الحصيف من لا يقع فيها.. تسع مصائد للمبدع
إياد شماسنة | شاعر وأديب فلسطيني
ليس من باب الحصر تعداد مساقط المثقفين وأخطاء المبدعين، وإنما هي محاولة لاستدراك بعض الخلل وتتبعه وقرع الجرس للتحذير منه، وخصوصا عندما ترى الطاولة تنقلب في وجه الرواد والمشتغلين منذ عقود بالهم الثقافي بدعوى التجديد والتميز، وأمام تحولات العمل الثقافي من عمل يخاطب الناس إلى عمل يبحث عن رضاهم، في هذه المقالة سرد سريع لعدد من النقاط التي تناقش أهم ما يمر به المثقف من البداية في السلم وحتى القمة أو السقوط.
المبالغة في الترويج
من الصعوبة بمكان في عالم الأعمال والمنافسة والسرعة أن يصل أي منتج أو خدمة إلى المتلقي أو المستهلك دون بث الأخبار عنه وعن ايجابياته، وينطبق ذلك على الأعمال الأدبية والفنية التي قصد بها الوصول إلى جمهورها واطلاعه عليها .يختلف المثقفون عادة في أهمية الترويج أو تسامي الكتب عن الترويج لها بالإعلان عنها، وبعضهم يجد في ترويج الكتب إساءةً للأدب والكتابة، لكن النقطة التي تثار هنا هي علاقة الترويج الممتاز بالموهبة غير الممتازة او المبتدئة.
يقول الكاتب ” لوغان برسال سميث ” إن الكتاب الذي يروج بمبالغة، قبر مُذهَّب للموهبة غير الممتازة، ذلك لان الجمهور يتمتع بذكاء جمعي مهما استهوته الإعلانات وغررت به الدعايات المكثفة، لكنه، يمكنه في النهاية من اكتشاف حقيقة الكتاب الذي وصل إلى يديه وانفق من اجله نقودا كان بإمكانه ان ينفقها على أشياء أخرى، المقتل الذي يصيب الموهبة التي يتم الترويج لمنجزها الأول بمبالغ هو أنها تصاب بالغرور الاجتماعي وتقتنع بما يوحي إقبال الناس على عملها تحت تأثير الدعاية إن عملها متقن وإنها وصلت القمة، فلا تقبل نقدا ولا تقبل نصيحة، ولا ترى حاجة للتقدم والتحسين والتحرير شيئا، في نفس الوقت يبدأ القارئ في اكتشاف ما وقع فيه، يزول التأثير الاجتماعي والانطباع الأول الذي تمت صناعته عن الكتاب وتبدأ رحلة موت الموهبة، وخصوصا عندما تفك على وجه السرعة في العمل الثاني استثمارا لنجاح العمل الأول.
جمود الموهبة
تقول الروائية المغربية رزان نعيم مغربي” إن الكتابة هي أن تتحدى الموهبة بالمثابرة، لأن الموهبة هي شعلة ثابتة، لا يمكن أن تنمو دون أن تتحداها المثابرة على تنميتها، وتغذيتها، وطبقا لقوانين الحركة فان من لا يتقدم فانه سوف يتأخر بالضرورة ليحل محله متحرك آخر، لذلك فان الموهبة عندما تعلن اكتفاءها الذاتي وقناعتها بما وصلت إليها، فإنها تصاب النسيان، وتدخل مرحلة التراجع لأنها تغفل أنها عندما تتوقف فان إنتاج المعرفة وتوليدها لا يتوقف، والزمن لا يتوقف، وإنها بالنسبة إلى هؤلاء ستصبح قديمة باليه قريبا. وربما تذوي الموهبة بعد توقف تمرينها وتحديها وتغذيتها، وتتلاشى لتبقى مكانها التقنية او الحرفة الباردة، وفي ذلك يقول إميل زولا : ليس للفنان قيمة دون موهبة، وليس للموهبة قيمة دون عمل.
نصف الحقيقة
يقول الروائي زياد محافظة في روايته ” نزلاء العتمة ” إن نصف طبيب يقتلك ونصف أمام يقودك الى الكفر، ويقول “عبد الكريم بكار إن ” معرفة نصف الحقيقة أشر من الجهل بها، ويضيف ألفريد تنيسون إن نصف الحقيقة هي أسوأ كذبة، ويتجلى معنى نصف الحقيقة وخطره في قول جبران خليل جبران” طلبت الانفراد لكي لا أجالس ذوي نصف المعرفة الذين يبصرون في المنام خيال العلم , فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة , ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق.
إن نصف المعلومة ونصف العلم ونصف الخبر، ونصف الرأي هي أنصاف حقائق، وهي كذبات سيئة نملأ بها عقولنا، المثقف الذي يمتلك الرؤية النافذة لا يكتفي بأنصاف الحقائق، يبحث عن المعلومة كاملة ويعتزل النصفيين من الكتاب والشعراء والإعلاميين ، لان الموهبة الحقيقية لا تقف على ساق واحدة، يجب امتلاك ساقين اثنتين متوازيتين للوقوف الآمن المطمئن.
العجلة في الإنتاج
الاستعجال في الإنتاج والنشر يحطم المبدعين المبتدئين، ويحبط معنوياتهم، وخصوصا في نشر “الكتابات الأولى” في مجالات “الشعر، القصة، الرواية” كما أكد كد الأديب السعودي جعفر عمران، وذلك تصديق لمقولة هيرودوت أن العجلة تجلب الفشل مهما كان ما تفعله.
العجلة في تقديم الأعمال الإبداعية للنشر سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو النشر الورقي؛ دون مرورها بمراحل التنقيح والتحرير يجعلها عرضة لنقد حاد من النقاد، وسيل السخرية من الساخرين أو نفاق ومجاملات المجاملين. يجب أن تمر الكتابة الإبداعية بمراحلها كاملة بدءا من كونها فكرة تتخلق في الذهن إلى نضوجها في قالب لغوي متقن ومتين، وجاهزيتها للنشر لتصبح ملك لجمهورها الذي لا يمكن التقليل من شأنه أو من ذكائه.
التحزب والقبائلية
يضي الحزب بالمثقف الحقيقي، لأن الحزب فكرة ثابتة يتبناها مجموعة من الناس تصبح لهم ثقافة ووجهة نظر، أما الثقافة فهي تجديد. المثقف الجيد غير ملتزم، مجدد، يهدم ويبني، ينتقد، والحزب الجيد حزب مطيع، والحزبي الجيد من يسمع الكلام ويبرر أخطاء الحزب ويدافع عنها، الحالة الوحيدة التي ينجح فيها الحزب في استيعاب المثقف عندما يدرك طبيعته، وإمكانياته وقدراته ويستفيد منها دون أن يقيده. وهذه قليلة جدا.
التقليد الأعمى والضال
يقول صموئيل جونسون أن كل السخافات تنبع من تقليد من لا نستطيع التشبه بهم، والتشبه هو محاول التماثل، أما التقليد فركض لا طائل منها لمحاولة اللحاق مع فشل لعدم تشابه الحالات والظروف والمواهب.
الغريب أن المقلد يدرك انه يقلد، لكن ضعفه يغريه بمحاولة بائسة للحاق بظل قديم، فينسج على منوال او يعيد تقديم ما تم تقديمه وان غطى رأسه في الرمل كي لا يرى عيون الساخرين.
الشرط في الإبداع هو التجديد، وليس بالضرورة ان يكون التجديد خلق آخر لا سابق له، فقد اتفق الأوائل ان الإبداع احد أمور : تقديم القديم بأسلوب جديد، وتبسيط المعقد بأسلوب سهل ممتنع، وتجميع المشتت، والتوسع فيما قصر عنه الآخرون، والإتيان بجديد، واختصار المطول، إضافة الى الإبداعات الأخرى كالترجمة، وبذلك لا يعدم المثقف مجالاً يبدع فيه بشرط الإخلاص في المحاولة والعطاء من غير حساب حتى تنضج التجربة ويزدهر الإبداع.
تأثير ووزل
تأثير ووزل مصطلح صاغه بيفرلي هوتون في عام 1979، ووزل هو اسم لشخصية وهمية وردت في الكتاب الذي ألفه ألان ألكسندر ميلان بعنوان ويني ذا بوه (Winnie-the-Pooh)، الذي نُشر في عام 1926 في الفصل الثالث، “حيث ذهب بوه وبيجليت للاصطياد وكانوا على وشك اصطياد ووزل”، يبدأ ويني ذا بوه وبيجليت بتتبع آثار الأقدام المخلّفة على الثلوج، معتقدين أنها آثار ووزل. وأخذت هذه الآثار تتكرر على طول الطريق. ثم يوضح كريستوفر روبن أنهم لم يكونوا يتتبعون سوى آثارهم حول شجرة.
يختصر معنى تأثير ووزل بأنه يحدث عندما تتسبب الاقتباسات المتكررة لمنشورات سابقة تفتقر إلى الأدلة في تضليل الأفراد والجماعات والعامة من الناس، وتجعلهم يفكرون أو يعتقدون أن هناك ثمة دليل، وبهذا تصبح الأكاذيب أساطير حضرية وأخبارًا ملفقة، وفي زمن الفيسبوك والتواصل الاجتماعي يمكن إحصاء تأثير وزل في كل مكان حيث تحتشد التعليقات المادحة والمشاركات المتكررة لاقتباس ما للدلالة على التميز والإبداع بينما قد تكون الاشتراكات في صفحة احد تحت تأثير حملة دعاية مدفوعة، ويستفحل ذلك عندما تقاس نجومية مبدع بعدد “اللايكات” والمشاركات والتعليقات
الاحتكام إلى المغالطات
المغالطات كثيرة في عالم الفكر، والمغالطة في المنطق والبلاغة هي قياس فاسد، وهي صناعة علمية لا تفيد استنتاج اليقين في المحاجة، وقد يسلّم لها الخصم وقد لا يسلّم. المغالطة هي ادعاء غير صحيح قد يكون مبنيا على أسس وأدلة غير سليمة مما يقود إلى نتائج خاطئة، أو قد يستند إلى أدلة صحيحة ولكنه ينطلق منها إلى استنتاجات مغلوطة، ويمكن التطرق إلى المغالطات في الفكر والمنطق والبلاغة في مقالة متخصصة مفصلة لاحقا لما لها ما تأثير في إحداث خلل في البنية الفكرية للمثقف .
الإسراف في الظهور
يكثر بعض الكتاب من الجيل الصاعد من الإنتاج، يصدرون كل يوم مقالا، وينجزون رواية كل ستة شهور، ينهكون القارئ ويملأون وسائل التواصل الاجتماعي بالأخبار عن الانجازات التي لم يصل إليها أبو الطيب المتنبي، وليو تولستوي وغارسيا ماركيز، وعباس محمود العقاد، وعندما يطلع القارئ الحاذق على محتوى ما يكتبون يجده عاديا ومكررا وليس به أي جديد الا ما ندر. هذا الإسراف يدفع الناقد والمتلقي إلى الملل والأحجام عن القراءة ، ويفقد الكاتب بريقه ولا يستطيع الإدهاش، ويبدأ بالغياب في الحضور والحضور في الغياب.