فكر

التحول القيمي في عصر ما بعد الإنسانية

د. محمد سعيد حسب النبي| أكاديمي مصري

يشهد العالم المعاصر تحولات جذرية غير مسبوقة بفعل الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا النانو، وهي تحولات لم تعد تقتصر على تحسين الأدوات أو رفع كفاءة الإنتاج، بل امتدت إلى إعادة تشكيل الكينونة الإنسانية ذاتها ، وطرح أسئلة وجودية كبرى تتعلق بالهوية، والمعنى، والموت، والخلود، والحرية، والكرامة الإنسانية. وفي هذا السياق، برز مصطلح ما بعد الإنسانية، وهو تيار فكري وفلسفي يسعى إلى تجاوز الإنسان الكلاسيكي من خلال الدمج بين البيولوجيا والتكنولوجيا، والانتقال إلى مرحلة “الإنسان المعزز” أو “السايبورغ”.

إن القيم الإنسانية، باعتبارها منظومة المبادئ والمعايير التي تنظّم سلوك الإنسان وعلاقاته، لم تكن يومًا كيانًا ثابتًا، بل تميزت بمرونتها النسبيّة وارتباطها بالتحولات الاجتماعية والتاريخية. غير أن ما نشهده اليوم يتجاوز “التغير” التدريجي المعتاد إلى مستوى “التحول” العميق ، إذ لم يعد الأمر مجرد تبدل محدود في أنماط العيش، بل إعادة بناء جذرية للنسق القيمي ذاته. فالتحول يعبر عن إعادة صياغة شاملة للأهداف والتوجهات والعلاقات، وهو بذلك عملية طويلة المدى مفتوحة على المستقبل، كتلك التي أحدثتها الثورة الصناعية في الماضي.

لقد صار من المشروع إثارة التساؤل: كيف ستتأثر القيم الإنسانية في ظل عصر ما بعد الإنسانية؟ فالتطور التكنولوجي يفرض تحديات غير مسبوقة على قيم مثل الإيمان، والعدالة، والمساواة، والحرية، والخصوصية، والأمن الاجتماعي، والانتماء. إن خطورة هذا التحول تكمن في أنه لا يقف عند حدود الفلسفة النظرية، بل ينعكس على حياة الإنسان اليومية ومؤسساته وقوانينه. فالروبوتات التي تشارك الإنسان وظائفه وعلاقاته، والذكاء الاصطناعي الذي يُتوقع أن يتجاوز القدرات العقلية للبشر، كلها مؤشرات على أن التحول القيمي آخذ في التشكل بصورة عملية ومباشرة.

هذا التحول القيمي ليس نتاج عامل منفرد، بل هو حصيلة تفاعل معقد بين التقنية والثقافة والسياسة والفلسفة. ويُعد العامل التكنولوجي المحرّك البنيوي الأهم، إذ تحولت التكنولوجيا إلى بنية تحتية للقيم تعيد صياغة مفاهيم الحرية والخصوصية والكرامة. ومن الأسباب الأخرى صعود الاقتصاد الرقمي وهيمنة الشركات الكبرى، وتأثيرات العولمة والاتصال الرقمي، إضافة إلى الأسباب الفلسفية المتمثلة في نقد النزعة الإنسانية والسعي نحو الخلود وتجاوز المحدودية البيولوجية.

ومن أبرز القيم المعرضة للتحول تشمل: الكرامة الإنسانية، حيث يثير التعديل الجيني سؤالًا حول معنى “الطبيعة البشرية” ؛ والحرية والاستقلالية، بين تعزيز القدرات بالآلة والخضوع للتحكم الرقمي؛ والخصوصية، التي تنحسر في ظل الرقمنة والبيانات الضخمة؛ والعدالة والمساواة، باحتمالية ظهور فجوة بين “المعززين” و”غير المعززين”؛ والإيمان، في مواجهة نزعة “الخلود التكنولوجي”.

إن هذا التحول القيمي عملية تراكمية تمر بثلاث مراحل أساسية: تبدأ ببداية التحول، حيث تتعرض القيمة القائمة لضغوط التطور التكنولوجي، مثل مواجهة الخصوصية التقليدية لضغوط المراقبة الرقمية؛ تليها مرحلة التحول الوسيط، حيث لا تختفي القيمة بل تدخل في طور إعادة صياغة تعكس حالة من التفاوض بين القديم والجديد، كتحول الخصوصية إلى “خصوصية رقمية” تُدار عبر الخوارزميات؛ لتنتهي بالقيمة الجديدة، حيث يتبلور نسق قيمي جديد يستجيب للواقع التقني، مثل بروز “الشفافية الرقمية” كقيمة بديلة أو موازية لمفهوم الخصوصية التقليدية.

أمام هذا التحول، يمكن التنبؤ بثلاثة سيناريوهات مستقبلية: السيناريو التفاؤلي، الذي يرى قدرة التكنولوجيا على إعادة صياغة القيم لتعزيز العدالة والرفاهية، عبر تطوير خوارزميات عادلة؛ والسيناريو التشاؤمي، الذي يحذر من انهيار تدريجي للقيم التقليدية وصعود قيم بديلة تؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته، بهيمنة التكنولوجيا على القرار؛ والسيناريو الوسطي الأكثر واقعية، الذي يقوم على أن القيم ستبقى موجودة ولكن سيُعاد تعريفها بما يتناسب مع التحولات، حيث تظهر القيم قدرة على التكيف مع المتغيرات التاريخية. وفي ظل هذا السيناريو يمكن القول إن ما بعد الإنسانية لا تهدم القيم، وإنما تفتح أفقًا لإعادة تصورها بشكل أكثر شمولاً.

هذا المقال تلخيص مركّزلبحث تم نشره مؤخرًا في إحدى المجلات العلمية المُحكّمة، ويتناول موضوع التحول القيمي في عصر ما بعد الإنسانية. رابط البحث:

https://tanwir.journals.ekb.eg/article_464399_0148d7689f17f2ce640544146ce5a67f.pdf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى