تأملات في الشأن العراقي.. الواقع السياسي والاجتماعي
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق
شغلَ الشأن العراقي منظومات بحثية محلية وعالمية وبمستويات متنوعة (سياسية، واقتصادية، واجتماعية) وفق أيديولوجيات لها رؤى ميتافيزيقية؛ كون الباحث في الفلسفة وعلم النفس السياسي يمتلك جانباً عميقاً بالماضي ممّا تستند تحليلاته إلى مواقف منصهرة بالتجربة الاجتماعية المنبثقة من صيرورة التاريخ . ويبدأ بتفكيك السرد التاريخي واللحظة الانفعالية ثم يبين رؤيته الاستشرافية لما سيكون عليه المستقبل السياسي الخاص بالدولة ، وهذا ما نجده عند المفكر والباحث كامل شياع في كتابه (تأملات في الشأن العراقي) الصادر عن دار المدى عام 2019 إذ درس المؤلف فيه قضايا تخص الواقع السياسي والاجتماعي في العراق وعلى مرّ أعوام طويلة بشكل مقالات نُشرتْ في صحف عديدة أهمها صحيفة الحياة اللندنية ومجلة الثقافة فضلاً عن دراسات بشكل مواد بحثية.
فقد تعمق المفكر في القضايا العراقية منذ عام 1990 إلى عام 2007 ويمكن أن نقسم رؤاه الفلسفة السياسية إلى قسمين أحدهما قبل التحول السياسي في العراق قد ناقش قضية الحرب العراقية الإيرانية وماذا أضافت إلى الدكتاتور القائد، وغزو الكويت وحرب الخليج ، والآخر العراق بعد 2003 وأهم ما نذكره أن الباحث كامل شياع كانت له رؤية ذات استشراف مستقبلي لنهاية الرئيس السابق (صدام حسين) ولا سيما أن حرب الخليج هي النهاية الحتمية له إذ يقول عن الدكتاتور وانتصاراته الموهومة مستشرفاً بزواله في موضوعة عنوانها الصورة الكلمة الخرافة كتبه عام 1991 ((إنَّ انتصار البطل على حلبة المصارعة لا يعفيه من إمكانية الانهزام في حلبة الحياة ، ولكن الهزيمة الواقعية لا تقلل من عنصر الاعجاب المجرد بالبطولة.
فقط البطل المستعد للمنازلة دائماً يمكنه أن يهزم وعندئذ يكون على الجمهور أن ينتظر نصره الساحر في يوم قريب قادم.
إن النصر المطلوب بأي ثمن كان إما يترتب على الفشل في بلوغه أمر ثانوي حتى لو كلف دمار وطن وشعب أكمله.. ص 27)) ويقول في موضع اخر من الكتاب عنوانه ممكنات انتصار عراقي واوهامه((السياسية الأمريكية التي تتمسك بالحصار كوسيلة لتحقيق مآرب سياسية معلنة وغير معلنة.. ص 69 )).
لا يمكن القول إنَّ رؤية الباحث كانت عبارة عن تكهنات؛ لأنه بهذه الرؤية فسر وحلل لما سيكون عليه النظام من سقوط وانهيار وكذلك تأمله في حالة الدكتاتور العربي صدام حسين الذي صنع لنفسه رمزية البطل القومي عند العرب ولا ننسى أنه ـــ الدكتاتورـــ استغل الحرب ضد إيران بحجة الدفاع عن العرب ضد الفرس والقضية الفلسطينية ممّا جعلته يهيمن على عرش الأمة، فكامل شياع انطلقت رؤيته ذات الاستشراف بسقوط الطاغية والنظام الشمولي من منطلق تاريخي يعود إلى فلسفة الانتصارات السريعة التي يحققها القادة الدكتاتوريين عبر التاريخ كهتلر الذي لم يلبث إلا وزال وقديما يمكن أن نعود إلى الملك قلاوون الذي أصابه الغرور بسبب انتصاراته وفرض طغيانه والذي قتل فيما بعد، والتاريخ الاسلامي حافل بالخلفاء الطغاة.
فالنظرة المستقبلية للباحث انطلقت من إعادة الحدث التاريخي وفق شخصيات متوافقة مع طبيعة العصر الحديث. كما وقف المفكر شياع عند مسألة (الوطنية) في العراق ونرى رؤيته لها كانت متغيرة حسب التغير السياسي إذ كانت قبل سقوط النظام، حيث إنَّ الوطنية في السابق انطلقت من فكرة الولاء للقائد ــ إذ هي في الأصل الولاء للوطن ـــ وهذه الفكرة زرعها النظام في أذهان الشعب اذ يقول الباحث ((فالسلطة في بغداد كانت تنطلق من الأمر الواقع كونها مسؤولة عملياً ومعنوياً عن حماية بلد تهدده قوة خارجية تفسيرها الخاص للوطنية هو تفسير سلطوي ضيق يقصر الولاء للوطن على الولاء للحاكم المستبد أو لحزب شمولي بوليسي.. ص75 )).
ولنقف قليلاً عند هذه القضية (الوطنية) ففي الأنظمة الشمولية التي تحكم الدول تفرض هذه الأنظمة بفرض ايديولوجيتها على كلِّ المؤسسات ، وفي العراق قد فُرضَ عليه أيديولوجية الحزب والقومية ولم يلبث الّا وأن تحول الولاء الوطني للحزب الحاكم فرضاً فأصبحت الهوية العامة للمواطن هي هوية الحزب ذاته وأُطرت بإطار الهوية الوطنية لتخدع سذّاج العقول، ثم قام قائد الحزب فيما بعد بفرض الولاء له شخصياً من بعد إقصائه لباقي الهويات الأخرى.
إذن النظام الشمولي في العراق قد ابتكر هوية مغلقة تحمل اسم الوطنية وتضمر أيديولوجية القائد الدكتاتور، وفي التسعينات صارت هوية الدكتاتور وايديولوجيته القبلية هي هوية العراق الوطنية.
وبعد عملية التحول السياسي عام 2003 شاع الشعور الوطني بشكل مختلف اذ نظر العراقيون إلى الوجود الاميركي على أنه احتلال أو استعمار فهذا الشعور لم يلبث الا وتحول إلى صراع حسب رؤية كامل شياع فيقول: ((والمواقف من مسألة الوطنية يتصل بها اتصالاً وثيقاً بتحديد الهوية الوطنية التي تتعدد حولها الإجابات فهناك من ينظر إليها من زاوية حضارية ومن ينظر إليها من زاوية سياسية او فكرية.. والصراع الجاري حالياً في العراق بين قوى دينية وطائفية وقومية بينها وبين الوجود الاميركي في جوهره صراع على مسألة الوطنية ص 150 )).
لا بد من القول إنَّ الهوية في تغير مستمر فهي نقيض الثبات، ودائمة الاتساع والهوية الوطنية بعد 2003 حاول العراقيون تأسسيه قد باء بالفشل؛ بسبب صراعين السياسي والديني كون الثاني وفكره قد رفض المجتمع المدني والديمقراطية فتوجه المواطن إلى التمسك بالهوية الدينية والطائفية والاثنية، فالباحث شياع كان يرى أن مشروع الوطنية لا يتم الا وفق مجتمع مدني والهوية قد انحسرت بين القديم الحضاري والحديث الاسلام السياسي وهذا الاخير له مصالح مضمرة لهذا قامت بتقسيم العراق إلى مناطق ذات هويات مغلقة ، فبعد 2003 بقدر ما تحررت الهوية نراها قد ضاقت وابتعدت عن المركزية.
ممّا تقدم أرى أن كتاب تأملات في الشأن العراقي قد طرح الكثير من القضايا بوجهة نظر جديدة وعميقة ولا سيما فيما يخص المجتمع المدني والعراق في الحرب الطائفية وما هي الحلول للخروج من أزماته وسعى الباحث إلى تحرير المواطن من الروح التسلطية .