فكر

بين أسر الوهم وفسحة الحكمة: في الرؤية الكبرى والقيود الصغرى

بقلم : عماد خالد رحمة | برلين

     في رحاب التأمل الفلسفي العميق، يتجلّى لنا مشهدٌ إنسانيٌّ متكرّر: جماعةٌ من البشر تمضي في عيشها اليوميّ تحت سطوة ما تخلقه قوى الطبيعة من مظاهر مدهشة، وأحداثٍ صاخبة، وأطيافٍ موهِمة تتراقص أمام الحواس، فتُربَك العقول، وتُقيَّد الأذهان ضمن إدراك جزئيّ، يتوهّم الاكتمال، ويمنعها من التطلّع إلى ما وراء الظاهر. فالذين يقعون تحت تأثير الوهم، الذي تُحدِثه مفاعيل الطبيعة، لا يرَون إلّا ما تتيحه لهم أطر التجربة الحسية ومحدودية الإدراك اللحظي، فيغدون أسرى لمظاهر القوّة والصورة والعاطفة والانفعال اللحظي، في حين يظلّ الحكيم وحده ذاك الذي يُدرك ما وراء الصورة، ويتجاوز السطح إلى العمق، فيرى الحقيقة بما هي عليه في جوهرها، لا بما تبدو عليه في انعكاساتها العابرة.
الواقع تحت سطوة الوهم هو كمن يحدّق في البحر الهائج، فيرى في العاصفة قضاءً محتوماً، وفي الأمواج جبروتاً غير قابل للفهم أو المساءلة، فيتّخذ من الخوف قانونًا ومن الانقياد قدَرًا، ويُسلّم زمام أمره لما لا يفهمه، حتى وإن خضع له عبثاً. فهو يرى في البرق والريح، في الزلازل والفيضانات، في المرض والموت، أهوالاً تجرّه إلى ظنٍّ غيبيٍّ أو تفسيرات أسطورية، أو تجعله يقنَع بحدود الظاهر فيعجز عن التفكير بماهية الأشياء ومسبباتها ومعانيها. وبهذا، لا يعود الإنسان هنا فاعلاً في واقعه، بل مفعولاً به، يختزل العالم في دائرة ضيقة من المؤثرات الانفعالية، ويفقد بذلك القدرة على التحرر من قيود التلقّي السلبي.
إن من يتموضع في موقع الحكمة لا يتعالى على هؤلاء، بل يراهم بعين الرأفة المعرفية، لأنّه يدرك أن الرؤية الجزئية، التي يعيشونها، نابعة من محدودية التجربة، لا من جهلٍ متأصّل. الحكيم هو ذاك الذي يرى الصورة الكبرى: يرى سلسلة المسببات، والعلل، والتشابكات، والروابط الخفية بين الظاهر والخفي، بين الحركة والسكون، بين البداية والنهاية. إنه لا يخضع لتقلبات الطقس النفسي والكوني، بل يراقبها كما يراقب النهر في مجراه، مدركًا أن التغيّر ظاهرة، والجوهر باقٍ.
غير أن الحكيم، رغم إدراكه المتسامي، لا يحِقّ له أن يفرض على الآخرين رؤيته أو يُزعج من لم يبلغ بعدُ مرتبة فهمه؛ فكما أن للوليدِ مراحلَ في النموّ، كذلك للعقل مراتب في التدرّج. لا ينبغي لصاحب البصيرة أن يثير اضطراب من يعيش في الظلال، لأن النور المفاجئ قد يُعمِي بدل أن يهدي، وقد يُربك بدل أن يُضيء. في الفلسفة الشرقية، كما عند “لاو تسي” في “الطاوية”، وفي حكمة الهند القديمة، نجد أن الحكيم الحقّ هو من يتوارى، لا من يتباهى، هو من يرافق دون أن يُسيطر، ومن يدلّ دون أن يُجبر. وهذا ما يؤكّده سقراط حين رفض أن يلقّن الناس الحقيقة، بل فضّل أن يولّدها في نفوسهم عبر الحوار والتساؤل.
الفارق بين الحكيم والمُتوهَّم، ليس في المعارف فحسب، بل في طريقة التعامل مع الحقيقة. فالمُتوهَّم يظنّ أنه يرى كلّ شيء، في حين أن الحكيم يعلم أنه لا يرى إلا ما يسمح له به نضج الإدراك، وانكشاف التجربة، واتّساع البصيرة. لذا فإن الحكيم الحقيقي لا يسعى إلى إقناع الناس بالحقيقة، بل إلى خلق الظروف التي تسمح لهم بأن يراها كلٌّ منهم من زاويته، وفي أوانه، وبمقدار قابليته.
ولعل هذا التمايز بين المظاهر والحقائق هو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حين ميّز بين “الوجود الكينوني” و”الوجود اليومي”، فالأول لا يَظهر إلا لمن يملك شجاعة السير إلى الهاوية وطرح الأسئلة الكبرى، أما الثاني فهو وجودٌ استهلاكيّ، معجونٌ بالمألوف والمكرور والمُطمئن. ولا يمكن لمَن ارتضى العيش في دائرة المألوف أن يفهم صدمة التجلّي التي ترافق الوعي بعمق الوجود.
وفي هذا السياق، يمكننا القول: إنّ الحكيم لا يهدي الناس إلى النور، بل ينتظر أن يبدؤوا برفض الظلّ، لا يزعج من لم يفتح عينيه بعد، لأنه يُدرك أن الأعمى قد يكون عينه في طور التكوُّن، وأنّ لكلّ عقلٍ مواقيته، ولكلّ بصيرةٍ انبعاثها الخاصّ.
خاتمة:
الواقعون تحت تأثير الوهم ليسوا أعداء الحقيقة، بل طلّابها الضائعون. والحكيم الذي يرى الصورة الكبرى لا يُمارس سلطته المعرفية عليهم، بل يمارس صبره وحلمه، مدركًا أن الحقيقة ليست طَرقًا على أبواب العقول، بل همسٌ في أعماق الأرواح. الحكمة لا تصرخ… بل تُومِئ. والضوء لا يقتحم… بل ينساب.
فلا تزعج مَن لا يرى ما ترى، بل كن ضوءًا ينتظرهُ البصر حين يستعدّ… لا حين يُجبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى