قراءة في رواية “مقبرة العظماء”.. حين تنمو شقائق النعمان
سمر تغلبي | أديبة وناقدة سورية
تقديم:
يقول الكاتب مقبل الميلع في توطئة كتابه: “سُئلتُ مرة: مع من تحبّ أن تشرب قهوتك؟
أجبتُ على الفور، مع عظماء القرن العشرين، وهذا ما كان نزلتُ إلى مقبرتهم، اجتمعت بهم، استمعت لأحاديثهم، وشربت معهم القهوة، وكانوا جداً ودودين.” ص7
وجاءت فكرة الرواية من هنا…
لم تكن فكرة الأحداث التي تجري في مقبرة جديدة عليّ، فقد تابعتها في نهاية القرن الماضي في إحدى مسرحيات الفنان دريد لحام والتي حملت اسم “شقائق النعمان”. هذه المسرحية التي أتت كجزء ثانٍ لمسرحية “ضيعة تشرين” التي مجّدت الشهادة والنضال من أجل استرداد الحقوق. لتأتي “شقائق النعمان” وتحكي حكاية الاتجار بالشهادة والشهداء وليكون جزء من أحداثها يجري في المقبرة التي يلجأ إليها “الشهيد” العائد من الأسر بعد أن يرفضه ذووه الذين حصلوا على الكثير من الامتيازات لأنه سُجِّل في عداد الشهداء.
قفزت إلى ذاكرتي هذه الأحداث حين استمعت إلى قراءات مختلفة لأدباء عدة حول رواية مقبرة العظماء، ورأيت أن الاختلاف بينها وبين شقائق النعمان هو في الشخصيات التي تدور حولها أحداث المقبرة، فهنا لا أحد إلا القادة المؤثرين في أحداث القرن العشرين السياسية التي وصلت بالعالم إلى ما هو عليه اليوم. ولكن بعد القراءة وجدت الاختلاف كبيراً.
في فضاء الفكرة:
الفكرة مبتكرة، فأن يكون الموتى هم أبطال الرواية فهذا أمر غير اعتيادي، والأمر غير الاعتيادي الآخر هو أن يجتمع كل هؤلاء على اختلاف قومياتهم وأديانهم ومللهم في مقبرة واحدة؛ ففي نظام عالمي صنعه الكاتب في روايته يدفَن العظماء في مقبرة واحدة خُصّصت لهم، ووضعت تحت الحراسة المشددة..
تحيل هذه الفكرة إلى ذوبان كل هذه القوميات والملل أمام الموت فلا يتبقى للفرد إلا إنسانيته التي يتساوى بها مع الجميع مهما حاول التميّز.. ففي مقبرة العظماء لا غالب ولا مغلوب، ولا ظالم ولا مظلوم، هنا لا يعلو إلا صوت الإنسان فلا اعتبار للعرق نازياً كان أم فاشياً ولا اعتبار للقوة غربية كانت أم شرقية،.
لكن ثمة سلطة واحدة تعلو فوق كل السلطات، وهي سلطة المال..
تبيّن ذلك من خلال المليونير الذي تم دفنه في المقبرة مع العظماء مع أنه ليس منهم.. هذا المليونير الذي يزن الأمور بميزان المال ويقيّم الأحداث بمعياره… ظهرت سلطته التي غلبت كل السلطات من خلال محاولته شراءَ الأوسمة التي حصل عليها العظماء في حياتهم..
في فضاء الحكاية:
إن أردنا تتبع الحكاية في مقبرة العظماء فسنجدها تبدأ من مشهد قيامة الموتى وحركة الجماجم… “الجماجم تتحرك… الموتى ينهضون… الجماجم تركض” ص28
فحركة الجمجمة يميناً وشمالاً في حضور حفار القبور تُعرّضه لأزمة قلبية نتيجة الخوف من الجمجمة المتحركة التي يعلم يقيناً أنها تعود لأحد الجنرالات..
هذا الحدث الذي تبين بسببه أن هذا الجنرال قد مات بجريمة قتل، وأداة الجريمة هي مسمار “وكانت المفاجأة كبيرة حين قلبها ووجد فيها مسماراً طويلاً وببديهة خبير، أدرك أن الفأر قد حُشِر بين المسمار وعظم الجمجمة، ولما حاول الفكاك، والإفلات رافقته الجمجمة في حركته” ص36.
هذه الحكاية التي لم يكن نصيبها في الرواية إلا صفحات قليلة إذا ما قورنت بحجم الرواية كاملاً.. فالحدث تمت متابعته من قبل الانتربول ليصل في النهاية إلى تعميم حالة قتل الجنرالات حيث اعترف الآلاف بقتله بينما كانت نية القتل موجودة عند الملايين…
لم تحظَ هذه الحكاية بالغوص في تفاصيلها وتفاصيل التحقيقات الجارية حولها وصولاً إلى النتيجة التي ذُكرت باختصار.. وهذا برأيي أضعفَ المسار الحكائي في الرواية والذي كان من الممكن أن يمنحها بعداً تشويقياً أكبر..
الحوار والفضاء الزمني:
اتّكأ الحوار في الرواية على المعلومات التاريخية التي ميّزت القرن العشرين والتي كان أبطالها هم مرتادو مقبرة العظماء.. فحين يجتمع هتلر مع رابين وتشرشل مع ديغول وكينيدي مع ستالين وعبد الناصر مع عبد الحميد وغاندي مع المليونير فلابد أن يغلب الحوار بينهم على السرد..
ولابد أن يكون حوارهم هو مراجعة للأحداث التاريخية التي قاموا بصناعتها، وتحليلها فيما بينهم.. وهذا ما غلب على الرواية.. فمن الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، وما بين الهولوكوست ومجازر صبرا وشاتيلا، وما بين الأرمن والأتراك واليونانيين، امتدت الأحداث التي تحكيها الرواية على لسان أبطالها قرناً كاملاً.. لم يبدأ في بداية الرواية ولم ينتهِ في نهايتها.. فقد حملت تداخلاً زمنياً بين الماضي والحاضر، خاصة أن جميع الأحداث التي وردت في الرواية تم الحديث عنها بعد موت أبطالها وارتيادهم هذه المقبرة المخصصة لهم..
في فضاء المكان:
من الواضح ومن خلال الشخصيات الواردة في الرواية أن الفضاء المكاني لها يمتدّ ليشمل الكرة الأرضية بكاملها.. فرغم أن المقبرة موجودة في مكان محدد، وبيت حفار القبور في مكان محدد أيضاً، وكذلك فرع الأنتربول الذي قام بالتحقيق في الجريمة، إلا أن الأحداث التي حللها هؤلاء العظماء لم تحدث في مكان محدد؛ وإنما امتدت إلى العالم كله.. من ألمانيا لأمريكا، من فرنسا للاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا، من تركيا لمصر لفلسطين… من الهند للباكستان وبنغلاديش…
هي رواية عالمية ويشهد على ذلك أبطالها على اختلاف جنسياتهم، وأحداثها على اختلاف أمكنتها…
في الفضاء الأنثوي:
لم يكن للأنثى وجود في مقبرة العظماء، إلا من خلال مشهدين اثنين ظهرت فيهما الأميرة ديانا في حديقة المقبرة خارجة من البحيرة بجسدها المبلل لتدخل في حالة حب مع كينيدي على مرأى من السلطان عبد الحميد..
ولم يكن لهذين المشهدين أي ارتباط بأحداث الرواية أو بحواراتها السياسية لا من قريب ولا من بعيد، فلو تم حذفهما لما تكسّرت مشاهدها.. فكأن هذه الإضافة كانت فقط لتطعيم مادة الرواية الذكورية ببريق أنثوي..
فكانت الأميرة ديانا المعروفة بأنوثتها الفياضة مادةً لهذا التطعيم لتعديل الطغيان الذكوري..
في فضاء اللغة:
في مقبرة العظماء كانت اللغة الذهنية هي الطاغية في الأعم الأغلب، فمع الحوارات التي لم تخرج غالباً عن الإطار السياسي لأحداث القرن العشرين، كان من الصعب بمكان، الخروج عن اللغة الإخبارية التقريرية التي تم بواسطتها سرد الأحداث على لسان العظماء. بينما كان حضور اللغة الشعرية خجولاً في مواضع قليلة استثمرها الكاتب في وصف المكان: “كانت البحيرة تتزيّن كلّ مساء فتصبغُ وجهها باللون البرتقالي أثناء مغيب الشمس فتبدو كالأميرة العاشقة تحافظ دوماً على جمالها وأناقتها فترتدي في الليل ثوباً أسود وتزيّن جبينها بقمر فضّيّ ينير إطلالتها ويزيد جمالها لتصبح معشوقة محبي الجمال.” ص165
كما استثمرها في وصف الحب والأنثى: “كان دليله عبق العشق، وشذا الطبيعة، الذي ينثره عطر الحبيبة التي كانت تمشي بين الورود، تقطف زهرة، وتشمها بنشوة. ناهدة الثديين ديانا، عاجية بيضاء مصقولة الأطراف ناعمة يدثرها معطف أسود أنيق، كان يوماً لرجل نبيل، تركه يجفّف حبيبات الندى، فوق جسد تزيّن بحبات اللؤلؤ المتناغمة، تشابكت أطرافه مع حلمتين متمردتين كغزالين توأمين.” ص291
ولابد ونحن نتحدث عن فضاء اللغة في الرواية أن نشير لوجود بعض الأخطاء الإملائية إضافة لعدم استخدام علامات الترقيم على الشكل الأمثل…
وختاماً…
فإنّ غرابة الفكرة تجعل من هذه الرواية مادة مغرية للقراءة، وتمنح الرواية ميزة أساسية تمنحها صفة الفرادة.