” ليمضي، بل ليبقى، كقطرة ندى على خدّ الزمن.
تحية للكاتب الذي عرف كيف يُعيدنا إلى أنفسنا، وكيف يجعل من الحكاية مرآة ومن السرد صلاة، ومن الشخصيات جذورًا تشدّنا نحو الأرض كلما مالت أرواحنا إلى الضياع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى