الكاتبة والسينمائية ناهد صلاح و الإعلامية مريم حميد وجهًا لوجه

– أنا ابنة الحكايات وخيالي صنيعتها.

– أمي فضلت أن تنزوي لأظهر أنا.

– أود أن يكتسب الإعلام العربي المهنية ويتخلص من التطبيل والتسفيه والنفاق والتضليل وتزييف الحقائق.

– جمال اللغة والكتابة لا يكتمل سوى بموضوعات تهتم بجوهر الإنسانية

– الكتابة بالنسبة لي هي فعل إنساني له خصوصيته

– لدي هوس بفكرة اللعب بالكلمات وتشكيلها بطريقة أقرب إلى الشعر

– أقف أنا عند المسافة الميتافيزيقية بين الشيء ونقيضه

– “دومينو”، الكتابة فيها كلعبة تبرز اللغة والصور كالعلاقة بين المرأة والرجل

 ///

بأجنحة شفافة  تنثر آلوان من تحتها آلوان/لا يليق بكتابتها غير الفن عنوان/ شيء من سحر الفراشة من جاذبية التفاحة/ وانسياب  من دكنة النيل  يتجسد في كتاباتها… إنها ناهد صلاح الكاتبة المصرية  التي نشأت وتربت في قرية (كوم الأطرون) بمحافظة القليوبية، واختارت الناصرية مذهبا سياسي، وبدأت مشوارها الكتابي من مجلة  المدرسة الإعدادية التي حصلت من خلالها على عدة جوائز من وزارة التربية  والتعليم  وبعد الثانوية العامة، ثم انتقلت للدراسة الأكاديمية وبدأت العمل بصحيفة روز اليوسف؛ ثم تنقلت بين صحف مختلفة مصرية وعربية  منها الأحرار والوطن الكويتية وآلوان اللبنانية والبيان الإمارتية والشروق القطرية وشاركت في تأسيس مجلة الجسر العربي التركي وشغلت منصب رئيسة مجلس إدارتها وعملت في مجال الإعداد التلفزيوني في قنوات عدة منها قناة الساعة الليبية وقناة  TRT التركية بما أنها من بلد  تنبع فنونا.. كان لها حكاية بل حكايات مع السينما وأبطالها  فتارة تنثر الحلاوة على أيامنا وتارة تروي لنا حواديت مصرية بامتياز فقدمت لنا: (سمير صبري حكايتي مع السينما) و(عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة)، و(محمد منير وحدوتة مصرية)، و(حسين صدقي الملتزم)، و(شويكار سيدتي الجميلة)، و(الفتوة في السينما المصرية)، و(الفلاحة في السينما المصرية)، و(دمينو مجموعة قصصية)، و(الحتة الناقصة حكايات افتراضية).. فإلى الحوار..

س://الحب وحده هل يكفي للكتابة عن السينما وهل تنطبق على العمل في هذا المجال عبارة مهنة المتاعب؟

ج:// مهنة المتاعب هي مهنة الصحافة وليست الكتابة السينمائية، ولقد حظيت بالاثنتين؛ فعملت بالصحافة واستحوذ عملي الصحفي على كل تفكيري ووقتي عن طيب خاطر، وأحببت السينما لدرجة الولع ومشيت في دروبها على مهل أبحث وأكتب، ما حقق لي ما رغبته دائماً في متابعة الأفلام ومتعة الحكي.

إذن فالحب هنا هو مدخلي لعالم السينما الرحب، وأظن أن هذا الأمر حُسم منذ طفولتي، حيث تعلمت عيناي أن تسبق شفتاي إلى أي كلمة مكتوبة منذ تعلمت القراءة، أية حروف مُركبة تمر أمامي، أتابعها ببطء كأنني أختزنها، كلمة على علبة سجائر أبي وصحيفته وعناوين كتبه والمصحف الكبير على المنضدة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة، زجاجات الأدوية، الملصقات على الثلاجة.

إدراكي البصري سبق إدراكي المعرفي وأشعل خيالي، فكنت أتصور حكايات وراء الكلمات وأتخيل شخوصها وكبرت لعبة الحروف، فكنت أقرأ الكلمات بحروف مقلوبة وبالتالي أقلب معها الحكايات؛ أتخيل النهاية أولاً ثم أسرد التفاصيل، بالضبط مثل الأفلام التي تبدأ بالمشهد الرئيسي وبعده تعود بنا إلى فلاش باك، كذلك اعتادت أمي أن تأخذنا في رحلة فلاش باك وتلون أمسياتنا بحكايات طفولتها وحين تأتي عند سينما سعودي تتوقف كثيراً، وسينما سعودي كانت صالة العرض الوحيدة في (طوخ) مدينتنا الصغيرة (كان يمتلكها جد الفنان فتحي عبدالوهاب)، يأخذها جدها وهي صغيرة إليها وكانت تستعد لهذا اليوم الذي تشاهد فيه شخوصاً مختلفين يتحركون على الشاشة غير الموجودين في حياتها وتتابع قصص وروايات تقمصتها فيما بعد وتقمصتني أنا أيضاً التي لم أشاهد سينما سعودي على الإطلاق، فالزمن تغير نسقه و”اتشقلب” حاله على طريقة نظرية الحراك الاجتماعي للمفكر د. جلال أمين في كتابه “ماذا حدث للمصريين؟”، مجروراً وراء منظومة السبعينيات الانفتاحية والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي والهجرة وما نتج عن ذلك من تشوه قيمي وسلوكي في كل مظاهر الحياة ومنها السينما، فأُغلقت سينما سعودي وتحولت واجهتها إلى مقهى شعبي تُجاورها محال تجارية تصدرتها صورة حسني مبارك (تم إزاحتها الآن) مُوازية لصورة السادات، بينما ظلت صورة عبدالناصر في ركن بعيد منزوِ بأحد المحلات.

المثير أنني دخلت السينما لأول مرة وكنت بالكاد أتممت شهرين من عمري، بصحبة أبي وأمي في دار عرض بمدينة الزقازيق حيث كان يعمل أبي في بداية مشواره المهني في أول السبعينيات، وكان الفيلم المعروض هو (أبي فوق الشجرة) وقالت أمي أنه عندما تلقى عبد الحليم حافظ صفعة عماد حمدي الشهيرة، انفعل الجمهور وكاد أن يحطم السينما بينما ظللت أنا أبكي بشدة.

لقد تم تعميدي سينمائياً في هذه السن الصغيرة، وكان فيلم “أبي فوق الشجرة” بالنسبة لي هو الأب الروحي وإشارة الولوج إلى هذا العالم الساحر وأنا الصغيرة التي لا تعِ شيئاً، والتي تحولت علاقتها بالسينما فيما بعد إلى مجرد مشاهدات للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل.

حتى لعبت الصدفة دورها ووقعت عيناي على مقال نشرته إحدى المجلات للناقد الكبير علي أبو شادي عن فيلم “الجوع” للمخرج علي بدرخان في العام 1986، كنت لا أزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها وقرأت مقال علي أبو شادي فتعلقت من خلاله بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يومها لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن مقال أبو شادي ظل طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح إهتمامي بالسينما وعالمها.

 

لن أتحدث عن مفاهيم عامة وأقدم تأويلات ونظريات عن الإبداع القصصي والروائي على إطلاقه، لأن الكتابة بالنسبة لي هي فعل إنساني له خصوصيته من حالة إلى أخرى،  يعني هي تتشكل حسب التجربة التي في الغالب هي التي تختارني؛ وكذلك يختارني إيقاع الكتابة.. فالإبداع القصصي والروائي عندي مرتبط بعناصر كثيرة؛ أهمها اللغة وبحرها الواسع، فلدي هذا الهوس بفكرة اللعب بالكلمات وتشكيلها بطريقة قد تكون أحياناً أقرب إلى الشعر، كذلك هناك التأمل والإمعان في التفاصيل ثم التحرر منها بالحكي والسرد والكتابة؛ كأن كل شيء في الواقع ينطق بضرورة الحكي، أرى “جوانتي طبي” مُلقى أمام مستشفى للولادة، فيسحبني خيالي إلى ما وراء هذا الـ”جوانتي” من قصص مفرحة وموجعة.. سيارة محطمة في الشارع، ما هي القصة الإنسانية وراء من كانوا بداخلها؟.. امرأة جميلة ومبهجة تختال بوشاحها الأحمر وهي تقطع الطريق، ما الذي يفعله وهج الأحمر في المارة والعابرين.. كل شي قابل للحكي، والحكي هو جزء متأصل في الوجدان.. حكايات وحواديت الجدات في الطفولة، قصص الصغار الملونة والأفلام التي نعيشها على الشاشة، وبمجرد أن تنتهي أحكيها للرفاق أو الأقارب.. أنا ابنة الحكايات وخيالي صنيعتها، وهذه الحكايات امتدت إلى الروايات المترجمة في مكتبة والدي، وأغلبها كانت تنتمي للأدب الروسي الكلاسيكي ، تولستوي ودوستوفيسكي ومكسيم جوركي، ثم روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهم، الحكايات تحيطني من كل جانب، والحكي هو الأساس سواء كان رومانسي أو اجتماعي أو تاريخي.. كان يدور حول فرد أو حول وطن، المهم هو أن يتسع أفق الحكايا وتصنع التفاصيل الصغيرة قصصاً كبيرة.

س://يقول الشاعر التركي ناظم حكمت لزوجته (كل كلماتك كانت رجالا)؛ من المرأة التي تهدينها هذه الجملة؟

ج:// إلى جدتي، نموذج المرأة المصرية القوية التي “تهندس” بعفوية حياة عائلتها بنسق قيمي يحقق أهم مباديء الفلسفة في الحق والخير والجمال، وهو ما جعلني أدرك حين أصبحت كاتبة أن جمال اللغة والكتابة لا يكتمل سوى بموضوعات تهتم بجوهر الإنسانية.

كانت جدتي تقول لي:”امشي بس بالراحة واوعي تدوسي أوي على الأرض، تحت التراب عضم اللي ماتوا”، ومع الفارق المباشر في التشبيه، لكنها كانت تريدني أن أصنع الجمال بالطريقة التي تسعدني دون أن أتخلى عن إنسانيتي.

تعاليم جدتي لم تخلُ من وجهها الحزين، فالحزن أصيل في ثقافتنا، ربما لأنه يجعلنا أكثر قرباً إلى الله، وهو من هذا الحزن؛ فالحزن أصيل في ثقافتنا، ربما لأنه يجعلنا أكثر قرباً إلى الله، وهو من هذا المنظور يبتعد عن السوداوية وليس له علاقة بحكايات الموت وحزن الأربعين يوماً التي كانت تُشيد فيها كل أبراج الحزن عند موت عزيزِ وغالِ والتي كرّست في ذاكرتي جزءً يخاف الفقدان والهزيمة، أسعى إلى الحب وأخشاه، وأفتش عن السعادة ومثل معظم المصريين أستغفر الله أكثر من مرة حين تصطادني نوبة ضحك!! كانت جدتي تُطيل في الصلاة كما تُطيل الوقوف أمام المرآة، تحضر الأفراح بنفس الاستعداد لحضور المآتم، لا تخاف الموت؛ لكن تصنع له جلاله، معادلتها الثنائية في مجتمع مزاجه ثنائي أو ازدواجي أو سموه ما شئتم، فيما أقف أنا عند هذه المسافة الميتافيزيقية بين الشيء ونقيضه، ما يناسب فعلاً شخصيتي الجوزائية نسبة للبرج الفلكي وللمجتمع الموزّع بين الفقر والزهو بالعراقة.

س://برأيك الكتابة باللهجة المصرية هل تؤثر على اللغة العربية وتؤدي إلى تراجعها؟ 

ج://الجدل حول هذه النقطة مازال مشتعلاً منذ الماضي بين كبار الكتاب، وأنا أرى أن استخدام العامية لا يؤثر في العربية الفصحى خصوصاً إذا استخدمت في مواضع معينة كالحوار بين الشخصيات مثلاً في نص روائي، وكذلك إذا تم الاستعانة بالأغنيات أو الأمثلة الشعبية، حتى يبدو السياق طبيعياً وليس مصطنعاً.

س://دائما ما نقارن بين الكتابة والحياة حضرتك تعدين الكتابة لعبة. ولو اعتبرنا الحياة لعبة فهل ستهون مصاعبها؟

قلت ذلك بالفعل عقب صدور مجموعتي القصصية “دومينو”، حيث تعاملت مع الكتابة كلعبة تبرز اللغة والصور التي ركزت فيها على لعبة أوسع كالعلاقة بين المرأة والرجل، فيما يشبه المد والجزر. وفي تقديري أن أخذ الحياة بجدية أكثر من اللازم هو أمر مرهق ويقصف الأعمار.

س://عندما نتكلم عن فناني الزمن الجميل نتكلم عن تركيبة من الأداء المتحد بين الجسد والعينين  والصوت مم تتكون تركيبة فناني اليوم وما هي الحلقة المفقودة في أدائهم؟

ج://ربما يرى البعض أن الأداء التمثيلي يحتاج ثورة، خصوصاً وأن كثيرين دخلوا الحلبة وصارت المنافسة على أشدها، لكني أرى أن هناك تطوراً في الآداء مع ازدياد ورش التمثيل التي تخرج منها المعظم، بل إن بعضاً من الممثلين الجدد وسيما الذين يتنافسون على النجومية يحاولون أن يحيطوا أنفسهم بثقافة فنية تتيح لهم التطور، وإذا كانت هناك حلقة مفقودة كما أشرت، فهي تخص الإنتاج وظروفه التي تأثرت بالمتغيرات السياسية التي حدثت في العالم العربي عموماً.

س://ما هو السبب وراء قلة المصادر والمعلومات عن الفنانين الراحلين برغم قصر المدة  الزمنية بين رحيلهم ووقت الكتابة عنهم؟

ج://السبب الرئيسي أنه لا يوجد أرشيف منظم سوى في أماكن محددة، وإن كانت متاحة للباحثين والصحفيين؛ إلا أنه هناك نوع من الاستسهال في نقل المعلومة، خصوصاً لو كانت متوفرة اليكترونياً على مواقع البحث، دون التدقيق فيها، حتى أنه إذا كانت هناك معلومة خاطئة فإنه يتم تناقلها وتكريسها لتصبح أمراً واقعاً، وهذا ينطبق بوضوح على تواريخ الميلاد مثلاً التي نقرأها متباينة دون تصحيح أو يقين منها لعيوب ربما تتعلق بالتوثيق أو بسلوك النجوم عموماً في إخفاء بعض الأمور وأهمها تاريخ الميلاد، وهذا يفسر التضارب الهائل لتواريخ ميلاد النجوم في العادة.

س://يقول المخرج الايطالي فيدريكو فلليني: (الأحلام هي الحقيقة الوحيدة في حياتي) من خلال تجربتك في الكتابة عن الشخصيات  السينمائية.. هل ترين أن هذه الجملة تمثل  العامل المشترك بين كل  الفنانين ومحبي السينما؟

ج:// لولا أحلامه ما صنع فلليني أفلامه المثيرة للجدل والخيال، ولولا الخيال ما كان محبي السينما تعلقوا بها وعاشوا تفاصيلها، بل وجعلوا حياتهم ذاتها تسير على نهج السينما، أي أن الحياة على مقاس السينما.

س://هل لك أن تحدثينا عن متعة الكتابة عن فنان لا يزال حي وأهم مميزاتها؟

هي بالفعل متعة تستدعيها حكايات الفنان التي يسترجع من خلالها ذكرياته، وتجعلني أشعر أنني قريبة من رمز للفرح والجمال والحنين كامل التكوين؛ كما يتبدى لي أن ثمة بشر خلقهم الله ليحرضونا على البهجة والتوهج الذي يسكن وجداننا ومخيلتنا، فأدرك أن سحر أي فنان أكبر وأعظم من صورته المشرقة أو نضارة إطلالته، لكن هناك أمور أخرى كالمناخ العام الذي تزامن مع ظهوره ورافقه في مشواره، المناخه بشقيه: الزمني والجغرافي. يعني، متى وأين ولد هذا الفنان؟ وكيف تكونت شخصيته الفنية والإنسانية؟ ومدى التفاعل بينهما وهكذا أفكار تدعم الرؤية المتحررة من الصورة التقليدية.

9س://هل توجد شخصية فنية تتمنين أن تكتبي عنها ولم تكتبي عنها بعد ومن هي؟

ج:// لدي طموح أن يكون هناك مشروع لكتب تتناول مسيرة رواد الفن الكبار حتى يتعرف عليهم الجمهور ويعرف جزءًا من تاريخ هذا الوطن وكيف صنع فنه وفنانيه، وذلك كجزء من مشروع ثقافي شامل يعيد ارتباط الناس والشارع بجذورهم الثقافية وتصويب اتجاهاتهم نحو التنوير، والقائمة طويلة لا تقتصر على فنان بعينه.

س://عملت في مجال الإعلام ما النقاط التي تتمنين أن يكتسبها الإعلام العربي وما هي النقاط التي تتمنين  أن يتخلص منها؟

ج:// أود أن يكتسب الإعلام العربي عموماً المهنية وأن يتخلص من التطبيل والتسفيه والنفاق والتضليل وتزييف الحقائق.

س://لمن تهدين زهرة اللوتس رمز العراقة والجمال المصري؟

أهدي زهرة اللوتس إلى أمي التي فضلت أن تنزوي لأظهر أنا. أمي التي علمتني أن “الحياة حلوة أوي في السينما.. السينما هي الجنة”، وكانت مصدري الأول في الحكايات الفنية وفي اكتشاف الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى