فكر

التربية المضادة: اغتيال الفطرة بين تشريح العلم وحفرية الفلسفة

د. طارق حامد| مصر

“ما من مولود إلا يولد على الفطرة”.. هذه العبارة النبوية التي هزت الوعي الإسلامي لقرون، لم تعد مجرد حديث ديني، بل أصبحت إشكالية فلسفية ونفسية معقدة في عصرنا. إنها تشكل نقطة تصادم بين الفطرة السليمة والتربية المضادة التي تشوّه هذه الفطرة في مجتمعنا المغلق والمفتوح.

الفطرة من المنظور الفلسفي: الجوهر الأصيل والوجود المُلغَّم

في الفلسفة الإسلامية، تمثل الفطرة ذلك “الجوهر الأصيل” الذي خلقه الله في الإنسان. إنها الحالة الوجودية الأولى التي تشبه القرص الصلب الفارغ المُهيَّأ لاستقبال برنامج التوحيد. لكن هايدغر في فلسفة الوجود يقدم لنا مفهوماً مرعباً: “الوجود-في-العالم” – فنحن نُلقى في عالم لم نختره، يحمل في طياته مشروع تشويه منهجي لهويتنا الأصلية.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يذهب أبعد من ذلك في تحليله لـ “المجتمعات الانضباطية”، حيث تصبح الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية أدوات لـ “تشكيل الذات” وفق النمط السائد. إنها ما نسميه “التربية المضادة” – تلك العملية المنظمة لقلب الفطرة رأساً على عقب.

الآليات النفسية: كيف تشتغل التربية المضادة؟

في علم النفس السلوكي، يقدم سكنر مفهوم “التشكيل” (Shaping) حيث يتم تعزيز السلوكيات المرغوبة اجتماعياً وقمع غير المرغوبة. الطفل الذي يسأل عن الله قد يُهمل، بينما يُكافأ عندما يكرر مقولات مادية وضعية. هذه عملية “تشكيل مضاد” للفطرة.

وفي النظرية المعرفية لبياجيه، تتحول البنى المعرفية للطفل من خلال عمليتي “الاستيعاب” و”التلاؤم”. التربية المضادة تستخدم هذه الآليات لغرس مفاهيم تناقض الفطرة، فيستوعب الطفل أن الخير والشر مفاهيم نسبية، ويتلائم مع فكرة أن الدين مجرد تراث اجتماعي.

أما في علم النفس الاجتماعي، فيقدم لنا مفهوم “الانصياع” (Conformity) كما في تجارب آش، و”الطاعة للسلطة” كما في تجارب ميلغرام، إطاراً لفهم كيف يترك الطفل فطرته لينصاع لضغوط الأسرة والمجتمع.

مجتمع مغلق: الأسرة والمدرسة كمعاقل للتربية المضادة

في الأسرة، تتحول التربية إلى “عنف رمزي” كما يسميه بورديو، حيث تنتقل “الميولات المدمجة” (Habitus) من الآباء إلى الأبناء دون وعي. الأب الذي يعيش حالة من الازدواجية الأخلاقية، والأم التي تربي ابنتها على الخوف من الحريات لا على حب الفضائل، هما يمارسان “التربية المضادة” في صميم الحياة اليومية.

وفي المدرسة، تتحول العملية التعليمية إلى ما أسماه إيفان إليتش “المؤسسة المقنعة” التي تنتج “الاستهلاكية التعليمية”. المناهج التي تقدم الدين كمادة تاريخية، والتربية التي تفصل الأخلاق عن العقيدة، كلها تمارس “العنف التربوي” ضد الفطرة.

مجتمع مفتوح: الفضاء الرقمي ومعامل تشويه الفطرة

في المجتمع المفتوح، تتحول التربية المضادة إلى صناعة ضخمة. وسائل الإعلام والفضاء الرقمي يصنعان ما أسماه تشومسكي “الموافقة التصنيعية” – حيث تُصَنَّع الموافقة الجماعية على قيم تناقض الفطرة.

المنصات الرقمية تقدم “تربية مضادة موازية” عبر تصدير نمط الحياة الاستهلاكي، وتقديم النماذج المشوهة كقدوات، وتحويل الأخلاق إلى مجرد “ترندات” عابرة. إنها عملية “غسل فطري” منهجي.

مقاومة التشويه: نحو تربية تحريرية

لكن الأمل لا يزال ممكناً. يمكننا بناء ما أسماه باولو فريري “التربية التحريرية” التي تعيد للطفل وعيه بفطرته. تربية تقوم على الحوار لا التلقين، على التفكيك النقدي للتربية المضادة، على بناء المناعة الفكرية.

في الختام، إن المعركة بين الفطرة والتربية المضادة هي أقدم وأعقد حروب الوجود. وهي معركة نخوضها جميعاً في دواخلنا قبل خوضها في مجتمعاتنا. والسؤال الذي يظل معلقاً: هل نستطيع أن نكون حراساً للفطرة في زمن التربية المضادة؟ الإجابة ليست في الكتب، بل في وعينا اليومي وتربيتنا الحية لأجيال تبحث عن جوهرها الأصيل في ضجيج العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى