الميتا سرد وتعدد الأصوات في رواية: تاج الياسمين لـ (بشرى أبو شرار)
وليدة محمد عنتابي | سوريا
ينفتح عنوان الرواية وهو العتبة الأولى التي ندلف منها إلى عوالم من زهور وعطور شامية تضوعت أريجا ياسمينيا في زوايا ومنعطفات الذائقة ، وهي تستقطب ذكريات وأحداثا من عهد يمكث عن قرب يسير من وجدان كل عربي حي الضمير نقي الذمة ، تلك الأحداث التي حدثت في سورية الحبيبة والتي وقفت منها الساردة موقف المعايشة بكل تفاصيلها ودقائقها رغم وجود الأديبة في مصر ، لكن التواصل الدائم والحنين بينها وبين الأصدقاء ومتابعة مجريات الأحداث باهتمام ودراية جعلها تمتشق يراعها وتبادر إلى تدوين وتوثيق تلك اللحظات بأحداثها المهمة والمثيرة بلغة سردية تقارب الشعر بصورها اللافتة وعاطفتها المتأججة ببليغ أثرها وتأثيرها .
حكايات عن جراح ودماء وشهداء، شكلت (ملحمة وطن يهدي بعضا من مواقيت أيامه… يوم غادر في قافلة عشاق الوطن تاركا كل متاع، وجهته جبهات مفتوحة) .
تتعدد الأصوات في بهو الرواية حاملة معها عبق الياسمين الشامي ، من نزار بني المرجة في نافذة حروفه التي تبث الأمل وشروق فجر جديد، إلى شرفة عبد الرحمن مهنا حيث تتعانق الألوان وتتهامس اللوحات مترنمة بأناشيدها الخالدة مزامير كونية لملحمة مجيدة .
وقد طيرت داربن عاقل كل حروفها بعد طول غياب غير عابئة بتعب قلبها من تراب الطرقات على حافة انتظار ، لعودة أبطال رافعين رايات النصر .
حيث ينهض فاتح نعال مكملا مسيرة آلامه من روسيا إلى مدن المنافي البعيدة ، مقتربا من بشارة النصر وأفراح العودة .
يتراءى علي صوص ابن مدينة دورا على شرفة ذكريات حية في وجدان الوطن .
كثيرة هي الأصوات ومتعددة في مروية تتوجت بالياسمين كناية عن الغار الذي هو في المتعارف عليه رمز النصر ، لكن الأديبة ارتأت بذائقتها الفذة وبصيرتها الثاقبة أن تستبدل الغار بالياسمين مسبغة خصوصية اشتهرت بها بلاد الشام وعلى وجه الخصوص سورية بعاصمتها الأبدية دمشق .
مروية ترصد بالقلب قبل الحواس ما تزاحم وتراكم من جائر الحدثان ومؤلم الأثر ، على ثرى يمتد من القلب إلى فضاء أرواح تيمها العشق لوطن تكالبت على تقطيعه مدى من مطامع وأحقاد ، في ظلمها وظلاميتها ووحشية هيمنتها .
تتراءى صورة الأم في كل وداع لتهمس لها بحنجرة باكية مذكرة لها باللقاء ، حيث تنفتح بوابة الأمل على حتمية اللقاء ، تشي بأمنيات على قيد الإنجاز .
تداعيات لذكريات حافلة تعلو فوق السرد ممتطية متنا من أثير التأمل وفضاء التأويل، في أجواء حميمية من شفافية المشاعر وترف اللغة وبهاء الإيحاء.
من هدية عبير قتال التي وشمتها بحروف من قلب محب ، بحنين معتق بصبو إلى الخروج من المنفى والارتماء في حضن الوطن.
في حين يمتد عمر جمعة من مخيم جرمانا متجسدا في ملامح ابنه وقد ارتدى البزة العسكرية وفي يده رشاش، رانيا لنصر قادم، (كم من الأشياء هي من ذواتنا وأرواحنا لا يحتمل الرحيل إلا بها .
دوما مايكون الرحيل غير المكتمل ص129 ..
دوما هناك من يرحل جسدا وتبقى أشياؤه تدل عليه ) .
إنها في حرقة لوعتها وقد رحل الوقت عن الوقت ، كان الحلم أوسع من مساحة وعيها وقد تراءى لها أن رفاق ميرابو يريدون أن يعطوها شيئا يخصه .
تستيقظ المواجد وتنهمر الدموع ويسأل اللاوعي سؤال الدهشة: (أنت هنا ؟ نحن كنا نظنك استشهدت) ..
يستمر الحلم في عز اليقظة ويتمظهر الشهيد في عدة مدن سورية بالاسم العسكري آخذا حيزا مجزيا من مخيلة الساردة، مترائيا لها في مشاهد مختلفة متقطرا من مسامان الفقد والغياب، ليورف في مزارع غار، وتيجان ياسمين ، متصاعدا كنور قدسي الى السماء .
وفي منتصف تأمل سادر هو (محمد الركوعي يطل بصوته عبر الهاتف، رنة الصوت دمشقية والشجن فلسطيني ، والروح متشظية على جدارية لوحة بلون الحياة) .
في حين ينهض مطران هيلاربون كبوجي متصاعدا كبخور جليل إلى أمجاد السماء (يحط على تراب فلسطين ؛ … سألوه مبعدا في روما …_ فلسطين في قلبي .
هناك تقتفي أثر معلولا هناك في بيت لحم حيث ميلاد المسيح هناك حيث القدس كنيسة القيامة، توقد ألف شمعة .. صوت مسيحي عربي مدافع عن فلسطين حتى الدقائق الأخيرة … يصلي لأجل فلسطين ولأجل سورية) .
يوسف حطيني ومدن المنافي البعيدة والبيت الدمشقي وحكايات الوطن وذكريات لا تغيب عن ساحة البال .
تتقاطع الأصوات وتلتقي في بهو الرواية تتقارب وتتباعد ، تشهد اغتيال المكتبات واندثار الحروف ، ومن رماد الوجع والحزن ينفض الفينيق جناحبه مجتازا غابات الحرائق إلى فضاء نوراني مجددا معاهدة الحياة .