أدب

رؤية نقدية لنص خلدون عماد رحمة بعنوان: الحرب هشّمت ماء المرآة

بقلم: عماد خالد رحمة| برلين

      إنّ نصّ خلدون عماد رحمة الذي بين أيدينا ليس مجرّد كتابة عابرة تُلقى في مجرى القول لتجرفها سيول النسيان، بل هو نسيج لغويّ مأهولٌ بالوجع الجمالي، مشغولٌ بصنعةٍ شعريةٍ ترتقي إلى مصاف الكشف والرؤيا، لا لمجرد البوح أو التوصيف. وهنا نلمح شيئاً من روح التراجيديا الحديثة، حيث تتناسل الخسارات من رحم الحلم، ويتحوّل الأمل إلى هيئة شبحية لا يمكن الإمساك بها إلا من خلال مجازات دامية.


هذا نص الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة:(الحربُ هشّمتْ ماء المرآةِ: تقَعّرَ المحدّبُ وتحدّبَ المُقعّرُ ، انفصلت الظلال عن ملامحها والرؤوس عن أفكارها، واستحالَ الشكلُ إلى شظايا أشكالٍ من شراراتٍ وعتماتٍ وتيه.رأيتُ دم أحلامي مُراقاً، دافقاً بين شقوق الخراب، يتفجّرُ كبروقٍ مدوّيةٍ في بطونِ السماء .
أليسَ للأحلامِ دمٌ ؟
بلى ..
أنا أسبح في دم أحلامي .

ليس للأحلام مُنتهىً فِيَّ: إنها تتفايضُ عنّي حَدّ افتضاض حدود إدراكها وتأويلها، لكنّ للخيباتِ، حين تدبّ بكامل عتادها، فعلُ النقيض الموازي لحجم الأحلام ، الخيباتُ هنا: فؤوسٌ مصمّمة لقطع جذور الشغف لا أغصانه .

وُلِدَ الحلمُ خارج ذاته منفيّاً، مطروداً ، خارج مكانه وزمانه ، كأن تحلم بتحريرِ سجينٍ من زنزانة ضيقة ، فتصحو على نبأ دفنه في مقبرة واسعة، أو كأن تحلم بتحرير أرضكَ من كلّ أوساخ التاريخ البشريّ ، فتجد نفسك مقذوفاً إلى أرضٍ مُحررةٍ لا تشبه أرضك .

حلمتُ برؤية الحريّة وهي تخرج من أنفاق الظُلْمِ كعنقاءِ الأساطيرِ شامخةً،

ترفع تعبَ الناس تاجاً على جبينِ الشمس،

تغسلُ عيونهم بدمعها الصافي وتربّي وردها الناريّ في أرض هواجسهم.

حلمتُ بالعدالة واقعاً، أن أراها وهي تدفنُ اللغة الفاسدة، أن أراها وهي ترتدي ثوباً منسوجاً من عرق الشهداء والمظلومين والفقراء..

هنا والآن:رأيتُ الحرية والعدالة، ولكن في عيون أصحابها المُترفين، لافي عيون أهلي المظلومين .

مرّةً، بكيتُ، لأنني لم أجد مكاناً صالحاً للحبّ، مكاناً هادئاً، يحتملُ صخبَ قلبينِ وصرخة لهفَتِين وحربَ قُبلتين .
لكَمْ بكِيِتْ هي أيضاً، لأنها لمَحَتْ شظايا حيرتي وهي تلهث في كلّ الجهات .
هنا والآن: حصلتُ على شقّةٍ ، ولكن من دون قلبها ولهفتها وقُبلتها ، شقّةٌ باردةٌ بلا حبيبةٍ

شقّةٌ لا تصلحُ إلا لوحدتي ) .

في هذا النص الكثيف نتابع بلاغة الانكسار ومجازات التهشيم. حيث يفتتح الشاعر والناثر خلدون رحمة نصّه بصورةٍ بصرية فريدة: “الحربُ هشّمتْ ماء المرآةِ”، وهي صورة تستعير من الميتافيزيقا طابعها العميق. إنّ الماء هنا، بما يحمله من شفافية وانعكاس وعمق، حين يُهشَّم، فإنما يُهشَّم الوعي نفسه، ويتهشَّم الإدراك الإنساني الذي كان يُعَوَّل عليه في إدراك الشكل والجوهر. وبين تقعّر المحدب وتحدّب المقعّر، يدخل القارئ في منطقة “اللايقين البصري”، أي الفوضى الإدراكية التي تخلّفها الحرب في العقل والروح، لا في الأرض فحسب.
ولئن كانت بلاغة الانكسار قد اتّخذت من المرايا والماء مادةً رمزية، فإن الانفصال بين الظلال وملامحها، والرؤوس وأفكارها، يشير إلى لحظة وجودية قاسية: لحظة التشيّؤ، حيث تفقد الكائنات روابطها الداخلية، ويتحوّل الإنسان إلى كينونة مبعثرة.
لذا فإنّ الخيبة تبدو كقوّة مضادة للحلم حيث ينحت الشاعر خلدون رحمة عبارته المشبعة بالدلالات حين يقول: “الخيباتُ هنا : فؤوسٌ مصمّمة لقطع جذور الشغف لا أغصانه”، وهي استعارة عميقة تقلب المعهود في التعامل مع الخسارة. فالخيبة ليست حواراً مع الحلم، بل حرباً عليه. ليست مجرّد انكماش في التوقع، بل اجتثاث عنيف لجذور المعنى. وهذا المنطق في بناء الصورة يذكّرنا بأسلوب كبار النقاد المعاصرين في كشف علاقات القوة بين المفاهيم، وسعيه الدؤوب إلى تعرية الجمال من بهرج البلاغة السطحية، واستنطاقه من عمق الألم.
حيث نلمس حجم المنفى الداخلي والاغتراب الوجودي الذي يعانيه.
فحين يتحدّث الشاعر خلدون رحمة عن حلمٍ يُولد خارج ذاته، فإنه لا يتحدّث عن حلمٍ ضائع فقط، بل عن كينونة مأزومة لا تجد مكانها حتى في أحلامها. وهذا الاغتراب الحاد يشبه ما يسميه الناقد يوسف سامي اليوسف بـ”المنفى الأنطولوجي”، حيث لا يكون النفي خارجياً فحسب، بل يتموضع في الداخل، فيكون الحالم منفياً حتى عن حلمه.
والصورة التي يقدمها عن الحلم بتحرير الأرض، ثم العثور على الذات في “أرض محررة لا تشبه أرضك”، إنما تعكس التمزق بين المثال والواقع، بين ما نرغب فيه وما يُمنح لنا عنوة، وهذه مأساة تتجاوز السياسة لتلامس جوهر التجربة الإنسانية.

إن نسغ النص يوحي بأنسنة القيم وتجسيدها حيث ينتقل خلدون من سرد أحلامه إلى “رؤية” الحرية والعدالة، لا بوصفهما مجرد أفكار، بل ككائنات أسطورية تنبعث من العتمة. وهذه النزعة التشخيصية تضفي على النص طابعاً شبه نبويّ، حيث يتلبّس الحالم دور الشاهد والمبشّر والمصلوب في آنٍ معاً. لكنه سرعان ما يُصدم بالحقيقة المرّة: الحرية والعدالة رأيتهما في عيون أصحابها المترفين لا في عيون أهلي المظلومين. وهذا الانقلاب يعيد إنتاج التراجيديا، حيث تتحوّل القيم الكبرى إلى امتيازات طبقية، وتُستثمر الأماني من قِبَل من لا يحتاجونها.
هنا تأتي الصورة التي يختتم بها الشاعر خلدون ، وهي صورة شقةٍ بلا حبيبة، لتكون بمثابة رمز مركزي لفراغ التجربة المعاصرة. فالحب، ذلك الملاذ الأخير، لم يجد موطئ قدم في عالمٍ مُعقَّم من الدفء، فتغدو الشقة – وهي ذروة الإنجاز المادي – شاهدة على الفشل الوجودي. وكأنّ النص يقول: ما أتعس الكائن حين يملك المكان ويفتقد الحضور.
هذا النص، بلغته المتوهّجة وصوره العنيفة، هو تجلٍّ حيّ لما أسماه الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف بـ”الكتابة المقاومة للموت المعنوي”. فيه من الحزن ما يوازي التحدي، ومن التشظّي ما يعادل محاولات لملمة المعنى. نصٌّ كهذا لا يُقرأ مرّة واحدة، بل يُصغى إليه كما يُصغى إلى أنينٍ قادم من باطن الحلم المذبوح.
لذا فهو نصٌ بين الحلم المكسور والمجاز المقاوم وكُتِبَ بقلمِ يستعير براعته من روح النصوص التي كتبت بلغةِ باذخة ، وتناولٍ يلامس عمق الرؤيا الوجودية، نقترب من نصٍ شعري نثريّ يشبه الأرض التي تلد الشوك والندى معاً. حيث يبدو الشعر حين يتحوّل إلى صرخة كونية والتي تؤكّد هنا أنّ الكتابة ليست نوعاً من البلاغة المجازية التي تستعرض جمال اللغة، بل هي مقاومة داخلية ضد التهشيم، صوت من باطن الركام. والنصّ الذي كتبه خلدون عماد رحمة يحمل سمات ما يمكن تسميته بـ”الكتابة المجروحة”، وهي تلك التي تتكلم من الندبة، لا عنها.
وما فكرة المرايا المهشّمة إلا تعبير عميق عن اختلال المعنى
كون الشاعر خلدون رحمة افتتح نصّه بعبارات فاجعة في هدوئها: “الحرب هشّمت ماء المرآة”. ليس في هذا التصوير مجرّد مجاز بل رؤية: فالماء – مرآة الوعي – حين يُهشَّم، تتصدّع الإدراكات ذاتها. التقعّر والتحدّب يشيران إلى خللٍ في أدوات المعرفة، إلى ارتباك في مرجعيات الشكل. هذه هي الحرب كما يفهمها الشاعر خلدون: تدميرٌ للتماسك البصري، والعقلي، والوجداني. وهو تعبير صارخ عن انفصال الظلال عن ملامحها: الجسد بلا روح وحين تنفصل الظلال عن ملامحها، فإنما يتحدّث النص عن لحظة اغتراب حادّة. نكون هنا أمام تشيّؤ وجودي، حيث لا يعود الإنسان متصالحاً مع صورته. الظلّ، وهو الامتداد الطبيعي للذات، يفقد علاقته بها، كما تفقد الرؤوس صلتها بالأفكار. وهذا ليس تفككاً سردياً، بل تجسيد لنكسة الوجود.
لذلك نجده يؤكد على مفهوم دم الأحلام وهي بلاغة النزيف الداخلي
لقد نقلنا الشاعر خلدون إلى صورة شعرية حادّة عندما قال : “رأيتُ دم أحلامي مُراقاً”. السؤال الذي يتلو هذه الصورة – أليس للأحلام دم؟ – يفتح أفقاً جمالياً وفلسفياً معاً. فالحلم هنا ليس مجرّد انفعال ذهني، بل كائن حيّ، ينزف ويتألم ويموت. وهذه الاستعارة تكثّف مأساة الواقع الذي يقتل الحلم لا بالسخرية منه، بل بتمزيقه فعلياً.
معتبراً الخيبة كأداة إبادة جمالية حين يقول: “الخيباتُ هنا : فؤوسٌ مصمّمة لقطع جذور الشغف”، فإنه يرتقي بصورة الخيبة إلى مستوى العنف الموجّه لا إلى النتائج بل إلى البدايات. الفؤوس ليست تقطع الأغصان بل الجذور، أي منبع الحياة. وهذه بلاغة نكوصية شديدة التأثير، تعكس فهماً عميقاً لمعنى الخذلان. كونه حلم منفيّ ، ومأساة الانتماء المستحيل يقوا : “وُلِدَ الحلمُ خارج ذاته منفيّاً”، تعبير يكثف الاغتراب إلى أقصاه. الحلم المنفي ليس غائباً فحسب، بل مطرود من كل سياق. إنّ صورة الحالم الذي يصحو على دفن من حلم بإنقاذه، تشي بانفصال بين الإرادة والواقع، بين المثال والنتيجة. وكأن الكاتب يروي مأساة شعب بأكمله، لا مجرد تجربة فردية.

في هذا السياق نجد حالة الحرية والعدالة في مرآة التناقض الطبقي. عندما يحلم الشاعر خلدون برؤية الحريّة تخرج من نفق الظلم كعنقاء، فإنه يبني صورة أسطورية للنجاة. لكنّ المأساة تتجلى حين يرى هذه القيم محقّقة في عيون المترفين، لا المظلومين. هنا تنقلب النبوءة إلى فضيحة: الحرية تُسرق، والعدالة تصبح زينةً في أعين من لا يعرفون معناها. وهذه مفارقة عميقة في الطرح الاجتماعي والسياسي.
في السياق الإنساني والوجداني نجد الحبّ الضائع متحولاً من الشغف إلى البرودة. حيث تنتهي الرحلة بصورة درامية: شقّة بلا قلب الحبيبة، بلا دفء الحبّ. البيت، وهو رمز الاستقرار، يتحوّل إلى شاهدٍ على الوحدة، ويصير بديلاً مادياً عن الخسارة المعنوية. كأنما الشاعر خلدون رحمة يقول: ما قيمة المسكن إن غابت الروح التي تُسكنه؟
وهنا نجد مجاز المقاومة ضد الفراغ. فالنصّ الذي كتبه خلدون عماد رحمة يضعنا أمام واقع ممزق، لكنه لا ينهزم أمامه، بل يصوغ منه مجازاته الخاصة. هذا النص لا يُقرأ بل يُصغى إليه، لأن كل عبارة فيه أشبه بندبةٍ ناطقة. إنه من الكتابات التي تمارس النقد على ذاتها وهي تكتب، ومن هنا تشبه تجارب كبار النقاد الذين لا يلجأون إلى المجاملة، ولا التزييف، بل هو جرحٌ مفتوح يبحث عن ضوء.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار هذا النص من ملامح كتابة ما بعد الفاجعة، حيث لا خلاص سوى في الاعتراف الكامل بحجم الخسارة، لا التخفيف منها.
أخيراً :هل نجرؤ على القول: هذه كتابة تنزف، لا تكتب؟ نعم، بكل ما في الصدق من فجيعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى