تعب كلها الحياة

ا.د. / رأفت عبد الباسط محمد قابيل أستاذ علم النفس الاكلينيكي بكلية الآداب بجامعة سوهاج – مصر

   يعد الآلم والمعاناة شرط وخاصية من خواص الوجود الإنساني حيث يبدأ الإنسان حياته بصرخة أسماها البعض بصرخة الميلاد، وكأنهم يقصدون بالميلاد هنا ميلاد، وباكورة ألام ومعاناة الإنسان وقلقه، فهي إذن صرخة ميلاد المعاناة والألم تصديقاً، وتأكيداً لما جاء في سورة البلد ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ” (أية 4).

   فالإنسان يبدأ حياته ووجوده بمعاناة خروجه من رحم أمه حيث الاحتواء والدفء والأمن والأمان، ودخول أول ذرة من هواء الأكسجين إلى رئته مسببا شعوره بالضيق، والانزعاج، معبراً عنه بصرخة تشير إلى باكورة قلقه وخوفه من هذه الحياة الموحشة، وما سوف يصادفه من أهوال وأحداث في هذه الحياة.

   ويتجدد هذا القلق والخوف مع اقتراب الطفل من ساعة الفطام منذرة ببداية مرحلة أخرى من المعاناة والآلام الناتجة عن انفصال الطفل عن أمه، وعن صدر أمه الذي يعد مصدر الاحتواء والحنان والدفء والطمأنينة، وتستمر هذه المعاناة إلى أن يتعود الطفل على نظام جديد في التغذية يعتمد على مأكولات تحتاج فقط إلى البلع لعدم وجود أسنان، ويستمر الأمر هكذا إلى أن يدخل الطفل مرحة ثالثة من المعاناة تسمى مرحلة التسنين، التي تبدأ فيها ظهور أسنان الطفل الأولى التي تسمى بالأسنان اللبنية، وما يصاحب هذا من مشاعر ألم وانزعاج بسبب تورم والتهاب اللثة، وما يصاحب هذا من قلة النوم، وفقدان الشهية، والرغبة في العض، وكضم أي شيء في متناول يد الطفل في محاولة للتخفيف من ألامه ومعاناته.

   وتستمر معاناة الإنسان مع استمرارية وجوده في الحياة، ومحاولات تكيفه، وبقائه في هذه الحياة باحثاً عن معنى وقيمة لحياته تجعل من معاناته دافعاً لتحقيق ذاته، وإعلان عن وجوده الإيجابي المثمر، فلولا معاناة طبيب الأعصاب النمساوي “فيكتور فرانكل” لما ألف كتابه الشهير (الإنسان يبحث عن المعنى) -وهو في ظل معاناة سجون النازية -والذي تحَدث من خلاله عن معاني عميقة لم يسبقه أحد إليها، وكذلك الحال للموسيقار الألماني العظيم “بيتهوفن” فلولا معاناته مع الصمم في أخر حياته لما سمعنا له أجمل مقطوعاته الموسيقية.

   وفي بيئتنا العربية نجد معاناة أديبنا عميد الآدب العربي الحديث، ورائد التنوير ” طه حسين” الذي عانى منذ صغره من فقدانه لحاسة البصر، وإصابته بالعمى إلا أنه لم يستسلم، واستطاع أن يتغلب على الكثير من العقبات والصعاب والمشكلات التي واجهته حيث استطاع أن يحصل على درجة الدكتوراه عن أطروحته عن الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري الذي قال في أحد أشعاره ” تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغبِ في ازدياد”، ثم جاءت مؤلفات طه حسين متنوعه منها الرواية، و القصة، والمقالة، ومن روايته قصة حياته ” الأيام ”  التي كتبها بأسلوب قصصي وترجمت للغات كثيرة، وانتشرت في انجلترا مرتين مره في سنة 1932 بعنوان “طفولة مصرية”   An Egyptian Childhood ومره سنة 1943 بعنوان “مجرى الأيام The Stream of Days “، من مؤلفاته المهمة أيضاً  في الأدب الجاهلي، وفي الشعر الجاهلي، ونظام الأثينيين، ومستقبل الثقافة في مصر، و ” حديث الاربعاء” وهى مجموعة مقالات متجمعة،و رواياته: دعاء الكروان ، و شجرة البؤس .  

   وتتشابه معاناة طه حسين مع معاناة عالمنا الجليل صلاح مخيمر حيث فقد بصره أثناء مشاركته في الحرب العالمية الثانية، وكان وقتها ضابطا بالقوات المسلحة برتبة ملازم أول، وكان بإمكانه الاكتفاء بهذا القدر من خدمة الوطن، وأن يكتفي بهذا التاريخ العسكري، لكن ما وصل إليه بعد ذلك وما قام بإنجازه في مجال علم النفس يدل على أنه شخصية استثنائية، أراد أن يكون شخصا صانعا للتاريخ، وأن يحفر اسمه في تاريخ تطور العلوم والعلماء المصريين، فقد بلغت جملة مؤلفاته وكتبه وترجماته نحو أربعين مصنفا في مجالات علم النفس النظري والتطبيقي، وفقد انتشر اسمه في كل الدول العربية.

   فقد التحق أستاذنا صلاح مخيمر في عام 1945 بكلية الآداب، وتخصص في علم النفس، ولم يكن هذا كل طموحه فقد سافر إلى فرنسا لدراسة علم النفس والتحليل النفسي والحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وهو بذلك حصل على أرقى الشهادات في مجال تخصصه وهو علم النفس، وكما فعل الدكتور طه حسين في فرنسا عندما قابل زوجته ومعينته “سوزان”، فقد قابل الدكتور صلاح مخيمر زوجته “سامية القطان” التي كانت خير معين له، والتي أصبحت فيما بعد عميدة كلية التربية جامعة بنها، فقد كانت هاتان السيدتان سببا في صنع علماء أناروا الطريق وضربوا حصار اليأس، وهزموا ما يسمى لدى العامة بالمستحيل، ومن الصدف أيضا أن الدكتور طه حسين والدكتور صلاح مخيمر من محافظة المنيا.

   رحم الله هذا العالم الذي ترك الأثر الكبير بعد رحيله في مؤلفات يعجز أحدٌ عن وصفها، وتحديد قيمتها، وفي تراجم من الكتب النفسية يصعب حصرها، وبحوث لها الأثر إلى هذا اليوم ومنها ما يتعلق بأحلام المكفوفين، ومن كتبه نذكر: نظرية الجشطلت وعلم النفس الاجتماعي، علم الاجتماع عند ماركس الشاب لجريفتش، سيكولوجية الإشاعة لأولبورت وبوستمان، المدخل إلى الصحة النفسية، نظرية التحليل النفسي في العصاب لأوتوفينخل(3 أجزاء)، الأنماط الانفعالية للمكفوفين، تاريخ تأهيل المكفوفين، مقالات الاشتراكية في دوائر المعارف العلمية، مقدمة في العلاج السلوكي عند ديفيد مارتن، المجال الفيزيائي والمهني للمكفوفين، لعمى (رعاية المكفوفين) للأب كارول، في مجال الحياة الوجدانية الاجتماعية للمكفوفين، سيكولوجية الشخصية: دراسة الشخصية وفهمها، سيكولوجية الشخصية لتوتكات، خمس حالات من التحليل النفسي لسيجموند فرويد (جزءان)، الدعاية السياسية لدومنياك، سيكولوجية المرأة لماري بونابارت، المدخل إلى علم النفس الاجتماعي.

   وقد شرفت أنا شخصياً بأن تتلمذت على يد الأستاذ الدكتور صلاح مخيمر يوم أن كنت أدرس بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة الزقازيق في السنة التمهيدية للماجستير، وقد فوجئت به عندما توجه لي بسؤال مباشر ذاكراً اسمي وصفتي باعتباري أول دفعتي: ما الفرق بين التعزيز (أو التدعيم) عند “بافلوف” حيث الاشتراط الكلاسيكي، والتعزيز (أو التدعيم) عند “سكنر” حيث الاشتراط الإجرائي؟، ومن هول المفاجأة عجزت عن الكلام، وتوقف تفكيري للحظات، ولكن في حضرته وأستاذيته، وقدرته على الاحتواء ساعدني على استرداد وعي، وثقتي بنفسي، ومنذ هذه اللحظة وإجابة هذا السؤال محفورة في ذهني، لم ولن أنساها أبداً.

   إن معاناتك مع الأخرين تكمن في الأساس في تصوراتك بأنك متفوق عليهم، وأنك أكثر وأكبر قدر منهم، وإنك قيمة، وقامة من الصعب أن يصل إليها الأخرون، وإنك وحدك الذي تستطيع، إننا يا سادة أمام “أنا” تعاني، “أنا” مريضة تجهل حقيقة أن الإنسان سيكون، وسيبقى دائماً أقل من بعض الناس، وأكثر من البعض الأخر في نفس الوقت.

   وجدير بالذكر إن التعامل مع الأخرين بشفافة، وحب، وإخلاص، وتعاون، وبدون تعالي وكبر وتكبر، مع إنكار للذات في بعض المواقف، وعدم التركيز فقط على المصالح الذاتية من شأنه أن يخفف من معاناة الإنسان وتعاسته في الحياة، ويجعله يعيش حالة من التصالح مع الذات والأخرين، والسلام الداخلي، والرضا، والسعادة، والانسجام، والاتحاد مع الأخرين.

   وعلى النقيض نجد الأشخاص الذين يتعاملون مع الأخرين بتعالٍ وتكبر ومكر وخبث، وعدم شفافية، وتعمد إخفاء معلومات هامة تخص سير الأعمال، بالإضافة إلى محاولات التقليل من قدر الأخرين، وقدر ما يقومون به من أعمال، والعمل على تشويه صورتهم في حالة ما أصبحوا أكثر نجاحاً أو حصلوا على تقدير أعلى، لا شك أن هؤلاء يخلقون لأنفسهم ولغيرهم جو ومناخ غير صحي من شأنه أن يسبب الكثير من التوترات والصراعات، ويزيد من كتلة المعاناة والالم داخل النفوس، وعدم الشعور بالرضا وراحة البال.

   في الحقيقة، ليس أمامنا – في ضوء ادراكنا بأن المعاناة هي شرط وخاصية وجودنا الإنساني -من خيار سوى التركيز على نمتلكه من قدرات للتخفيف من حدة معاناتنا، والتي يأتي في مقدمتها الثقة بالنفس، والقدرة على الحب، والنظر للمعاناة نظرة إيجابية بوصفها دافعاً لتحقيق أهدافنا في الحياة، بالإضافة إلى تجنب الأفكار والمشاعر السلبية التي قد تكون السبب الحقيقي لمعاناتنا باعتبار أن الإنسان هو الذي يصنع معاناته وتعاسته، وليست الأحداث الخارجية التي تحدث في بيئته هي السبب الحقيقي لتعاسته، فالعبرة بكيفية إدراك تلك الأحداث والتفاعل معها، فالأحداث في حد ذاتها ليست المسببة لمعاناتنا، وإنما إدراكنا وطريقة تفاعلنا مع تلك الأحداث هي المسبب الحقيقي لتلك المعاناة.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى