رواية “خان الشابندر” الفضول التأويلي واكتشاف ما حجبه النص

عقيل هاشم | أديب وناقد

تتوطد حركة السرد في رواية “خان الشّابندر” بواسطة ما يتلقاه القارئ من إشارات سردية دالة على تحوّلية أصيلة في مسار الحدث وتطوّره، فلحظة القراءة هي لحظة لبروز مستويات النص التركيبية والدّلالية، التي تكشف عن انبثاق نمذجة سياسية لا تهيمن على مفاصل النص بل تندرج ضمن تفجير بؤرة التفاعل بين معطيات الحدث، وبذلك تتأسّس كمحمول جمالي يمنح حركة ما لثيمة النص الأساس .

“أم غايب امرأة صالحة، تسللت ذات ليلة من مقبرة باب المعظّم وسكنت هذا البيت. كانت تعمل ممرضة في مدينة الطب القريبة من المقبرة، قبل أن يقصفها الأمريكان ويقتلوا من فيها (هل هي ميتة حيّة أيضًا؟). هي الآن تعيل مجموعة من الصبية والفتيات المُشردات.. تلتقطهم من الشوارع، أو يلجأون إلى بيتها. ونحن نساعدها بما نقدر عليه بين الحين والآخر. دوّى انفجار هائل في مكان ما قريب أثار موجة من الهباب والدخان، تلته رشقات متقطّة من الرصاص ثم انفجار آخر أقرب من سابقه..” 

“كان نهاراً رائقاً من نهارات بغداد المكتوية في العادة” 

“ما تزال بغداد تدهشني بسحرها المُمزق بالقنابل”

عليّ الصحافي يريد أن يعمل تحقيقا عن بيوت الدعارة، في منطقة خان الشّابندر، وبالفعل يبدأ رحلته مع صديق يصحبه إلى بيت أم صبيح، وهناك يتعرف على تلك البيوت عبر مشاهد حوارية أشبه بالاستقصاء، تهيمن على السرد داخل البيت، فتتكشف حقائق عن الفتيات العاملات في الدعارة، ضوية وهند المثقفة معلمة الجغرافيا، ولوصة (إخلاص)، لكن تتجاوز هذه الحكايات السيرة الشخصية لهؤلاء الفتيات إلى سرد غنائي شجي عن عوالم المهمشين، وضحايا الحروب، فكلّ فتاة من الفتيات وراءها حكاية مأساوية وضحية لواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي متشابك.

فحكاية ضوية على سبيل المثال، تكشف عن واقع الفقر وتجارة الأجساد التي بدأت بزنا المحارم، ثم انزلقت في الانحدار والسقوط إلى احترافها بيع جسدها. أما هند فتكشف عن الصورة المفزعة للحرب التي أفقدتها كل شيء، الزوج والابنة وأيضا جسدها الذي تقدمه لمن يدفع، أما إخلاص “لوصة” التي قادت الصحافي مرة ثانية إلى بيت أمّ صبيح عبر طريق مُهدّم، وعابق بالأزبال وأزقة مُعتمة، فكانت بمثابة البوصلة التي كشفت عن ميليشيا ملا جليل التي استشرت في الواقع العراقي بعد الاحتلال، وصارت الكلمة لأفرادها الذين يفرضون الإتاوات مقابل الحماية، وهو ما كانت تستجيب له “أم صبيح”.

يحاول الكاتب انْ يشدّ القارئ معه من خلال دفع المجريات الى التصاعد في الاحداث وتناميها تدريجيا بواسطة السّرد المشوّق والممتع وإضفاء نوع من السخرية والتهكم، فلا خيال ولا حلم بسيط يعيش، ولا فكرة تنمو لتعلن انها للحياة خلقت، انه اسلوب تقريري، لا تزويق فيه ولا تنميق، بل كل ما فيه هو روح الحياة المثخنة بالهم والصراع النفسي .

أما صورة الملّا جليل فتكشف هي الأخرى عن الوضع الأمني المتردي في العراق، وكيف استغلته الميليشيات لتسيطر على المناطق التي غاب عنها الأمن وتفرض قانونها الذي يأتي مناقضا للأيديولوجيا الدينية التي ترفع شعاراتها وتحاكم الآخرين بناء على مخالفتها، فالبعض من رجال الملا يأتون لقضاء وطرهم لدى فتيات أم صبيح ويسخرون الدين لخدمة نزواتهم، من دون أن يدفعوا.

أول ما يستوقفك، وأنت تقرأ رواية “خان الشابندر” للروائي محمد حياوي، هو عنوانها المثير للجدل، ليس فقط بالنسبة للمكان الذي تدور أحداثها فيه، وإنما ما يثير جدلا هو ارتباطه بجميع الأحداث التي شكلت بنية السرد من وقائع وشخصيات وأمكنة.  من هنا نفهم قوة العنوان وجاذبيته؛ لأنه يستفز الذاكرة من جهة، ويسخر من الواقع من جهة ثانية، فـ “المكان” يُغني الرواية ويمنحها فضاءً سرديا، لاسيّما الجانب التاريخي منه كمحطة لتداول الفضة ومقايضتها. 

تطرح الرواية مشكلات الواقع العراقي المرّ بلغة جميلة، تحاول تلطيف رداءة الوضع الإنساني وجعله وضعا قابلا للسرد، على الرغم من معاناة الأبطال المسحقوين، حيث تدفع تلك الرداءة هؤلاء المغضوب عليهم، لاطفاء غضبهم في أحلامهم وحواراتهم الداخلية. لا شيء يمكن أن يتغير، فجميع الناس باعوا أنفسهم بطريقة أو بأخرى.

وإذا كانت هذه الرواية قد وضعت لنفسها قواعد كتابية خاصة، فإنها بالضرورة تفرض علينا البحث عن سبل جديدة لقراءتها وفق خصائصها الفريدة التي تشكل نظامها السردي والدلالي وتأويل مضمراتها، ولعل فضولنا التأويلي يدفعنا لاكتشاف ما حجبه النص وما حذفه بواسطة قرائن دلالية يبثها الروائي بتقنيات خاصة.

إن الأحداث لا تقع من تلقاء ذاتها، فلابد لها من صانع يصنعها وهي الحافلة بالشّخصيات التي تجد نفسها في توق لتلبية حاجتها وتحقيق مصالحها. 

إن المرأة في “خان الشّلبندر” تقف شاهدة على آلاف من بنات جنسها اللواتي تُمتهن كرامتهن من أجل لقمة العيش. فالمرأة هنا تمثل البؤرة المركزية لهذه الرواية، بعد ان اختارها الروائي لتكون رمزا لطبقة اجتماعية كاملة تخوض صراعا ضاريا من أجل البقاء، وإن وصفها على أنّها ترمز إلى معركة مصيرية لا مهرب للإنسانية منها؛ معركة سيتقرّر فيها مصير الإنسان ضدّ الاستلاب بكل أنواعه وأشكاله .

لا يمكن تصور حدث من دون زمان ولا مكان. وإذا كنا قد لاحظنا أن المكان يتسم بطابع الازدواج في هذه الرواية؛ فإننا نلاحظ بالمقابل هيمنة مطلقة للزمن الأفقي الرتيب “الماد” على الزمن العمودي “النفسي”، وإن هذه الهيمنة من شأنها أن تشي بدلالات كثيرة، من بينها عمق البؤس الروحي لدى الشخصيات. وحتى عندما نعثر على بعض الإشارت نجدها موغلة في الفقر، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه.

“إن أحببتنا، ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالماً.. لكننا سننقذ روحكَ من الغرق والتحطّم.. الغرق في الحياة الفاسدة حيث يَلتَهِم عقلكَ روحك.. لكن مع ذلك سنحبّكَ كما لم يفعل أحد من قبل.. وسنحدّثكَ عن القِصص والحكايا.. القِصص التي لم يسمع بها أحد من قبل، أو لم يرغب أحد بسماعها.. سنفتح لكَ كنوز صدورنا الحانية، ونأخذكَ إلى بحر الخيال..”

الخان، هذا المكان الذي سوف يشكل نقطة التحوّل في السّلوك نحو المطلق، لأنّ ارتباطه بين ما يخبو من جمال في دواخل الإنسان وما يرومه من أسباب الوصول إلى الغايات اللامنتهية التي تكشفها لذّة اللقاء بالمرأة، وهو ما يمنح التجلي شكله الحسّي، باعتبار جوهر العبادة غير معزول عن مدار الوجود الشّامل.

“علي” بطل الرواية، صحفي عاش خارج العراق لأكثر خمسة وعشرين سنة، يعود بعد سقوط الديكتاتور، ليعمل صحفياً في جريدة محلية، يصطحبه أحد أصدقائه لزيارة بيت دعارة بغرض الاشتغال على تقرير صحفي أو “بحث اجتماعي” كما جاء على لسانه، عن وضع الفتيات في تلك الدور والسبب وراء انخراطهنّ في ذلك النوع من العمل، فيدخل بيت “أم صبيح” لتبدأ قصته مع اضطرابات الشخصية العراقية التي طحنتها الكوارث المتلاحقة لتمسخها وتحول شحصياتها إلى موتى احياء.

هناك في بيت الدعارة وتحت أصوات الرصاص والقذائف، تنشأ علاقة حب بين بطل الرواية و”هند” إحدى نساء الدار.. علاقة لا ينقصها الوعي ومعرفة مرارة الواقع عن قرب.. “ما أن استعدتُ وعيي بعدَ القُبلة الطويلة، حتّى قالت هند ضاحكة: ـ الآن امتزجت روحكَ الهائمة بروحي المحترقة. ما الذي ورَّطَكَ معي؟ سأنتشلكَ وأحلّق بك في سمائي وأنا أخفق بأجنحتي الجبّارة. حتى ترى ما لم تره من قبل..”

وفي خط اخر للرواية، نجد الرجل الذي قد أعلن براءته من هذه الحرب، وعلى الرغم من انه قد أجبر على الدخول فيها والإذعان لأوامر الدكتاتورية قسراً، مثل بقية الجنود الاخرين الرافضين لها، وهي دعوة لنبذ الحرب بكل تفصيلاتها، جنوحاً للحياة الهادئة التي يحلم بها هو وأقرانه .

“أنا شخصياً استشهدتُ في (معركة) القادسية، ثم تبين أنَّني فُقدتُ في (معركة) “الشيب” وبعد ذلك، اُسِرتُ في إيران. وبعد سنين وجدتُ نفسي في مَصحّة عقليّة. هذه السيارة الثانية التي أقتنيها بعد أن احترقت الأولى في انفجار (منطقة) الصدرية. خرجتُ منها محترقاً، وتعجَّبَ الناس كيف نجوت من الحادث! أنا ميت من زمان يا أستاذ.. فهل يخاف الميّت من الموت؟”

وفي مكان آخر، يعزز المؤلف تلك الفكرة بوضوح حين يلتقي بطل روايته بأحد أصدقائه القدامى “سالم” الذي أُعدِمَ منذ قرابة الربع قرن، بسبب رفضه المشاركة في حرب الثمان سنوات. “سالم” الذي أعيد إلى الحياة بعد ربع قرن من مقتله، بقرار من مخيلة بطل الرواية، نجده مواكباً وعارفاً بتفاصيل الخراب الذي يعيشه البلد وأبنائه، فحين يلجأ إلى الحب ويتذكر زميلته في الجامعة وحبيبته “غدير” يحدّث صديقه القديم “بطل الرواية” الذي قابله صدفة متصوراً حالها في تلك اللحظة: “ربما تزوجت، ولفّت فوطة كبيرة (حجاب) حول رأسها. أغلب النساء من جيلنا يبدين كذلك الآن. حزينات بوجوه شاحبة، ويلففن الفوط السود حول رؤوسهنّ بعد أن نسين شبابهنّ وأيّام الجامعة الملتهبة بالأحلام. إنهنّ الآن أمهات يندبن أبناءهنّ الذين يموتون باستمرار في انفجارات الشوارع..”

لقد اعتمد الروائي على تقنية السرد المكثف، وثمّة بنائية تقوم على تنظيم الحدث وفق نسق تصاعدي ينتهي إلى صدمة في التلقي حين تخلص النهاية إلى مفاجأة محبطة لما يتهيّأُ له المتلقي بتوجيه ذكي من السارد. المفارقة (وفق ما اتفقت عليه أغلب التحديدات) تقنية سردية ذكية تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفا للنهاية المقصودة التي نكتشفها في خاتمة الرواية، إنها تقنية تحاول تنظيم هذا التناقض الذي يهيمن على حياتنا، فتغدو الحقيقة دائما مخالفة لما نتوقعه أو لما ينبغي أن يكون، وكأنها لعبة محبطة تبني لدينا فهما معينا ثم تخيبه في النهاية بعكس المتوقع. وهذه التقنية تجمع بين وظيفتين، وظيفة أدبية بارزة، تبث في النص الكثيرة من الإثارة والتشويق، عن طريق بناء مستويين من الحقائق السردية، حقيقة ظاهرة وحقيقة مخفية تبرز في النهاية وتحطم التوقع، وهو بناء يتأسس على ضحية تكون غالبا صورة اجتماعية نتخذ بواسطتها موقفا من الواقع.

“ـ مالذي يجري لنا؟ لِمَ الزمن طاغ إلى هذا الحد؟ 

ـ الزمن يكون أكثر وطأة وعدوانية في الحروب يا صديقي..” 

عبارة قد تختصر حجم اللوعة داخل النفس البشرية التي تعيش الخراب وتتنفسه، فالحياة داخل الرواية تقترب من الوهم، بينما الخراب هو الحقيقة الدامغة. إذ حاول المؤلف تعزيز حالة الوهم المعاشة، بحركات وأصوات لها دلالاتها. طيور ضخمة تطير، لا يرها، بل يسمع خفق أجنحتها العظيمة. أصوات تدله على شيء ما يحتاجه، لا يرى مصدرها، يسمعها فقط. تلك هي الحياة في بلد الكوارث، يأمرك المخفي أو الغائب أو حتى الميت منذ زمنٍ بعيد فتجيب صاغراً.

أغلب نساء الرواية أحببن بطلها “علي” الصحفي. ضويّة، هند، أخلاص “لوصة”، حتى الصغيرة زينب بائعة الكعك، التي وجدت فيه أباً مشتهىً، بدلاً عن أبيها الذي لا تتذكره حيث أكلته الحرب حين كانت طفلة، ونيفين، زميلة علي في الجريدة التي يمكن أن يتلمس القارئ صدق شخصيتها داخل الرواية، إذ تكاد أن تكون الشخصية الأكثر قرباً للواقع، والتي كلما حدثها بطل الرواية عما يجري معه من قصص ومشاهدات وأحداث، كانت تحاول أن تعيده إلى وعيه، معتمدة تذكيره بأن كل ما يقوله مجرد أوهام. وتلك اشارة مهمة على سيطرة المتخيل لأغلب أحداث الرواية، باستثاء الخراب الذي ظل ماثلاً أمام الحقيقة بكل وضوح. وعلى الرغم من الخراب، يظل نهر دجلة محتفظاً بقدسيّته، حيث يذهب الناس عن إيمان وقناعة، يغطسون بالنهر كي يتطهروا. “ضويّة”، النموذج على ذلك في الرواية حين ذهبت إلى النهر مع “علي” كي تتعمد بالماء على الطريقة المندائية، وحين عادت، مرّت على أم غايب التي تحتضن العديد من الأطفال المشردين، لنعرف أن ضويّة تشتغل عند “أم صبيح” لتعيل أولئك الأطفال، وهناك غيرها أيضاً.

أشياء كثيرة يمكن أن نخلص لها في هذه الخاتمة، لكن الواضح أن الكاتب المثقف المهموم بواقعه وحامل لرسالة قيمية أخلاقية، يمتلك قدرة على تطويع هذا الجنس الأدبي وتمكينه من تحمل وجهات نظر عديدة ودقيقة، هي الأصعب على الاطلاق، إذ لا يحتاج تجسيدها إلى اللغة فقط بل إلى بلاغة في الانتقاء وبلاغة في التنسيق السردي. لأنه المسؤول عن توجيه قراءة المتلقي وتنظيم آفاقه التأويلية، خصوصا حين انفتح بهذا الجنس الأدبي على الواقع وتفاعله معه واستخلاص قيمته الفنية من هذا التفاعل، ذلك لأن قيمة أي نص أدبي تتمظهر في درجة مفارقة النصوص عن الواقع.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مساء الخير والعافية
    قراءة ماتعة تعبر عن حرفية في ميدان النقد. تحيتي أديبنا القدير الأستاذ عقيل هاشم مع خالص الأماني بتجدد الإبداع.
    لطيف عبد سالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى