النحو للكلام كالطهو للطعام لا كالملح
طاهر العلواني | كاتب مصري
اعلم – وقاك الله شر اللكنة، وسوءَ المنقلب في البيان – أنّ النحوَ للبلاغة كالمادة والعنصر، وللفصاحة كالإكسير والجوهر؛ ما نشمت ريح البيان في العربية حتى بلغت من التيه والعجب بين اللغات ما بلغت إلا منه؛ هو دستورُ العربية الذي شقَّ أمواجَ اللكنة بسفن البيان، فلا يَتِدُ قدمَه في روضة الفصاحة إلا من باحَ له النحو بأسرارِه، ولا يقف من البيان على طرائف مطارفه، ولطائف زخارفِه إلا مَن حلَّ من النحوِ زُرُرَه، ورُزق فيه فضلَ نظرٍ، ورسوخ فكرة، وصفاء ذهن، وقريحة حاضرة؛ ألا ترانا نقرأ قول النحويين: إن الإخبار بالمصدر عن الجثة مبالغة، وإن إيقاع اسم الفعل موقع الفعل مبالغة، وإن حذف ما يعلم جائز، إلى آخر تلك المآثر البيانية، ثم لا ننتبه لها؟! وإنما كان مصدر الآفة من الفصل بين العلوم العربية، وإنما هي كنسيج لا يلتئم آخر خيط فيه إلا باتفاقه مع أول خيط. ومن ههنا كان الشيخان الإمامان الجليلان عبد القاهر الجرجاني، وأبو القاسم الزمخشري طرازًا عجيبا، ونمطا فريدا بين العلماء؛ لقد حازا من فقه النحو وأسراره ما نبهوا به القلوب من رقدتها، وداووا العي الفاضح في دلائل الإعجاز، الذي هو المادة الأولى لمعنى التذوق، ثم أخذ الزمخشري ذاك الفقه العالي من الشيخ، وأودعه كتابه الكشاف؛ فكان أثالا أنشأ به أثالا، لم تسمح بمثله قريحة، ولم يكن له نظير بين الناس، حتى إن الذي يتناول الإعجاز كان عيالا عليه، ومن رام هذا الباب بغيره نكص على عقبيه؛ فإنك ترى فيه من السحر ما إن تأملته أطلتَ العجب، وما ذاك إلا لمعاني النحو؛ ولا يعتريك شك في أن قول النقاد لكلام: جيّدُ السبك، لا يريدون به إلا أن المعاني النحوية مستقرة في موضعها، وأنت إذا تأملت قول أبي تمام – مثلا -:
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُه**وأريُ الجنى اشتارتْه أيدٍ عواسلُ.
أفكنت تظن أن قوله: لعاب الأفاعي، مبتدأ؟ إنما هو خبر مقدم؛ من حيث إنه أراد أن يشبه مداد القلم بلعاب الأفاعي؛ فإنه إذا كتب الأوامر وغيرها أهلكَ وفعل في الناس ما يفعله لعاب الأفعى، وإذا كتب الرغائب ونحوها أبهج وأوصل إلى النفوس ما يحصل به ما يشبه جنى النحل. فلو ذهبت تجعل لعاب الأفاعي مبتدأ أفسدت الغرض؛ ومثله:
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي**عليَّ ذنبًا، كلُّه لم أصنعِ.
فإنك ترى النحويين يرجحون نصب كلّ، وهو يفسد المعنى؛ ألا تراه ينكر أن يكون فعل شيئا من هذا الذنب جميعِه؟ والنصب على أنه أراد: لم أصنع كلَّه، معناه أنه فعل بعضه؛ ولست تشك في أنه لا يريد ذاك، وإنما ما ذكرت لك؛ فاعرف فضيلة النحو وشرفه.
ثم إذا رغبت في أن تجاريَ في الفصاحة والبيان، وتنازع فيهما قصب الرهان، ولا يذهب بك شيء يمنعك الفصاحة، ويحميك البلاغة، فانظر إلى أغمض من ذلك مسلكا، وأذهب منه في تذوق المعاني النحوية، وهو أنك إذا وقفت على قول النحويين في البدل بأنه: التابع المقصود بالحكم، ثم على قولهم: إنه على نية تكرار العامل، فهلا سالت نفسك: هل ثَم فرق بين أن يذكر العامل في البدل وبين ألا يذكر؟
وبيان ذلك أنك متى ذكرت العامل أخرجت المبدل منه من حيز القصد بالحكم، وحيث لم يذكر كان له من القصد نصيب؛ كقوله تعالى “صراط الذين أنعمت عليهم”، فلم يذكر “اهدنا”؛ من حيث إن المبدل منه مقصودٌ بالحكم أيضا، وليس البدل إلا تفسيرا للصراط المستقيم؛ وقوله تعالى “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”، فلم يُعِد “على”؛ من حيث كان كل مسلم مخاطبا بالحج؛ فإنه من جملة أحكام الإسلام، وإنما خوطب به المستطيع على جهة الإيجاب، وسائرُ المسلمين من حيث إنه حكم شرعي، فاعرفه!
ثم إذا تأملت قوله سبحانه ” قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم”، وجدتَ عقلك يومئ إلى أن هذا القول لم يلقى إليهم من حيث هم مستضعفون، وإنما من حيث هم مؤمنون مستضعفون؛ فجيء باللام ليخرج المستضعفون ممن بقي على الكفر.
وقوله سبحانه “ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا”، علمتَ يقينا أن جعلَ السقفِ ليست للكافرين، وإنما لبيوتهم؛ فجيء باللام تخليصا للبيوت للقصد بالفائدة. ولا يعترض على هذا بما وقع في كلام الناس؛ فإن هذه الوجوه هي التي بها كانت الفضيلة للقرءان، وكان الإعجاز الذي تحدى الله به هؤلاء القوم.
ولولا أن يطول المقال لأريتك العجب العجاب، ولأيقن قلبك بأن ميدان البلاغة الأول هو النحو، والله الموفق.