بالحبر الأبيض.. سيرةٌ صحفيةٌ (١٢)
علي جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراقية
الخروجُ من دكّان الحلّاق !
سألتُ الشاعر صادق الجلاد (صادق حمزة الجواري): لِمَ لمْ تقبل العرض الذي قدّمه لك الدكتور (جلال الماشطة) للعمل في جريدة ( النهضة)، برغم الراتب المغري الذي وعدك به، وفرصة مزاملة بعض أصدقائك مثل فائق بطي ، وعطا عبد الوهاب؟
رد عليَّ بسطرٍ، وحكايةٍ !
أمّا السطر، فقد قال: أرادوني مشرفاً لغويّاً، وأنا ليس عندي وقت.
وأمّا الحكاية، فرواها لي على طريقته اللذيذة، فقال: يُروى أنّ أحد الجرذان، كان يقيم في دكّان حلّاقٍ، وكان نحيلاً يشكو من نقص الغذاء ، فصادفه أحد الجرذان السمان ، وسأله عن حاله، فاشتكى الفقر، فدعاه إلى السكن معه في دكّانٍ للمواد الغذائيّة، فقبل الدعوة، ورافق الجرذ السمين إلى حيث حياة الترف، والوجبات الغذائيّة الغنيّة بالفستق، والجوز ، وأنواع الحبوب، والزيت، والسكّر، فقضى ليلةً مميّزةً أنسته ما عاناه من ضنكٍ، وفقرٍ طوال حياته. لكنَّه في اليوم التالي، سمع جلبةً، وحركةً غير اعتياديّة، فسأل عن ذلك؟ فقالوا له: لقد لقي أحد الأخوة الجرذان مصرعه !
سأل: وكيف حصل ذلك؟
أجاب أحد الجرذان الحكماء : برغم كلّ الخير الذي نجده، والحياة الرغيدة التي نحياها، فإن ما يُنغّص حياتنا أننا لا نعرف أيّاً منّا سوف يكون الضحية القادمة في المصيدة التي نصبها صاحب المحل!!
علّق صادق الجلاد قائلاً: سوف أظلُّ في جريدة (التآخي)، ولا يمكن أن أتركها، حتى لو جاء اليوم الذي لا يستطيعون فيه دفع الأجور؛ لأن الأخوة الكرد في الجريدة قدّروني،
ثم أردف: ألم يعد الجرذ إلى دكّان الحلّاق؛ ليلحس بقايا الصابون من سنّ موس الحلاق !!
يبدو أنّ إيراد هذا المثل، بشع للغاية لكنَّ دراسةً علميةً بثتها قناة الجزيرة يوم ٢٠٠٢/١٢/٥ م نقلاً عن :(وكالة رويترز) بيّنت: أنّ (مسودة الخريطة الجينيّة للفئران تظهر أنه لا يوجد فرقٌ كبيرٌ بينها، وبين البشر ؛ فلدى كلّ من الإنسان، والفأر ٣٠ ألف جين وراثي يشتركان في كثيرٍ منها، بينما تتماثل لديهما ٩٠ في المئة من الجينات المرتبطة بالأمراض.
وتقول الدكتورة جين روجرز من معهد ويلكم ترست سانجر بكمبردج في إنجلترا : إنَّ البشر يشتركون في ٩٩ في المئة من جيناتهم مع الفئران) !
وتأكيداً لهذا الكلام أنقل فقرةً من مقالٍ مترجمٍ بقلم مارتين فيفيج نُشر في صحيفة: “بيلد دير فيسنشافت” الألمانية يوم ٢٠١٧/٩/١٧ م جاء فيه:
( يقول هيلموت فوكس من عيادة الفئران في مركز هيلمهولتس بميونيخ في ألمانيا “ينتمي الفأر، والإنسان بيولوجيّا إلى الثدييات، وهذا ما يجعلهما متشابهين، حيث أن جميع الثدييات لها بنيةٌ أساسيةٌ مشتركةٌ تعتمد على معلومات العديد من الجينات الأساسية”.)
أمّا الفرق بين الجرذ، والفأر، فكلاهما من القوارض، ولكنَّ الفرق بينهما يكون في الحجم، وعذراً لخروجي عن الموضوع، ولكنَّ الحديث ذو فئران !
كان ذلك ضحى يوم السبت الموافق ٢٠٠٣/٦/١٤ م إذ دُعيتُ مع الناقد حسب الله يحيى، والشاعر صادق الجلاد إلى العمل في جريدةٍ جديدةٍ تُدعى (النهضة) للنهوض بمستوى الدخل؛ فقد أكرمتنا سلطة الإئتلاف بمنحة طوارئ قدرها عشرون دولاراً أمريكياً، فيما تسلّمتُ من جريدة (التآخي) راتبي الشهري، وهو مئة دولار أمريكي، ولابدّ من موردٍ آخر يسدُّ النقص في الإحتياجات، فكانت الإستجابة للعمل في جريدة (النهضة) التي يرأس تحريرها الدكتور جلال الماشطة، وهو من مواليد مدينة الحلّة بمحافظة بابل، ويحمل شهادتي الماجستير في الصحافة، والدكتوراه في العلوم السياسية التي حصل عليهما في موسكو، وساهم في ترجمة كثيرٍ من الأعمال الروسية في مجالي الأدب، والفلسفة إلى اللغة العربية، ويعد من الصحفيين المهنيين المتميّزين، فقد عمل في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وهيئة البث اللبنانية “ال بي سي”، وراديو سويسرا ، وتلفزيون أبو ظبي. وترأس مكتب جريدة الحياة في موسكو عشر سنوات :من سنة ١٩٩٣ م وحتى سنة ٢٠٠٣ م، وبعد سقوط النظام أصبح رئيسا لتحرير صحيفة (النهضة)، فرئيساً لشبكة الإعلام العراقي التي استقال منها، ثم عمل مستشارا إعلاميّاً، وسياسيّاً لرئيس الجمهوريّة جلال الطالباني حتى سنة ٢٠١٢ م حيث عين سفيراً، ورئيساً لبعثة الجامعة العربية لمكتبها في العاصمة الروسية، حتّى وفاته بسبب مرض في الكليتين في موسكو في ( ٢٠١٦/٤/٢٦ م).
وصلنا مبنى الجريدة الذي يقع في منطقة المسبح ببغداد، وكان المبنى حديثاً، وأنيقاً جدّاً.
جلسنا في قاعة الإجتماع التي يتوسّطها د. جلال الماشطة، ويتوزّع على الجانبين عدد من الأسماء الثقافية المعروفة، ومنهم نصير النهر، ونازك الأعرجي، والشاعر عبد الرحمن طهمازي، والشاعر أحمد الشيخ علي ، فضلاً عن مموّل المشروع الكاتب، والمترجم، والشاعر، والدبلوماسي عطا عبد الوهّاب(١٩٢٤ م ـ ٢٠١٩ م)، وهو دبلوماسي مخضرمٌ، وشاعرٌ، وكاتبٌ، ومترجمٌ .
حياته الطويلة جعلته يمرُّ بمحطاتٍ كثيرةٍ، فقد تخرّج في كلّيّة الحقوق في بغداد عام ١٩٤٤ م، ثمّ زاول العمل في القضاء، أولاً ثمّ انتقل الى وزارة الخارجية عام ١٩٥٥ م، وأصبح عضواً في مكتب العراق الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك. كما مثّل العراق في لجان الجمعية العامة، لا سيّما في اللجنة القانونية، ثمّ نُقل إلى السفارة العراقيّة في بيروت بدرجة سكرتير أوّل، ومن ثمّ جرى نقله الى الديوان الملكي في بغداد بمنصب السكرتير الخاص للملك فيصل الثاني، والأمير عبدالإله سنتي ١٩٥٧ م، و١٩٥٨ م، وقد اعتقل بعد الإطاحة بالحكم الملكي خمسةً، وخمسين يوماً ثم أفرج عنه ليظلّ صامتاً ثلاثين سنة، كما يروي ذلك في كتابٍ له عنوانه (الأمير عبد الإله.. صورة قلميّة) صدر في عمان سنة ٢٠٠١ م، ويكشف فيه شيئا من شخصية الوصي عبد الإله، فيقول : إنَّه كان دمثاً لم يقبل بإطلاق رصاصةٍ واحدةٍ دفاعاً عنه يوم ١٩٥٨/٧/١٤ م خشية إراقة الدماء ، وهو يبرئ الأمير عبد الإله من مقتل الملك غازي سنة ١٩٣٩م !
بعد خروجه من المعتقل نهاية سنة ١٩٥٨ م، بقي في بغداد يمارس مهنته ، وهي المحاماة . لكنّه اضطر إلى مغادرة العراق الى لندن سنة ١٩٦٨ م بعد إلقاء القبض على أخيه (زكي عبد الوهاب) : الوزير في العهد الملكي بتهمة العمالة للغرب، وإعدامه.
وفي زيارةٍ له الى الكويت قامت المخابرات العراقية باختطافه في عمليّةٍ نوعيّةٍ يورد تفاصيلها المثيرة في كتابه (سلالة الطين) ، لُيعذَّب تعذيباً شديداً في (قصر النهاية) الذي كان يعرف بـ(قصر الرحاب) العائد إلى الأمير عبد الإله، ويساكنه فيه الملك فيصل، ثمَّ يحكم عليه بعدها بالإعدام ، ليخفَّف الحكم إلى المؤبد، يقضي منها في السجن ثلاث عشرة سنة، ثمَّ يطلق سراحه بمكرمةٍ !
سألتُ صديقه الشاعر صادق الجلاد عن سرّ الكنية الغريبة للكاتب عطا عبد الوهاب وكانت (أبا لهب)!
فقال : كانت لعطاء في شبابه ميولٌ وأفكارٌ ضد الدين فلمّا رُزق بولده البكر سمّاه (لهب)، وحين سألته عن ذلك أجابني: لم أجد عدوّاً للإسلام مثل أبي لهب !
يضيف الجلاد: لكنَّ شدة التعذيب الذي لاقاه في قصر النهاية، فضلاً عن طول مدّة سجنه، وكثرة تأملاته أعادته إلى الإيمان بالله، ثمَّ صارت كنيته مشكلةً حقيقيةً لا تؤرّقه فحسب، بل تؤرّق ولده!
أصدر ديوان شعرٍ عنوانه (أعوام الرماد) كتبه خلال سنوات سجنه من عام ١٩٧٢م إلى سنة ١٩٨٢ م .
وكان من المترجمين العراقيين الكفوئين، فقد ترجم أعمال فرجينيا وولف، وقدّم الكثير منها، ومن أبرزها (السيدة دالاواي)، و(فلاش)، و(الأمواج) ، و(سيرة حياة) وترجم لحنا ارندت كتابها (في الثورة)، كما ترجم رواية فوكنر (نور في آب) وترجم للكاتب الأمريكي أرنست همنغواي روايته التي صدرت بعد موته سنة ١٩٦٤ م (عيدٌ متنقلٌ) التي حار النقاد في تصنيفها، فهي عبارة عن ذكريات سيرة ذاتية صيغت بشكل روائي، وفيها كشف همنغواي عن بعض أسرار الكتابة لمن تتصحّر قريحتهم عند الكتابة، فيقول : (ولكن يحدث أحياناً أن أشرع فى كتابة قصةٍ ما، ولا أتمكّن من التقدّم فيها، فكنت أجلس أمام النار، وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة على أطراف اللهب، وأشاهد الرذاذ الأزرق الذى تخلّفه، وأنهض، وأحدّق في سطوح باريس، وأقول لنفسي:
– لا تقلق. لقد كنت تكتب دوماً من قبل، وستكتب الآن، وكلّ ما عليك أن تفعله: هو أن تكتب جملةً حقيقيةً واحدةً. اكتبْ أصدق جملة تعرفها، وهكذا أتمكن أخيراً من كتابة جملةٍ حقيقيةٍ واحدةٍ ، ثم أواصل من هناك. لقد كان ذلك أمراً ميسوراً ؛ لأنَّ هناك دائماً جملةٌ حقيقيةٌ أعرفها، أو رأيتها، أو سمعت شخصاً ما يقولها).
وعطا عبد الوهاب هو أوّل سفيرٍ للعراق في الأردن بعد التغيير سنة ٢٠٠٣ م، والعضو المناوب للدكتور عدنان الباجه جي في (مجلس الحكم)، وهو الذي وضع المسودة الأولى لـ(قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية)!
ماذا دار في هذا الإجتماع، ومارؤية جلال الماشطة إلى الصحافة بعد التغيير النيساني في ٢٠٠٣ م ؛ بشأن الإنتهاكات التي حدثت زمن النظام السابق، وما سبب المشادة الكلامية بين نازك الأعرجي ، والناقد حسب الله يحيى؟
لطول المقام : سأُرجئ الحديث عن ذلك إلى الحلقة القادمة إن شاء الله ، على طريقة تعذيب القنوات الفضائية في الفواصل الإعلانية .. (فاصلٌ ، ونواصل) !!
(السيرةُ مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)
شروح صور
١. د. جلال الماشطة
٢. عطا عبد الوهاب
٣. صادق الجلاد
٤. أرنست همنغواي