سياسة

غزة وإحياء روح الجهاد: جذور تاريخية وعِبَرٌ خالدة

بقلم: د. طارق حامد 

المقدمة
الحمد لله الذي جعل في أمة الإسلام منارات تُضيء دروب الأمل حين تُخيَّم سحب اليأس، ولعلَّ غزة اليوم واحدة من تلك المنارات التي أعادت للأمة ذاكرة جهادها، وذكَّرتها بأن روح التضحية والفداء لم تنطفئ. فكما كانت حواضر الإسلام عبر التاريخ شعلةً تُحرِّك الهمم، ها هي غزة تُجسِّد معنى المقاومة والصمود، مُستلهمةً سيرة الأجداد الذين حملوا راية الجهاد حين ضعُف الآخرون. فما أشبه اليوم بالبارحة! هذا المقال يستعرض حالات تاريخية مشابهة، حيث نهضت ممالك وإمارات ودول بإحياء روح الجهاد في فترات عصيبة، لتكون نبراسًا يُقتدى به.

1. الجهاد: المفهوم والغاية
قبل الخوض في الأمثلة التاريخية، لا بد من توضيح معنى الجهاد في الإسلام، الذي يُعرَّف بأنه “بذل الجهد في سبيل الله” سواءً بالقتال أو بالكلمة أو بالنفس. فهو ليس حربًا عدوانية، بل دفاع عن الحقوق والمقدسات، وإعلاء لكلمة التوحيد، وردع للظلم. وغزة اليوم تُجسِّد هذا المعنى بامتياز، حيث تحولت إلى رمز للمقاومة الشرعية ضد الاحتلال، مُذكِّرةً بالأمم التي حملت ذات الرسالة عبر العصور.

2. تاريخ الجهاد: إمارات وممالك أحيَت الروح

أ. دولة المرابطين والموحدين (المغرب والأندلس، القرن 5-6 هـ / 11-12 م):
عندما ضعفت دول الأندلس تحت ضغط الممالك المسيحية، وانهارت طليطلة سنة 1085م، برزت دولة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين، التي وحَّدت المغرب والأندلس، وانتصرت في معركة الزلاقة (1086م)، وأعادت روح الجهاد إلى جبهة المسلمين. ثم جاء الموحدون من بعدهم ليواصلوا المسيرة، ويحرروا مدنًا كبرى مثل قرطبة، مُثبتين أن النهوض ممكن حين تتجدد الإرادة.

ب. صلاح الدين الأيوبي وتحرير القدس (القرن 6 هـ / 12 م):
في عصر التشرذم السياسي والانقسامات المذهبية، استطاع صلاح الدين أن يوحد مصر والشام تحت راية الجهاد، ويهزم الصليبيين في حطين (1187م)، ليكون تحرير القدس درسًا في أن الوحدة والإيمان هما أساس النصر. وغزة اليوم، رغم حصارها، تُذكِّر بمعنى “التضامن الإسلامي” الذي دعا إليه صلاح الدين.

ج. المماليك ومواجهة التتار (معركة عين جالوت، 658 هـ / 1260 م):
بعد اجتياح التتار لبغداد وتدمير الخلافة العباسية (1258م)، ساد شعور بأن العالم الإسلامي انتهى، لكن المماليك في مصر والشام بقيادة سيف الدين قطز رفضوا الاستسلام، وانتصروا في عين جالوت، مُعيدين الأمل بانتصار الإرادة حتى على أقوى الجيوش. وغزة، كقطز، تثبت أن القلوب المؤمنة أقوى من أحداث الدبابات.

د. الدولة العثمانية وحصار فيينا (القرن 11 هـ / 17 م):
عندما تقدَّمت الجيوش الأوروبية لتهديد قلب أوروبا الإسلامية، وقفت الدولة العثمانية كدرع للعالم الإسلامي، ووصلت إلى أسوار فيينا مرتين (1529 و1683)، في محاولة لتوسعة رقعة الإسلام وحماية حدوده. رغم النتائج المتباينة، إلا أن الروح الجهادية العثمانية ظلت مثالًا على دور الدولة الإسلامية في مواجهة التحديات الخارجية.

هـ. إمارة القوقاز: الإمام شامل الداغستاني (القرن 13 هـ / 19 م):
عندما اجتاحت روسيا القيصرية شمال القوقاز، قاد الإمام شامل مقاومة بطولية (1834-1859م) رغم الفارق الهائل في العدد والعتاد، مستندًا إلى إيمان شعبه بالجهاد. وغزة تُحاكي هذه الروح، حيث يصمد القليل أمام الكثير، مستمدين القوة من العقيدة.

3. العِبَر المشتركة: ما بين غزة والتاريخ
من خلال هذه النماذج، تتجلى أوجه التشابه مع جهاد غزة:
– الإيمان بالغيب:* فالنصر عند المسلمين مرتبط بالصبر والتوكل، لا بالعدة والعتاد.
– الوحدة رغم الخلافات: فغزة، كصلاح الدين، تُذكِّر بأن القضية الإسلامية واحدة.
– استثمار الضعف قوة: فالحصار المفروض على غزة حوَّلها إلى قلعة معنوية تُلهب مشاعر الملايين.
– دور القيادة الروحية: كعلماء غزة الذين يحفزون على الثبات، كما كان ابن تيمية يُحرِّض على قتال التتار.

الخاتمة: غزة.. ومستقبل الأمة
غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي رسالة إلى الأمة: إن روح الجهاد لا تموت. وكما أنقذ الأسلافُ الإسلامَ بصدق إيمانهم، فاليوم يعيد أهل غزة للأمة كبرياءها. فليست العبرة بكثرة الانتصارات العسكرية، بل ببقاء الشعلة متقدة في النفوس، لتكون غزة نواةً لصحوة إسلامية جديدة، كما كانت عين جالوت والزلاقة وحطين بداياتٍ لتاريخٍ مُشرق. {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى