ضمير في المرآة – قصة قصيرة

بقلم: عبدالله علي أبو طالب عليوة| مصر
كان الليل يزحف على أرجاء البيت بهدوء، يلفّه الصمت كغطاء ثقيل. لا صوت سوى عقارب الساعة تتثاقل في حركتها، ونسمة باردة تتسلل من نافذة نصف مفتوحة. في تلك اللحظة، فتح الطفل الصغير عينيه. رمش ببطء، ثم جلس على حافة سريره كأن شيئًا ما يوقظه من الداخل.
مدّ قدميه الحافيتين على الأرض، وأخذ يخطو بخفة شديدة، يحبس أنفاسه خوفًا من أن يستيقظ أحد. أطلّ برأسه من باب الغرفة، ثم انسحب كقط صغير نحو المطبخ.
وقف أمام الثلاجة البيضاء الكبيرة، ارتجف قليلًا وهو يمد يده إلى مقبض الباب. ضغط عليه بحذر… فصدر صوت خفيف كصريرٍ في هدوء الليل. قلبه خفق بشدّة، لكنّه لم يتراجع. فتح الباب، فأضاء النور الداخلي بلمعانه البارد. جال بعينيه بين الأرفف: حليب، خبز، فاكهة، لحوم. مدّ يديه الصغيرتين وأخذ يجمع الطعام قطعة قطعة، وكأنّه يجمع كنزًا ثمينًا.
حملها بين ذراعيه الصغيرتين بصعوبة، وعاد بها إلى غرفته. وضع كل ما أخذه بجواره، ثم استلقى على السرير. عيناه امتلأتا بالدموع، لكنّه ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يهمس: “بكرا… أوفي بوعدي.” وما هي إلا لحظات حتى غلبه النوم، ووجهه المضيء بدا أكثر براءة من أي وقت مضى.
مع بزوغ الفجر، استيقظت الأم كعادتها. توجهت إلى المطبخ تعد الإفطار، وما إن فتحت باب الثلاجة حتى شهقت:
– “يا إلهي! أين ذهب الطعام؟”
أسرع الأب وهو يفرك عينيه من أثر النوم، نظر داخل الثلاجة الفارغة فارتسمت الدهشة على وجهه:
– “مستحيل… كيف اختفى كل شيء؟”
بحثا سريعًا في أنحاء البيت، حتى وقعت أعينهما على غرفة الطفل. دفع الأب الباب بهدوء، ليتجمّدا في مكانهما: الطفل نائم كالملاك، والى جواره كومة الطعام المرتّبة بعناية.
اندفعا نحوه، فأيقظه الأب وهو يهز كتفه:
– “انهض يا بني! ما الذي فعلته؟”
فتحت الأم عينيها بقلق وغضب:
– “لماذا أخذت الطعام كله؟ لقد أفسدت كل شيء!”
فتح الطفل عينيه ببطء، نظر إليهما بارتباك، ثم امتلأت عيناه بالدموع. حاول أن يتكلم، لكن صوته كان متقطّعًا:
– “أنا… أنا ما كنتش عايز آكله.”
قال الأب بحدة:
– “إذن لماذا؟!”
انهار الطفل بالبكاء، ودفن وجهه في كفيه الصغيرتين:
– “كنت بشوف أطفال غزة على التلفزيون… جعانين. مبارح وأنا نايم حلمت بيهم، كانوا بينادوني… وعدتهم أجيب لهم أكل بكرة. ما قدرتش أرجع في كلامي… جمّعت لهم كل حاجة.”
ساد صمت ثقيل. الأم وضعت يدها على فمها تخنق شهقة بكاء، والأب شعر أن الأرض تميد تحت قدميه. اقتربا منه ببطء، جلسا بجواره، وضماه إلى صدريهما.
غرق الثلاثة في بكاء طويل… بكاء يختلط فيه الحزن بالفخر، العجز بالحنان. لقد أدرك الأب والأم أن قلب طفلهما الصغير أنقى وأصفى من قلوب الكبار، وأن حلمه الطفولي يحمل رسالة أعمق من آلاف الكلمات.
في تلك اللحظة، لم يعودوا يرونه مجرد طفل؛ بل مرآةً لضمائرهم، يذكّرهم بأن الإنسانية لا تقاس بالعمر، بل بالرحمة التي تسكن القلب.





اسلوب جديد ورائع