سُئِلْتُ  عن الحجر المنزلي.. ماذا عملت فيه..؟!!

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

سئلتُ ماذا تعمل وأنت في الحجر الصّحّي؟ وكيف تقضي أوقاتك في الحجر المنزلي، وقد امتنع الخروج منه لظروف صحيّة وأمنية للجسم ولكلّ ما قد يتسبّب فيه عدم التّقيّد بتعلميات المحافظة على السّلامة والأمن؟

أجبت: أوّلا: أنا لست في الحجر الصّحّي في المنزل، أنا في حجر دافئ، في حجر الأسرة، الذي يحوي أفرادها، ويحمي من يحتمي به، ويأوي من يستأنس به. ويستجير. أنا في الحضن المنزلي الآمن الحاضن لساكنيه ولنازليه بدفء وحرارة حسن استقبالهم ووجودهم فيه.. ثانيا: أنا لست متضايقًا بمكوثي في المنزل، إذ لست محجوزًا فيه، بل ممنوحًا فرصة ثمينة للبقاء فيه لإنجاز أعمال، ما كنت لأجد لها وقتًا أو فرصة كهذه التي وهبني إيّاها واهب النّعم،  الرّب الكريم الودود ذو العرش المجيد، ووفّرها لي إيّاها فيروس كورونا، الذي سخّره الله خادمًا ومعينًا لي في عملي؛ لأنجزها بعيدًا عن انشغالات الخروج من البيت، وتبعاته،  والاجتماعات التي تكون وتتكثّف وتتكاثر في ظروف خارج بيئة الجائحة..

لقد أنجزت أعمالا عديدة والحمد لله؛ طالعت وحرّرت وصحّحت وراجعت، ووضعت خططًا لمشروعات علميّة مستقبليّة.. قمت بأعمال كثيرة والحمد لله، فإذا أراد الله منح الإنسان فرصًا للعمل سخّر له ما يعينه على إنجازها، فقد يكون هذا – لحكمته وتقديره – بواسطة جائحة يرسلها، أو نكبة يصيب بها عبده..فيكون أمام واقع يفسّره  قولهم:” ربّ ضارّة نافعة”، وأمام الحكمة القائلة : ” الخيرة حتّى في انكسار الرّجل” كما تقول العامّة. ومع قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. والحمد لله على هذه النّعمة التي منحنا الله إيّاها لننجرأعمالاً مهمّة. فالكَيِّسُ الفطن النّبيل هو من يغتنم الفرص، ويستثمر في الحال التي يكون عليها؛ خيرًا أو شرًّا، وهما فتنة واختبار كما قال مولانا العليم الحكيم الخبير..

من جملة ما أنجزتُه في هذه الفترة بدايةُ تنظيم أرشيف أعمالي ومنجزاتي، وترتيب أوراقي. فكنت أخصّص جزءًا من اللّيل، بعد العَشاء لفرز الأوراق، ووضعها في علب الأرشيف، كان مساعدي في هذا حفيدي فارس بن حسن، صاحب السّتّ سنوات من عمره..

 عمله كان متمثّلا في مُناولتي ما أطلبه منه، وكذا وضع الأوراق في العلبة المناسبة، مع جمع الأوراق المهملة وغير الصّالحة في كيس خاصّ لتنقل إلى ما يصلح بها ولها.

كان منبسطًا بهذا العمل، منشرحا له ومتفاعلا معه، حريصًا على القيام به، بل كان قبل أن يحين الموعد يذكّرني به، فهو ينتشي بالقيام به. فإذا ما قلت له: اليوم لا يمكن القيام به، يظهر تبرّمًا وعدم الرّضا بهذا التّأجيل، ويسألني لماذا يا جدّي..؟

هذه أولى الثّمرات الطّيّبات للحضن المنزلي في ظلّ مضايقة الجائحة..إنّها ثمرةزرع حبّ العمل وملازمة النّظام والالتزام برتابته، للتّدرّب على أحد مقوّمات العمل الجاد، وهو المداومة عليه وعلى النّظام الرّتيب منذ الصّغر.

بمرور اللّيالي والأيّام بدأ” فارس” يقرأ عناوين العلّب بالتّهجية، ثمّ أصبح متقنًا لقراءتها..حين أطلب منه عنوانًا معيّنًا، أو يسمعني أردّد اسم شخص أو جمعيّة أو جهة..يسرع في البحث عنها بين العلب الكثيرة، فيسعفني بها،. بهذه العمليّةالمتكرّرة كلّ ليلة تعرّف على أسماء شخصيّات: كالشّيخ النّاصر المرموري والشّيخ محمد علي الدّبوز. ومؤسّسات كجمعيّة التّراث وكليّة المنار ومؤسّسة الشّيخ أبي اليقظان الثّقافيّة، وأسماء مناطق وبلدان  كوادي مزاب والجزائر وسلطنة عمان، والمذهب الإباضيوأعمال بوحجام.. تلك المعرفة هي من حسنات تأثير كورونا على مسير الحياة الآنية، التي منحت الفرصة لهذا العمل ومع الحفيد.. أليس في هذا خير وبركة وفائدة؟

أخوه الصّغير ” باسم ” ذو السّنتين وشهور، يحاول بدوره منافسته في هذا العمل، ويريد أن يبرز قدرته، ويثبت شخصيّته، فيندفع إلى المشاركة في العمل، لكنّ فارس ينزعج من ذلك؛ فهويرى في هده الحركة منافسة، لا تقبلها أنانيّة الطّفل، ولا يرضاها من بريد احتكار العمليّة والاستحواذ على الظّفر باستحسان الكبيِرِ لما يقوم به وحده، خاصّة الجدّ، الذي وضع فيه الثّقة، وأعطاه كامل الحريّة ليعمل في هذا المجال..

يتحوّل المشهد إلى ساحة للمشاكسة والعناد والضّرب والمقاومة والإصرار على تنفيذ الإرادة من الطّرفين الأخوين..فنستغرق نحن في الضّحك؛ مستمتعين  بالمشهد، في سهرة استثنائيّة، متمتّعين بهذا المنظر الرّائع، بدلالاته ومغازيه في إطار الحياة الأسريّة المتميّزة، خاصّة إذا أظهر الحفيد ” باسم ” حركة لافتة للنّظر أو مثيرة للضّحك، ما يضفي على جوّ العمل بهجة وسرورًا ومتعة وروعة..

قد يتحوّل الجدّ إلى حال الانزعاج والقلق وربّما الغضب..إذا تجاوز الحفيد “باسم ” حدوده، فشرع في تمزيق الأوراق أو بعثرتها، أو التّمركز بين العلب، ما يعطّل العمل بطلاقة، أو إفراغ ما في العلب ممّا وضع فيها بعد جهد جهيد من الجدّ، وحرص شديد من الحفيد “فارس في تتظيمها، فيكون الحلّ هو إقصاء الحفيد المشاكس “باسم ” من ساحة العمل، وإبعاده ولو مؤقّتًا، ريثما تهدأ عاصفة الغضب، وتنتهي موجة الانزعاج فيعود إلى مربّع العمل، بعد انقضاء فترة إخراجه منه بإنذار قصير المدى.

أليس في هذا الجوّ الرّومانسي فائدة نفسيّة؟ أليس في هذا النّشاط فائدة علميّة؟ أليس في هذا العمل فائدة تربويّة؟ فوائد عديدة تُجنى من اللّقاء الأسري.. فمن وفّره وأتاح الفرصة؟ إنّه الحجر الصّحّي بواسطة الحضن المنزلي؟ ومن أجْبَرَ عليهما؟ إنّه فيروس كورونا، وما أدراك ما الجائحة التي تبعث على العمل الإيجابي والنّشاط المفيد.. فحمدًا لك يا ربّنا المنعم المتفضّل.. وشكرًا لك بإيجاد هذا الوباء، مع الرّجاء في رفعه عنّا لنستقبل حياتنا بأعمال كبيرة، مستفيدين من الابتلاء منه، بما يعود علينا بالخير العميم..ياكريمياحليم..

الجزائر يوم الخميس: 13  من   شوّال   1441ه

06  من يونيو   2020م

                                                              

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى